ماذا فعل السلطان عبد الحميد الثاني لحماية وتوحيد الأمة؟ (كلمات إنصاف بحق السلطان المفترى عليه)
هوية بريس – د. علي محمد الصلابي
تكررت الإساءات لهذه الشخصية والقامة الإسلامية الرفيعة في وقتنا الحاضر، ونقصد هنا شخصية السلطان العثماني المصلح عبد الحميد الثاني. فكلما خطر على بال أحدهم أن يُبرر هزيمته أو عجزه ردّ أسباب ذلك إلى آخر حاكم صان الأمة وحفظ حدودها ودافع عن دينها ضد أعداء الأمة في شرقها وغربها، وكلما خاص السياسيون في تركيا والعالم العربي سجالات حزبية أو تنافسوا في انتخابات دورية، قالوا بأن السلطان عبد الحميد سبب في الضعف وتمزق هذا البلد أو ذاك، وهو افتراء وتضليل وسطحية في قراءة التاريخ وسنن التبدل الحضاري. فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني؟ وما هو دوره في حماية وتوحيد الأمة الإسلامية في دولة قوية واحدة رغم كل التحديات التي واجهها في فترة حكمه؟
السُّلطان عبد الحميد هو السُّلطان الرَّابع والثَّلاثون من سلاطين الدَّولة العثمانيَّة. تولَّى عرش الدَّولة وهو في الرَّابعة والثَّلاثين من عمره؛ إِذ ولد في 16 شعبان عام 1258هـ (1842م).
ماتت والدة السُّلطان عبد الحميد وهو في العاشرة من عمره، فاعتنت به الزَّوجة الثَّانية لأبيه، وكانت عقيماً، فأحسنت تربيته، وحاولت أن تكون له أمَّاً، فبذلت له من حنانها، كما أوصت بميراثها له. وقد تأثَّر السُّلطان عبد الحميد بهذه التَّربية، وأعجب بوقارها، وتديُّنها، وصوتها الخفيض الهادئ، وكان لهذا انعكاسٌ على شخصيَّته طوال عمره.
تلقَّى عبد الحميد تعليماً منتظماً في القصر السُّلطاني على أيدي نخبةٍ مختارةٍ من أشهر رجالات زمنه علماً، وخلقاً. وقد تعلَّم من اللُّغات العربيَّة، والفارسيَّة، ودرس التَّاريخ، وأحبَّ الأدب، وتعمَّق في علم التَّصوُّف، ونظم بعض الأشعار باللُّغة التُّركيَّة العثمانيَّة. (السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، محمَّد حرب، ص 31).
وتدرَّب على استخدام الأسلحة، وكان يتقن استخدام السَّيف، وإِصابة الهدف بالمسدَّس، ومحافظاً على الرِّياضة البدنيَّة، وكان مهتمَّاً بالسِّياسة العالميَّة، ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعنايةٍ فائقةٍ، ودقَّةٍ نادرةٍ.
والحقيقة، هو آخر من امتلك سلطة فعلية في إدارة شؤون العالم الإسلامي في الدولة العثمانية، وحكم بين عامي (1876 و1909م).
أولاً: دور السلطان عبد الحميد في إبطال مخطَّطات الأعداء
شرعت بريطانيا منذ الرُّبع الأوَّل من القرن التَّاسع عشر في تحريض الأكراد ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، بهدف إِيجاد عداءٍ عثمانيٍّ كرديٍّ من ناحيةٍ، وانفصال الأكراد بدولةٍ تُقتطع من الدَّولة العثمانيَّة من ناحيةٍ أخرى.
وعندما قامت شركة الهند البريطانيَّة؛ زاد اهتمام الإِنجليز بالعراق، وقامت على العمل لإِيجاد حركةٍ قوميَّةٍ بين الأمراء، وتجوَّل مندوبون بريطانيُّون بين عشائر الأكراد في العراق في محاولةٍ لتوحيد العشائر الكرديَّة ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، وكانت المخابرات العثمانيَّة تتابع الأمور بدقَّةٍ متناهيةٍ، ووضع السُّلطان عبد الحميد خطَّةً مضادَّةً للعمل التَّدميريِّ الإِنجليزيِّ، فقام بالتَّالي:
-قامت الدَّولة العثمانيَّة بحماية المواطنين الأكراد من هجمات الأرمن الدَّمويَّة ضدَّهم.
-أرسل إِلى عشائر الأكراد وفوداً من علماء المسلمين للنُّصح، والإِرشاد، والدَّعوة إِلى الاجتماع تحت دعوة الجامعة الإِسلاميَّة، وأدَّت هذه الوفود دورها في إِيقاظ الأكراد تجاه الأطماع الغربيَّة.
