رد دعوى وجود إسرائيليات في كتب الصحيحين

03 ديسمبر 2015 20:50
رد دعوى وجود إسرائيليات في كتب الصحيحين

رضوان العابدي

هوية بريس – الخميس 03 دجنبر 2015

بينما كنت أتصفح بعض المواقع الإلكترونية الإسلامية وقفت على مقال لمصطفى بوهندي بعنوان: “في الحاجة إلى تنقية الأحاديث النبوية من الإسرائيليات” منشور على موقع ينسب إلى الإسلام، وما كان أن ينشر لما تضمن من مغلطات يدركها كل مبتدئ في علوم الشريعة الإسلامية.

استوقفني المقال، فبدأت قراءته، في البداية كنت أظن أنه يرد حديثا موضوعا أو ضعيفا أو لا أصل له، لأن العبارة التي افتتح بها المقال تدل على ذلك، إذ إن كثيرا من الخطباء يذكرون مرويات حديثية في خطبهم دون تمييز بين صحيحها وسقيمها، لكن المثير للدهشة هو أن الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، وقد ذكر بوهندي ذلك دون استحياء، وصدق رسول الله حين قال: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”.

إن الأمة تلقت صحيح البخاري وصحيح مسلم بالقبول، واتفقت على صحة ما فيهما، لما تميزا به من شروط شديدة في قبول الحديث، خاصة صحيح البخاري.

بوهندي لم يلتفت إلى هذا وراح يوهن من الحديث زاعما أنه يخالف القرآن، وأي مخالفة هذه التي لم يقل بها أحد من العلماء، سوى ما فهمه بوهندي.

بحثت في كتب التفسير والحديث فيما يتعلق بالحديث المروي والآيات القرآنية، لعلي أظفر بقول إمام ولو شاذ، يبين وجود التعارض، لكن لم أجد.

انتهيت من قراءة المقال وخرجت بخلاصة مفادها أن بوهندي يرد حديثا صحيحا رواه البخاري ومسلم، بدعوى أنه من الإسرائيليات، قال قي ذلك: (إن الحديث الذي أورده البخاري وغيره من المحدثين والذي تعددت صياغاته، إنما هو صياغة حديثية جمعت عددا من الروايات السابقة الإسرائيلية وغيرها، وجعلتها ندا للقرآن الكريم؛ وقدمت عروضا جديدة ألحقت مختلف المرويات بالقرآن الكريم، ونصت على كون الرسول الكريم محمد صلعم هو من قال ذلك، رغم مخالفة بعضها لبعض ومخالفتها الصريحة للقرآن الكريم، فالبخاري جمع روايتين مع آية عيسى الواردة في القرآن الكريم وقال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وساق الحديث).

يتضح من كلام بوهندي هذا أنه سلك مسلكين في رد الحديث الصحيح ووصفه بأنه من الإسرائيليات، وهما:

أولا: زعمه أن الروايات -التي جاءت في ذكر عدد الذين تكلموا في المهد- مختلفة فيما بينها.

يقول الإمام البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال الراعي قالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديها يمصه قال أبو هريرة، كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه، ثم مر بأمة فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال اللهم اجعلني مثلها، فقالت لم ذاك، فقال الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل”.

لقد زعم بوهندي أن هذا الحديث من الإسرائيليات الدخيلة على المسلمين في كتبهم، لأن عنده أن هناك روايات أخرى مختلفة فيما بينها في ذكر عدد المتكلمين في المهد، وهذه الروايات هي:

(روى الحاكم وأحمد والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا أربعة: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون ففي هذا الحديث لم يذكر الثالث الذي في حديث أبي هريرة الأول.

وفي صحيح مسلم من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود : أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبي يرضع فتقاعست، فقال لها يا أمه: اصبري فإنك على الحق.

فبهذا يجتمع ستة كلهم تكلموا في المهد.

قال الحافظ ابن حجر: وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم في المهد. أخرجه الثعلبي. فإن ثبت صاروا سبعة .

وذكر البغوي في تفسيره: أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد.

وفي سير الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد.

وقد تكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة، وقصته في دلائل النبوة للبيهقي من حديث معرض.

على أنه اختلف في شاهد يوسف. فقيل: كان صغيراً. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف.

وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وأخرج عن ابن عباس أيضاً و مجاهد : أنه كان ذا لحية.

وعن قتادة، والحسن أيضاً: كان حكيماً من أهلها. اهـ والله أعلم).

وبعد أن ذكر بوهندي هذه الروايات والآثار قال معلقا عليها: (لم يدرك السادة العلماء المسلمون وهم يجمعون هذه الروايات وينشرونها بين الناس، أنهم كانوا ينشرون أفكارا إسرائيلية وردت في الكتب السابقة، جاء القرآن الكريم لمراجعتها ونقدها وبيان الحق فيها وإبطال ما حاول الكاذبون والمحرفون نسبته إلى الأنبياء والمرسلين.

