إضراب عن الشراء يهدد الأسواق العالمية
هوية بريس – وكالات
يُظهر التاريخ أن تقليص المستهلكين للإنفاق التقديري يشكل خطرًا جسيمًا على الأسواق، إذ بلغ التضخم في الولايات المتحدة أعلى مستوياته منذ 40 عامًا، بيد أن مداخيل الأسرة المعيشية، في ظل ارتفاع الأسعار، شهدت تراجعًا بوتيرة لم يسبق لها مثيل منذ أن بدأت الحكومة في جمع البيانات عام 1959.
وفي مقال نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times) البريطانية، تقول الكاتبة رنا فوروهار إن ذلك يرجع إلى ارتفاع تكلفة الغذاء والوقود والمساكن بشكل كبير، حيث لا تظهر أسعار السلع أي علامة على الانخفاض كثيرًا في أي وقت قريب، وذلك جراء الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا، في حين أن أسعار سوق الإسكان المقيدة بشدة في الولايات المتحدة قد تظل في مستوى أعلى من المعتاد خلال السنوات القليلة المقبلة، حتى في ظل ارتفاع أسعار الفائدة.
إضراب شراء
وتبين الكاتبة أنه حسب تقرير حديث صادر عن شركة “كيرنسي ريسيرتش أسوشيتس” (شركة إستراتيجية مالية تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها) فإن هناك أدلة قوية على ظهور “إضراب شراء” عالمي، حيث بدأ المستهلكون في جميع أنحاء العالم في خفض إنفاقهم على الأشياء التي لا يحتاجونها.
وتشير الكاتبة إلى أن هذه الظاهرة تبدو جلية في البلدان النامية، حيث أدى الارتفاع الحاد في أسعار المواد الأساسية (التي تكون أكثر تكلفة عند تسعيرها بعملات تشهد انخفاضا حادا في قيمتها) إلى انقطاع التيار الكهربائي وانعدام الأمن الغذائي، وما يرقى إلى “إزالة” مئات الملايين من الناس من الاقتصاد الاستهلاكي العالمي.
وتلفت الكاتبة إلى أن البلدان الغنية تعاني الظاهرة ذاتها، حيث يدين سكان نيويورك ونيوجيرسي بأكثر من 2.4 مليار دولار لشركات الخدمات العامة، وتحذر بعض المدن من انقطاع التيار الكهربائي إذا لم يتم دفع الفواتير، كما بدأت الشركات في تعديل توقعاتها الخاصة للإنفاق، فقد ارتفعت أسعار السيارات المستعملة أكثر من السيارات الجديدة في الولايات المتحدة لبعض الوقت.
وأواخر مارس الماضي، أعلنت شركة “آبل” (Apple) عن خططها لتقليص إنتاجها من “آيفون إس إي” (iPhone SE) بنسبة 20%، لأن الحرب في أوكرانيا وارتفاع التضخم أدى إلى تقليص الإنفاق الاستهلاكي في جميع أنحاء العالم، كما انخفضت الطلبات الخاصة بسماعات “إيربودز” (airpods).
وحسب الكاتبة، فقد أعلنت “نتفليكس” (Netflix) الأسبوع الماضي أنها خسرت عددًا أكبر من عملاء البث أكثر مما سجلته في الربع الأول، وهو أول تراجع للشركة منذ عقد من الزمان، وأدى الانخفاض في سعر سهم خدمة البث المباشر بنسبة 35% بعد الإعلان إلى انخفاض مؤشر “ستاندارد آند بورز” (S&P).
قلق عالمي
وما يعد مثيرًا للقلق أن أي شيء يمكن للناس التخلي عنه، بدءًا من تناول الطعام في الخارج مرورًا بالعطلة الصيفية والملابس الجديدة والأجهزة المنزلية والسيارات أو الأدوات، قد يتضرر إذا ظلت تكاليف الطعام والوقود والسكن (في أماكن مثل الولايات المتحدة) مرتفعة.
وفي الوقت الذي يعيش فيه 60% من الأميركيين على الرواتب لدفع نفقاتهم ويعانون هذه الوضعية، إلا أن هناك مؤشرات على أن الأشخاص الأكثر ثراءً أصبحوا قلقين بشأن الإنفاق الزائد، فقد أظهر أحد الاستطلاعات الأخيرة أن أكثر من نصف أولئك الذين يكسبون 100 ألف دولار أو أكثر سنويا باتوا يتناولون الطعام في الخارج بشكل أقل، وأن ثلثهم تقريبًا قلصوا من دفع اشتراكات التوصيل والسفر والاشتراكات الشهرية.
وتساءلت الكاتبة عما إذا كان يمكن وصف هذه الحالة بتأثير الدومينو إذا اصطدم انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وارتفاع تكاليف المدخلات الخام وانخفاض أسعار الأسهم مع ارتفاع أسعار الفائدة والشركات المثقلة بالديون أكثر من أي وقت مضى، حيث يقول أولف ليندال، المدير التنفيذي لشركة كيرنسي ريسيرتش أسوشيتس، إنه سيكون من الحكمة أن ينظر المستثمرون إلى ما حدث خلال فترات ماضية من انخفاض الدخل ونمو الإنتاج، وخاصة بين سبتمبر 1937 ويونيو 1938.
ففي ذلك الوقت، وبعد أن بلغت الأسعار مستويات الذروة خلال مناسبتين، تراجعت أسعار الأسهم بنسبة 40% في 3 أشهر، وقد درس هذه الفترة الاقتصادي كينيث دي روز بالتفصيل في كتاب له تحت عنوان “اقتصاديات الركود والنهضة”، حيث أوضح أنه بينما كان من الصعب استخلاص الأسباب الدقيقة للانهيار، فقد ارتفعت أسعار البيع بالجملة في وقت كان المستهلكون لا يزالون يراقبون عن كثب الركود ويشعرون بالقلق بشكل متزايد بشأن تأثير المشهد الجيوسياسي في العالم.
استياء متجدد
من الواضح أن هناك أوجه تشابه مثيرة للاستياء مع الصورة الاقتصادية والجيوسياسية العالمية اليوم، إذ إن العالم يشهد تراجعًا في الاستهلاك وارتفاعًا في الأجور ومعدلات التضخم، ناهيك عن اندلاع الحرب في أوكرانيا والارتفاع الشديد في أسعار الفائدة، كما أن عوائد سندات الخزانة الأميركية الحقيقية لمدة 10 سنوات على وشك أن تصبح إيجابية للمرة الأولى منذ الجائحة، مما يمنح المستهلكين سببًا آخر للادخار أكثر وللإنفاق بشكل أقل، كما أنه سيجعل ديون الشركات أكثر تكلفة، ويعرض مصير العديد من الشركات للخطر.
وخلصت الكاتبة إلى القول بأن الأمر يبدو كما لو أننا نقترب من نقطة تحول رئيسية في الأسواق، إذ إن سلاسل التوريد آخذة في التحول، والصراعات تزداد وأنظمة العملات تشهد تغيرات، وكل هذا يحدث في وقت توشك فيه السياسة النقدية على عبور نقطة اللاعودة مع ارتفاع أسعار الفائدة والتشديد الكمي.
المصدر: فايننشال تايمز+الجزيرة.