البوصلة معطلة حتى إشعار آخر

12 ديسمبر 2023 16:49

هوية بريس – محمد كرم

إن من يرى ما تحقق على أرض مملكتنا من إنجازات إسمنتية لا يمكن أن يصدق بأن البلاد لم تكن تتوفر على متر واحد من الطرق المعبدة قبل شروع سلطات الحماية الفرنسية في تدبير شؤوننا في مستهل القرن الماضي.

و من يتجول بالكثير من شوارعنا و أحيائنا و فضاءاتنا التجارية العصرية سيجد لا محالة صعوبة كبيرة في فهم مبررات تصنيفنا ضمن الدول المتخلفة إلى جانب بوركينا فاصو و الملاوي.

و من يقف على الإنجازات المسجلة في مجال صناعة السيارات و الطائرات بشكل خاص لن يستغرب إذا علم بان البلاد مقبلة على ولوج عصر الصناعة العسكرية بل و مرشحة أيضا للالتحاق بنادي الدول النووية.

و من تصله منا أصداء الاختراق الاقتصادي المغربي لدول غرب أفريقيا ـ و الذي أصبح مصدر إزعاج لبعض الجهات ـ من الطبيعي أن يشعر بالاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن.

و من تقوده الظروف إلى ردهات الإدارات العمومية و المحاكم و مدرجات الجامعات لا يساوره شك في أن دولتنا دولة مؤسسات لها من المؤهلات ما يسمح لها بتصدير خبرتها في أكثر من تخصص.

و من يمتطي حافلات الدار البيضاء بشكل خاص قد لا يعلم بأنها أفضل بكثير من حافلات نيويورك.

و من يلاحظ ما تم سنه من تشريعات و ما تم إرساؤه من حقوق جماعية و فردية و ما  تقوم به دولتنا من مجهودات لتحقيق التغطية الصحية و الحماية الاجتماعية للجميع سيستنتج بأنه لم تعد تفصلنا عن أعرق الديموقراطيات و دول الرفاه الاجتماعي سوى مسافة قصيرة.

و من خبر تعبئة الحكومة و طريقة تدبيرها لجائحة كوفيد 19 تيقن بشكل نهائي بأن للدولة المغربية كل مقومات النجاعة و بأن لها هيبة لا مثيل لها بمجموع المنطقة.

و من يرى حجم انخراط المملكة في الثورة التكنولوجية الراهنة و أثر ذلك على أداء مختلف القطاعات الإنتاجية و الخدماتية لن يزداد إلا إعجابا بالدينامية التي أبانت عنها الحكومات المتعاقبة.

و من يعاين ما تم تخصيصه من منشآت و مساحات للتنزه و لإقامة التظاهرات الفنية و تلك المرتبطة بمختلف الرياضات بما فيها سباق السيارات  سيقتنع بأن دولتنا انتقلت بالفعل من مرحلة توفير الضروريات إلى مرحلة تأمين الكماليات… و لها كامل الحق في إسعاد شعبها.

و من …

و من …

حتى مستشفياتنا و مدارسنا كبنايات ليست بتلك الدرجة من القذارة و البؤس و الإهمال المعبر عنها بالكثير من المنابر الإعلامية.

لكن، لماذا رغم كل هذه الإنجازات الظاهرة و الملموسة هناك تذمر بدرجات متفاوتة في صفوف شرائح واسعة من المجتمع ؟

لماذا هناك غياب شبه تام للأقلام و الأصوات المشيدة بما تحقق ؟

لماذا كل هذا الكم الهائل من التعليقات العدمية و الأخبار السلبية التي تطالعنا بها وسائل الإعلام على نحو يومي ؟

لماذا أعين الكثير من شبابنا مصوبة نحو الضفة الأخرى ؟ و لماذا رغبتهم كبيرة في بلوغها حتى و لو انتهى بهم المطاف في جوف حوت أزرق ؟

لماذا لا تكاد تخلو أحاديث الناس من الشكوى من فساد الأخلاق و ضيق الحال و الأفق ؟

هل هناك فعلا تناقض بين الواجهة و ما وراء الواجهة ؟

و لماذا تحضر البنى التحتية و تغيب الفعالية المنشودة ؟

و كيف يمكن تفسير الرداءة السائدة بكل القطاعات و على كل المستويات تقريبا ؟

و هل ما نعيشه اليوم مرحلة حتمية مرت بها كل الدول المتقدمة ؟

و ماذا ينقصنا حتى نلج دائرة السعادة ؟

مما لا شك فيه أن مسار التنمية لا يتطلب المال و النفس الطويل و المعرفة بالأشياء و دراسة الجدوى فقط بل يستلزم أيضا ترتيب الأولويات. و هل هناك أولوية أكثر أهمية من بناء الإنسان ؟

