الأديب سليمان فياض والواقعية النقدية

27 أكتوبر 2024 18:12

هوية بريس – الصادق بنعلال

أ – شكل الأديب المصري الكبير سليمان فياض الذي غيبه الموت يوم الخميس 26 فبراير 2015 عن سن يناهز 86 سنة، علامة فارقة في مسيرة الإبداع الأدبي والفكري على وجه العموم، ليس فقط بفضل ما خلفه من مؤلفات رفيعة شملت القصة والرواية واللغة والتاريخ.. وإنما لنوعية هذا المنجز الإبداعي ومحايثته لإشكالية النهضة العربية الحديثة، وإصراره على مساءلة ماضي وراهن الثقافة العربية بعيدا عن الصخب الإعلامي، وإلحاحه على المساهمة المنتجة من أجل إكساب” النهضة” بعدا وجوديا مخصوصا.

ب – وهكذا لم يخل عطاؤه الثقافي والأدبي منذ مستهل الستينيات من القرن العشرين من إضافات تنزع نحو التجديد والاجتهاد. فعلى مستوى الدراسات اللغوية لم يتوان عن دعوته إلى التغيير الإيجابي لمناهج تدريس مواد اللغة العربية، عبر مؤلفات رصينة من قبيل: معجم الأفعال العربية المعاصرة والدليل اللغوي و النحو العصري.. وهي كتابات تروم تسهيل الدرس اللغوي وخدمة اللغة العربية بالشكل الذي يجعلها أداة طيعة للنهوض الحضاري للأمة العربية. و على صعيد الإبداع الأدبي أثرى الراحل سليمان فياض الخزانة العربية بمجموعاته القصصية مثل : عطشان يا صبايا و بعدنا الطوفان و أحزان حزيران ، و رواياته التي أشرت على بدايات ما أضحى ينعت في عرف النقاد و الدارسين بالواقعية النقدية ، لما تميزت به من أسلوب حكائي يتجنب الإسهاب غير المجدي ،  و الاقتصار على تجسيد المواقف و المشاعر الإنسانية عبر حس فني مرهف و وعي فكري نادر ، و من أهم رواياته التي تعكس هذا المنحى من الصوغ الجمالي نذكر : الشرنقة و أيام مجاور و أصوات التي تعد بحق إضافة نوعية في سياق ما يصطلح عليه بالرواية الحضارية ،  العازفة على وتر الصراع / الحوار الثقافي بين الشرق ( الأنا ) و الغرب ( الآخر ) ، و لعل أهم ما وسم هذه الرواية بالذات هو تمكن الكاتب من تقويض البنية النمطية المألوفة في هذا النوع الحكائي و المتمثلة في الثنائيات الضدية ؛ الشرق # الغرب الرجل # المرأة الأنا # الآخر . فلئن كنا قد تعودنا على ترسيمة مسبقة وجاهزة عند عدد كبير من الروائيين العرب ليس أقلهم توفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس والطيب صالح، صورت مادية الغربي “المتقدم” و روحانية الشرقي “المتخلف”، والمرأة الغربية  “اللعوب والمستهترة” والرجل العربي الذي يسعى لإعادة الاعتبار “لشرف” الأمة العربية الجريحة عن طريق اقتحام معارك تدور رحاها على جسد المرأة الغربية.. فإن سليمان فياض قلب الطاولة على أساتذته وانتهج مسلكا فنيا و تصوريا بالغ الدلالة.

ج – إن بطل هذه الرواية المنشورة سنة 1972 امرأة غربية ؛ “سيمون” الفرنسية التي جاءت صحبة زوجها المصري “حامد البحيري” لزيارة قرية “الدراويش” البسيطة ، بعد ثلاثين سنة من مغادرته لها في اتجاه الديار الفرنسية ، و إذا كانت سيمون قد عقدت العزم على المجيء لهذا “الشرق” لمساعدة الأهالي البؤساء ، فإن تعاملها العفوي و لباسها و أسلوب حياتها كل ذلك أحدث زلزالا في نفوس رجال و نساء القرية ، لا بل إن غيرة نساء البلدة العمياء حدت بهن إلى قتلها في حدث مأساوي فظيع  ، في إشارة رمزية – إيحائية إلى أن الكساح الذي تشكون منه النهضة العربية صناعة داخلية و ذاتية ، تتمثل في عدم قابلية العرب أنفسهم لعوامل تاريخية و سوسيو اقتصادية .. للقطع مع مسلكيات الحياة البدوية وتقبّلِ منجزاتِ الآخر.

د –  و لم تقتصر إنجازات الكاتب سليمان فياض على الاستكناه السردي للواقع العربي الغارق في التخلف الحضاري ، بل إنه تجاوز ذلك لاستقراء موضوعي  للتجربة السياسية العربية القديمة ، و قد تجلى ذلك بشكل خاص في مؤلفه الشهير ” الوجه الآخر للخلافة الإسلامية ” ، و الذي أبان فيه عن تحليل علمي حصيف ، حيث خلص إلى نتيجة مفادها أن الخلافة الإسلامية شكل سياسي منتهي الصلاحية ، انتهجه المسلمون كأداة لتسيير حياتهم العامة منذ العهد الأموي ، و أنها اتخذت الدين مطية للتحكم في مقدرات الشعوب المسلمة بعيدا عن قيم التشاور و تبادل الآراء و التداول السلمي على الحكم و نبل الرسالة المحمدية ،  خاصة و أن النصوص الدينية ( القرآن الكريم و الأحاديث النبوية الصحيحة ) لم تحدد بشكل قاطع و حاسم شكل نظام سياسي معين ، مما يعني منطقيا ضرورة الاستفادة من التجارب السياسية الكونية الراهنة و تحديدا التجربة الديمقراطية ، طالما أنها تهدف في المحصلة الأخيرة إلى خدمة الإنسان وصون كرامته و ضمان حقه في الحرية و العدالة و المساواة .. وذلك لعمري جوهر الإسلام ورسالته الخالدة.

*إطار تربوي – باحث في قضايا الفكر والسياسة

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M