-اتَّخذ السُّلطان عبد الحميد إِجراءاتٍ يضمن بها ارتباط أمراء الأكراد به، وبالدَّولة.
-أسَّس الوحدات العسكريَّة الحميديَّة في شرق الأناضول من الأكراد، للوقوف أمام الاعتداءات الأرمنيَّة.
-كان موقف الدَّولة قويَّاً ضدَّ أطماع الأرمن في إِقامة دولةٍ تُقتطع من أراضيها، وبذلك شعر الأكراد المقيمون في نفس المنطقة بالأمان. (السُّلطان عبد الحميد الثَّاني،ص 132).
-عملت الدَّولة على كشف مخطَّطات الإِنجليز الهادفة إِلى تفتيت الدَّولة العثمانيَّة تحت مسمَّى حرِّيَّة القوميَّات في تأسيس كلِّ قوميَّةٍ دولةً مختصَّةً بها.
استطاع السُّلطان عبد الحميد أن يضيِّق على النُّفوذ البريطانيُّ في اليمن، ويحقِّق نجاحاً ظاهراً في صراعه مع الإِنجليز في تلك المنطقة، فقد أنشأ فرقةًعسكريَّةً في اليمن قوامها ثمانية الاف جنديٍّ، لإِعادة اليمن إِلى الدَّولة العثمانيَّة مَرَّةً أخرى، ووصل اهتمامه باليمن إِلى إِرسال مشاهير قادته ليقودوا هذه الفرقة مثل (أحمد مختار باشا) و (أحمد فوزي باشا) و(حسين حلمي باشا) و(توفيق باشا) والمشير (عثمان باشا) و(إسماعيل حقِّي باشا) وقد حاول الإِنجليز إِذكاء نيران التَّمرُّد في اليمن ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة، ولكنَّ السِّياسة الحكيمة الَّتي سار عليها السُّلطان عبد الحميد كفلت له النَّجاح في اليمن. (السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، ص 224).
وكانت العقليَّة العثمانيَّة تسعى لمدِّ خطِّ سكَّة الحديد من الحجاز إِلى اليمن، وهذا ما أثبتته الوثائق الَّتي دلَّت على وجود تخطيطٍ، ودراسةٍ عميقةٍ لهذا المشروع الكبير.
ثانياً: التصدي للأطماع الإِيطاليَّة في ليبيا
كانت إِيطاليا تحلم بضمِّ شمال إفريقية؛ لأنَّها تراه ميراثاً إِيطاليَّاً. هكذا صرَّح رئيس وزرائها (ماتزيني). لكنَّ فرنسا احتلَّت تونس، وإِنجلترا احتلَّت مصر، ولم يبقَ أمام إِيطاليا إِلا ليبيا.
رسمت إِيطاليا سياستها في ليبيا على ثلاث مراحل:
الأولى: الحلول السِّلميَّة، بإِنشاء المدارس، والبنوك، وغيرها من «مؤسَّساتٍ خدميَّةٍ».
الثَّانية: العمل على أن تعترف الدُّول بآمال إِيطاليا في احتلال ليبيا بالطُّرق الدِّبلوماسيَّة.
الثَّالثة: إِعلان الحرب على الدَّولة العثمانيَّة والاحتلال الفعليِّ.
وكانت السِّياسة الإِيطاليَّة لا تلفت النَّظر إِلى تحرُّكاتها، بعكس السِّياسة البريطانيَّة، أو الفرنسيَّة في ذلك الوقت، وكان الإِيطاليُّون يتحرَّكون «بحكمةٍ» و «هدوءٍ» شديدين دون إِثارة حساسيَّة العثمانيِّين.
وكان السُّلطان عبد الحميد متيقِّظاً لتلك الأطماع الإِيطاليَّة، وطلب معلوماتٍ من مصادر مختلفةٍ عن نشاط الإِيطاليِّين في «ليبيا» وأهدافهم، فجاءته المعلومات تقول: (إِنَّ للإِيطاليِّين بمدارسهم، وبنوكهم، ومؤسَّساتهم الخيريَّة الَّتي يقيمونها في الولايات العثمانيَّة، سواءٌ في ليبيا، أو في ألبانيا هدفاً أخيراً هو تحقيق أطماع إِيطاليا في الاستيلاء على كلٍّ من:
1 ـ طرابلس الغرب.
2 ـ ألبانيا.
3 ـ مناطق الأناضول الواقعة على البحر الأبيض المتوسِّط: أزمير ـ الإِسكندرون ـ أنطاكيا).