لا أعتقد ذلك، إذ ما الفائدة مثلا من إقامة منشأة رياضية بمعايير دولية إذا كانت ستتعرض للتخريب بعد أيام أو شهور قليلة من الشروع في استغلالها ؟ و أية جدوى يمكن انتظارها من مصلحة إدارية بواجهة زجاجية فخمة  قد يحضر الموظفون المنتسبون إليها و قد يغيبون ؟ و أية راحة سينعم بها المرء بمركب سكني عصري متكامل المرافق لا يحترم محتلوه أبسط شروط الجوار الإيجابي ؟ و ما الغاية من صرف الأموال على المكتبات العمومية و دور الشباب في وقت يعلم فيه الجميع بأن شبابنا لا تهمه الكتب و الفنون بقدر ما تهمه الدردشات البريئة و نصف البريئة و المخدرات على اختلاف أنواعها حتى أضحى الناجون من الإدمان عليها يعدون على رؤوس الأصابع في كل عائلة و في كل قسم دراسي؟ و أي ربح يجنيه المجتمع من صرف الدولة لملايين الدراهم على عملية انتخابية يعلم الذكي و البليد على حد سواء بأن الولائم و الأموال مازالت هي العامل المتحكم في نتائجها في حالات عديدة ؟ و كيف يمكن تفسير استمرار حرب الطرق الضارية بالرغم من التحسن الكبير الذي عرفته الكثير من طرقنا ؟

لهذه الأسباب بالذات لم تنطلق مسيرة البناء الحقيقية بالجارة إسبانيا إلا بعد أن تأكد فرانكو من استيعاب الشعب لأصول الانضباط، و لم يوضع قطار التنمية على سكته بالولايات المتحدة الأمريكية إلا بعد القطع مع اللصوصية و قانون الغاب، و لم تشرع الصين في إبهار العالم إلا بعد إرساء قواعد الشيوعية في أبعادها الإيديولوجية و الاقتصادية و الاجتماعية ما مكن البلاد من الظهور كقوة متجانسة لا تناقض بين مرجعيتها و قوانينها و أدائها التنموي على كل الأصعدة، و لم تلتحق سويسرا بركب الدول المرموقة إلا بعد أن أدرك حكماؤها و صناع القرار بها بأنه لا تقدم يرجى بدون عدالة اجتماعية، و لم تعرف الشيلي و الأرجنتين و البيرو طريقها إلى الديموقراطية الحقة إلا بعد أن أعادت الأنظمة الديكتاتورية البائدة بهذه الدول تربية شعوبها بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك توفير ما يكفي من “الكوميساريات” و لوازمها.

و هكذا، و كما تلاحظ عزيزي القارئ، فإن فتح أوراش المشاريع الإسمنتية و التكنولوجية الفرعونية غير كاف للتأكد من أننا على سكة صحيحة. هناك أوراش أخرى ذات طبيعة حضارية و تربوية و غير مكلفة كان من المفروض أن تحظى بالأولوية حتى توضع مشاريع التنمية المادية على أسس سليمة و حتى يكون الانتفاع بها على الوجه الأمثل.

نعم، لقد أغفلنا العناية بالعنصر البشري و اعتبرنا أن مهمة الدولة تنحصر في منح كل مواطن مقعدا بالمدرسة لتأهيله لممارسة مهنة من المهن و نسينا ربط سياستنا  و اقتصادنا و تعليمنا بهوية واضحة المعالم. و الحال أن مغاربة اليوم مواطنون فاقدون للمرجعية و لا يجدون غضاضة في تبني كل الهويات الممكنة. فمنهم مثلا من لايكتفون باستهلاك الإنتاجات الفنية الوطنية ـ هذا إذا كان هناك أصلا اعتراف بوجودها ـ بل و يشاهدون أيضا الأفلام الأمريكية و الإيطالية و الفرنسية و الهندية، و يتابعون المسلسلات الكورية و المكسيكية و التركية، و يستمعون  و بكل شغف إلى موسيقى البوب و الراب، و يرقصون على أنغام التويست و السالسا و السامبا و الرومبا، و يجدون لذة في الانتقال من  “المرقة” إلى “طاكوس” الجنوب أمريكي و من “الشفنج” البلدي إلى “السوشي” الياباني، و لا يخفون ولعهم الجنوني بأجاكس أمستردام الهولندي و البارصا و الريال الإسبانيين، و هم أبطال لا يشق لهم غبار في خلط اللغات، و لهم من الاستعداد الفكري ما يسمح له بالانفتاح على كل التيارات الفلسفية و كل المذاهب و كل الديانات حتى أصبحنا نسمع بالمغاربة المسيحيين و المغاربة الشيعة و المغاربة البهائيين، بل من أبناء جلدتنا من يحفظ أغاني بابا نويل و يحتفل بهالووين أيضا، و منهم من يحتقر اللفة العربية و المدرسة المغربية فتراه يبذل الغالي و النفيس لإخضاع ذريته لمنظومات تربوية واردة من وراء البحار … و منهم من لا علاقة له إطلاقا بمحيطه و لا يعرف حتى ما إذا كان يومه يوم عطلة أم لا. هذا و يبقى مشهد مغربي يحرر رسالة إلكترونية بالدارجة باستعمال حروف لاتينية الأروع على الإطلاق !!!!!!!!!!!! مواطنون “عالميون” من هذا الصنف من الطبيعي أن يكونوا ضحية سياسة إعلامية غير سوية و خريجي منظومة تربوية مفلسة يرفض مهندسوها مجرد الحسم في لغتها. مواطنون بهذا التشتت الثقافي ليسوا في حاجة إلى أسرع قطار بالعالم الثالث أو أجمل ميناء ترفيهي بحوض البحر الأبيض المتوسط أو أكبر مول بأفريقيا  بقدر ما هم في حاجة أولا و قبل كل شيء إلى بوصلة تحدد خصوصياتهم المشتركة و تضبط سلوكاتهم و حتى أذواقهم و تجرهم إلى هوية مصنفة. ( العيب لا يكمن في الانفتاح على تجارب الأمم الأخرى و ثقافاتها بل يكمن في الاستلاب الحضاري الكامل و الشامل.)