لم يدرك العلماء المسلمون أن كثيرا منهم، وهم يتصدون لتعليم الدين وتفسيره والدفاع عنه ونصرته، كانوا يجهلون ما يوجد في الكتب المقدسة وعند أهل الكتاب من معرفة دينية سابقة؛ وأنهم كثيرا ما وقعوا في أخطاء قاتلة أقلها أنهم لا يعرفون ما الذي يميز قرآنهم عما سبقه من معرفة دينية، وما هي إضافته النوعية على هذه الكتب وتصحيحاته لها).

هذه رؤية بوهندي وجنايته على علماء الأمة، ولم يدرك، –  وهو يجعل هذه الروايات بما فيها الحديث الصحيح  الذي رواه البخاري ومسلم من الإسرائيليات،  -أنها رويت بأسانيدها، وأن هناك علما أفنى العلماء فيه أعمارهم هو علم الحديث الذي به يميز بين صحيح المرويات وسقيمها.

لقد بذل المحدثون جهودا جبارة في خدمة السنة النبوية فجمعوا المرويات في مصنفات شتى، وألفوا في علم الرجال ووضعوا القواعد والضوابط التي يستخدمها كل من توفرت فيه الأهلية العلمية لدراسة الأحاديث سندا ومتنا، كل ذلك من أجل الدفاع عن السنة وحمايتها من كل تحريف أو تغيير أو تبديل.

وكان من نتاج هذه الجهود اتفاق علماء الأمة على تلقي كتب الصحيحين بالقبول، وبالتالي صحة ما فيهما من أحاديث وأخبار، يقول الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: “أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها”.

وقال ابن الصلاح: “وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز… ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا”.

وقال الإمام النووي: “اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما”.

هذه أقوال أهل العلم في كتب الصحيحين التي لم يدركها السيد بوهندي، ولو أدركها ما تجرأ على الصحيحين، بالقول أن فيها إسرائيليات يجب تنقيتها منها، رادا حديث أبي هريرة الذي اتفق الشيخان على صحته.

إن ما أقدم عليه بوهندي من رد حديث أبي هريرة الذي حصر المتكلمين في المهد في ثلاثة بدعوى تعارضه مع الروايات والآثار المذكورة سابقا غير مسلم له لاعتبارين:

1- أنه ليس من أهل الاختصاص في هذا الفن، فعلم الحديث له رجاله ورواده الذين يؤخذ بقولهم فيه.

2- أن حديث أبي هريرة المتفق عليه مقدم على كل الروايات والآثار الأخرى التي تعارضه في تحديد العدد، فهي إما أنها أقل رتبة من رواية الإمام البخاري أو أنها لا تصح، لكن يشكل على ذلك حديثين:

الأول: روى مسلم في صحيحه عن صهيب في قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبي يرضع فتقاعست، فقال لها يا أمه: اصبري فإنك على الحق.

وهذا الحديث يعارض حديث: “لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة…” الذي رواه البخاري ومسلم، حيث أضاف صبيا آخر تكلم وهو صغير، لكن جمع بين الحديثين الإمام النووي رحمه الله فقال في شرحه على صحيح مسلم: “لَيْسَ فِيهِمُ الصَّبِيُّ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي حَدِيثِ السَّاحِرِ وَالرَّاهِبِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ بَلْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ صَاحِبِ الْمَهْدِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا”.

ويؤيد هذا الجمع أن المهد في اللغة -كما في لسان العرب- يطلق على”مَهْدُ الصَّبِيِّ، ومَهْدُ الصَّبِيِّ: مَوْضِعُهُ الَّذِي يُهَيّأُ لَهُ ويُوَطَّأُ لِيَنَامَ فِيهِ”، فكون الصبي يرضع لا يعني أنه في المهد إذ قد يكون أكبر من ذلك.

وبهذا الجمع بين الحديثين ينتفي التعارض المفهوم من ظاهرهما.

الثاني: روى الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة بنت فرعون”.

والملاحظ من هذه الرواية أنه جاء فيها تحديد العدد في ثلاثة ممن تكلم في المهد، وليس في أربعة كما  نقل بوهندي، وهو تحريف منه للرواية التي ذكرها الحاكم في مستدركه.

وقد نص المحدث الألباني على بطلان إسناد هذا الحديث، فقال معلقا عليه في سلسلة الأحاديث الضعيفة: “وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل عندي، وذلك لأمرين:

الأول: أنه حصر المتكلمين في المهد في ثلاثة، ثم عند التفصيل ذكرهم أربعة!

والثاني: أن الحديث رواه البخاري في “صحيحه” من الطريق التي عند الحاكم فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم بسنده عند الحاكم تماما إلا أنه خالفه في اللفظ فقال: “لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة”.