قام السُّلطان عبد الحميد الثَّاني باتِّخاذ التَّدابير اللازمة أمام الأطماع الإِيطاليَّة، ولمَّا شعر: أنَّه سيواجه اعتداءً إِيطاليَّاً مسلَّحاً على ليبيا، قام بإِمداد القوَّات العثمانيَّة في ليبيا بـ (15000) جنديٍّ لتقويتها، وظلَّ يقظاً حسَّاساً تجاه التَّحرُّكات الإِيطاليَّة، ويتابعها شخصيَّاً، وبدقَّةٍ، ويطالع كلَّ ما يتعلَّق بالشُّؤون اللِّيبيَّة بنفسه بواسطة سفير الدَّولة العثمانيَّة في روما، ووالي طرابلس؛ ممَّا جعل الإِيطاليِّين يضطرُّون إِلى تأجيل احتلال ليبيا، وتمَّ لهم ذلك في عهد جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي، وسنأتي على ذلك بالتَّفصيل بإِذن الله في الكتاب السَّابع الَّذي يتحدَّث عن الحركة السَّنوسيَّة، وأثرها الدَّعوي، والجهادي في إِفريقية.
ثالثاً: الجامعة الإسلامية والتصدي للمطامع الغربية وتوحيد الأمة
إِنَّ فكرة الجامعة الإِسلاميَّة كان لها صدىً بعيدٌ في العالم الإِسلاميِّ لعدَّة أسبابٍ، منها:
1 ـ كانت الدُّول الأوربيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر تنافس على الاستعمار في الشَّرق، وحدثت سلسلة اعتداءات على الشُّعوب الإِسلاميَّة، فاحتلَّت فرنسا تونس (1881م) واحتلَّت إِنجلترا مصر (1882م)، وتدخَّلت فرنسا في شؤون مرَّاكش؛ حتَّى استطاعت أن تعلن عليها الحماية (1912م) مقتسمةً أراضيها مع إِسبانيا، وكذلك توغَّل الاستعمار الأوربيُّ في بلادٍ أفريقيَّةٍإِسلاميَّةٍ كالسُّودان، ونيجيريا، وزنجبار، وغيرها.
2 ـ تقدَّمت وسائل النَّقل، والاتِّصالات بين العالم الإِسلامي، وانتشرت الحركة الصَّحافيَّة في مصر، وتركيَّا، والجزائر، والهند، وفارس، وأواسط اسيا، وجاوة (أندونيسيا)، وكانت الصُّحف تعالج موضوع الاستعمار، وأطماع الدُّول الأوربيَّة في العالم الإِسلاميِّ، وتنشر أخبار الأوربيِّين المتكرِّرة في الهجوم على ديار الإِسلام، فتتأثَّر القلوب، وتهيج النُّفوس، وتتفاعل مشاعر، وعواطف المسلمين مع إِخوانهم المنكوبين.
3 ـ كانت جهود العلماء، ودعواتهم في وجوب إِحياء مجد الإِسلام، فقد انتشرت في ربوع العالم الإِسلاميِّ الدَّعوة إِلى وحدة الصَّفِّ، وازداد الشُّعور بأنَّ العدوان الغربيَّ بغير انقطاعٍ على الشَّعوب الإِسلاميَّة ممَّا يزيدها ارتباطاً، وتماسكاً، وبأنَّ الوقت قد حان لتلتحم الشُّعوب الإِسلاميَّة، وتنضوي تحت راية الخلافة العثمانيَّة، وغير ذلك من الأسباب. (صحوة الرَّجل المريض، ص112).
إِنَّ السُّلطان عبد الحميد الثَّاني نجح في إِحياء شعور المسلمين بأهمِّيَّة التَّمسُّك، والسَّعي لتوحيد صفوف الأمَّة تحت راية الخلافة العثمانيَّة، وبذلك يستطيع أن يحقِّق هدفين:
الأوَّل: تثبيت دولة الخلافة في الدَّاخل ضدَّ الحملات القوميَّة التَّغريبيَّة، الماسونيَّة، اليهوديَّة، الاستعماريَّة، النَّصرانيَّة.
الثَّاني: وفي الخارج تلتفُّ حول راية الخلافة جموعُ المسلمين الخاضعين للدُّول الأوربيَّة، كروسيا، وبريطانيا، وفرنسا. وبذلك يستطيع أن يجابه تلك الدُّول، ويهدِّدها بإِثارة المسلمين، وإِعلانه الجهاد عليها في جميع أنحاء العالم الإِسلاميِّ. (صحوة الرَّجل المريض، ص112).
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “الدولة العثمانية”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته من كتاب: “السلطان عبد الحميد الثاني”، للدكتور محمد حرب.
المراجع:
- الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.
- السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، محمَّد حرب، دار القلم دمشق، الطَّبعة الأولى، 1410هـ/1990م.
- صحوة الرَّجل المريض، موفق بني المرجة، دار البيارق، الطَّبعة الثَّامنة، 1417هـ/1996م.