خلاصة القول إذن، إن أي تفريط في تربية الناشئة بحملها على الاستقامة و الانضباط و حب الوطن و العمل و بإشاعة الوعي في صفوفها و تكريس سياسة التجنيد العسكري الإجباري، و أي إهمال في تحصين هوية الشعب بتذكيره دوما بدينه و لفته و قيمه الموروثة التي تتعرض يوميا للطمس بشتى الأساليب و الأدوات و التي لو لم تكن أصيلة و سليمة و نافعة ما كانت لتصلنا، و أي تعنت أو تأخير في إعادة النظر في بعض القوانين (خاصة منها تلك التي تمنع الأرزاق و تلك التي لا تعزل الموظف العمومي العابث و الفاسد من منصبه إلا بعد إدانته بإحراق “حصاير الجامع” ) و في بعض الاستراتيجيات (خاصة منها تلك التي تهم الخدمات التعليمية و الصحية و تلك التي تهم أمننا الغذائي) لن ينجم عنهم سوى المزيد من الكوارث الاجتماعية و العقد النفسية  التي من الطبيعي أن تؤدي بدورها إلى عدم تثمين كل ما تحقق مع استمرار تناسل أخبار أعمال الشغب و الإضرابات و الاعتصامات و المظاهرات و المسيرات و الاختلاسات و حتى أخبار الكلاب الضالة و انتحار القيمين الدينيين و تناسل الجمعيات المنافحة عن حقوق الرجل، و هي أخبار تؤشر بما لا يدع مجالا للشك على وجود أزمات مجتمعية عميقة و خانقة.

هذا هو الورش الذي على حكومتنا فتحه اليوم إن هي أرادت أن تعيش في تناغم مع الشعب و تشكل معه جسدا واحدا بمناعة منيعة و إن كانت تطمح أيضا إلى تجديده الثقة فيها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة دونما حاجة إلى تجنيد جيش من الذباب الإلكتروني للتصفيق على إنجازاتها الحالية و برامجها المستقبلية. العربة لا توضع أبدا أمام الحصان. لابد من تخليق الحياة العامة و معالجة الاختلالات المرصودة أولا قبل تكريس حملة تعبئة الرمال و الأحجار و الحديد و الإسمنت… و لابد بالخصوص من الكف عن الاجتهاد في سبيل تزويدنا بهوية جديدة لم نعبر أبدا عن حاجتنا إليها.

ختاما، أنا أعلم أن التعاطي مع التحديات المطروحة ليس بتلك البساطة التي أتصورها أنا نفسي، لكنني مقتنع بأن بداية الوعي بانحرافاتنا ستشكل هي نفسها بداية الطريق نحو الحل.

إضافة لها علاقة بما سبق :

تابعت ليلة أمس ـ مع سبق الإصرار و الترصد ـ فعاليات حفل توزيع جوائز “الكاف” برسم الموسم الرياضي 2023 الذي احتضنه قصر المؤتمرات بالمدينة الحمراء. كانت الأجواء العامة رائعة و حضرت فيها كل مقومات الجمال و الأناقة و توفرت فيها كل شروط التميز التقني و التنظيمي. و طبعا لم أقتطع ساعتين و نيف من وقتي بدافع التعطش إلى التعرف على تنائج جري الأفارقة وراء “جلدة عامرة بالبرد” بل أردت فقط التأكد من جديد من سلامة واجهة البلاد قبل إرسال هذا المقال إلى الجهة الناشرة.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. كنا نقول: أين المسلم؟ واليوم صرنا نقول: أين الإنسان؟
    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ….. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M