لقد حكم الشيخ المحدث الألباني على هذا الحديث ببطلان إسناده بسبب وجود اختلاف في متن الحديث نفسه، وبسبب مخالفته لفظ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضا.

وأما الروايات والآثار الأخرى فكلها لا تصح، كما يفهم من كلام الشيخ المحدث الألباني حيث قال في سلسلة الأحاديث الضعيفة: “ولم أجد في حديث صحيح ما ينافي هذا الحصر الوارد في حديث الصحيحين إلا ما في قصة غلام الأخدود”، وقد ذكرنا أن هذا التعارض ينتفي بجمع الإمام النووي بينهما.

ثانيا: زعمه أن حديث أبي هريرة المتفق عليه يعارض القرآن الكريم

زعم بوهندي أن الحديث المذكور يخالف القرآن، قال بوهندي: “كانت قضية الكلام في المهد واحدة من القضايا التي عرضها القرآن الكريم في أكثر من سورة، بما في ذلك سورة آل عمران ومريم؛ قال تعالى متحدثا عن هذه الآية من خلال كلام الملائكة مع العذراء عند بشارتها لها بالغلام: “إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47)” (سورة آل عمران).

ووصف لنا سبحانه أحداث الولادة المعجزة، وكلام المسيح مع أمه في المهد ناصحا إياها بألا تتكلم مع قومها في شأنه، وأن تلزم الصمت وتترك مهمة البيان والكلام له؛ قال تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)” فقامت فعلا بما نصحها به ابنها الصبي، وأتت به قومها تحمله؛ ورغم كل التهم الموجهة إليها منهم لزمت الصمت، وتركت مهمة الدفاع عنها للوليد الذي جعله الله آية للعالمين: “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36)” (سورة مريم).

ثم ذكرها في سورة المائدة في بيان نعم الله على عبده السيد المسيح؛ قال تعالى: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (110)” (سورة المائدة).

إن ظاهر الآيات القرآنية هاته يدل على أن الله عز وجل أخبر بتكليم عيسى عليه السلام للناس في المهد، وليس فيها ما يدل على أن هذا الفعل خاص به، ويؤكد هذا الأمر أن أهل التفسير لم يفهموا من الآيات المذكورة ما فهمه بوهندي من كون كلام عيسى في المهد خاص به دون غيره متخذا ذلك وسيلة لخلق التعارض بين القرآن الكريم و الحديث الذي رواه الشيخان.

قال الإمام الطبري: “وأما قوله: “ويكلمُ الناس في المهد”، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد”.

وقال أيضا: “وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: “ويكلم الناسَ في المهد وكهلا”، ويكلم الناس طفلا في المهد دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، وحجة له على نبوّته وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينزل عليه من كتابه”.

وقال ابن عطية: “وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان، والْمَهْدِ موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته”.

وقال الرازي “وَالْمَعْنَى: يُكَلِّمُهُمْ طِفْلًا وَكَهْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَفَاوَتَ كَلَامُهُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ شَرِيفَةٌ كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُ…”.

وقال ابن كثير: “يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا”.

فالقرآن أخبر أن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، كما يتضح من كلام المفسرين، ولا يعني أن ذلك خاص به وحده دون غيره من بني البشر إذ يجوز أن يشاركه غيره في ذلك، لكن بشرط وجود الخبر الصحيح ينقله إلينا، وهو ما جاء في حديث أبي هريرة.

وعلى هذا فالتعارض الذي فهمه بوهندي بين القرآن الكريم وحديث أبي هريرة المتفق عليه غير وارد أصلا، فهو بذلك اخترع تعارضا من عند نفسه وبنى عليه رد حديث أبي هريرة  ووسمه بأنه من الإسرائيليات.

وخلاصة القول أن دعوى التعارض بين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرها من الأحاديث يُرَد عليها بضعف الأحاديث المعارضة له، إذ أنها لا تقوى بطرقها على معارضة ما رواه الشيخان، باستثناء ما رواه مسلم في قصة أصحاب الأخدود، وقد بينت طريقة جمع الإمام النووي بينهما حيث إن كون الصبي يرضع لا يلزم منه أنه في المهد، فهو أكبر من صاحب المهد رغم كونه يرضع.

وأما رواية الحاكم التي جاء فيها حصر عدد المتكلمين في ثلاثة، والتي حرفها بوهندي إلى لفظ: أربعة، فهي باطلة، كما بين ذلك الشيخ الألباني رحمه الله.

وعليه فزعم بوهندي أن حديث أبي هريرة المتفق عليه من الإسرائيليات لا أساس له من الصحة، لأن ما استند له مجرد شبه وأوهام لا يمكن البناء عليها في رد حديث موجود في الصحيحين، وهما من أصح الكتب المصنفة في الحديث كما بينت سابقا.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M