استراتيجية الإسلام (9).. نفس الإنسان- حكمة الشرق وتفسير الغرب

13 أبريل 2023 12:33
استسقاء

هوية بريس- محمد زاوي

– نفس الإنسان

* الداء والدواء.. حكمة الشرق وتفسير الغرب

تطمئن النفس بالتزكية، “قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها” (سورة الشمس، الآيتان 9 و10). ليست متأصلة في الفجور، ولا متأصلة في التقوى، بل قابلة لهما معا؛ “فألهمها فجورها وتقواها” (سورة الشمس، الآية 8). بمرض القلب تمرض، أمراضها المعاصرة مظاهر لأمراض أعمق من طغيان نوازع الخوف والطمع والسرف.. التزكية تورث القلب اطمئنانه، فتسلم النفس من أسقامها المعاصرة، من وساوس وفوبيات وفصامات وذهانات وهستيريات.. النفوس ثلاثة: أمارة بالسوء، لوامة ومطمئنة؛ مادة النفس صراع بين موادها الثلاث.. تحدّ إحداها الأخرى؛ فإذا اطمأنت النفس رَضيت وأرضيت، فلا هي تلوم صاحبها، ولا هي تأمره بسوء، فما اللوم إلا من فعل سيء. وإذا أخصعت صاحبها لأمر بسوء، ضعف تأثير اللوم فيها وفارقها أو قل اطمئنانها. أما إذا لامت صاحبها فقد حركت فيه نوازع الخير ولم تجعل السوء له طبيعة، فكان حصول لومها من سوئها دليلا على عدم رسوخ اطمئنانها.

يثبت القرآن للنفس هذه الصفات الثلاث، اللوم والاطمئنان والأمر بالسوء؛ وذلك في مواضع نذكر منها: “ولا أقسم بالنفس اللوامة” (سورة القيامة، الآية 2)، “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي” (سورة الفجر، الآية 27)، “إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي” (سورة يوسف، الآية 53). يعيش الإنسان في نفسه أحوالا شتى، يتقلب فيها بين تصالح مع الذات والناس، وسوء صنيع معهما، ومنزلة بين المنزلتين (الذنب والتأنيب). فإذا أعوزه التفسير استدعى خطاب القرآن، فكان في الحال الأول مطمئن النفس، خاضعا للأمر بالسوء في الثاني، حبيسَ اللوم في الثالث.

يجهد بعض الباحثين (عدنان إبراهيم مثلا) أنفسهم في التوفيق بين التحليل النفسي الحديث وما ورد في القرآن؛ فتصبح ثلاثية “الأنا، الهو، الأنا الأعلى” مرادفة لثلاثية “النفس المطمئنة، النفس الأمارة، النفس اللوامة”. وبغض النظر عن وجود الترادف من عدمه بين هذه المفاهيم، فإن مجاليهما مختلفان، الأول تفسيري هدفه تحرير الأنا عن طريق الوعي باللاوعي، أما الثاني فأخلاقي أفقه اطمئنان النفس بعد انتصار النفس اللوامة على نظيرتها الأمارة. وما كان لهذه المقارنة أن تتم، ما دامت الثلاثية القرآنية ناجعة لدى المؤمنين بها، وما دامت الثلاثية التحليلية مفسِّرة في شرط ظهورها (أوروبا القرن 19 م).

الشفاء قبل التفسير، هكذا تقول حكمة الشرق. ولا شفاء إلا بالمفسَّر، هكذا تقول حكمة الغرب. العقاقير والمسكنات والمصحات وجلسات التفريغ وتشخيص الاختلالات العصبية والعقلية؛ هذه كانت عدة الغرب لمواجهة آلام النفس. الرأسمال الذي ينتج الآلام، هو نفسه الذي ينتج أدويتها ويبني عيادات ومصحات علاجها (ميشيل فوكو). عدة الشرق مختلفة، خروج من الجسد قبل الخروج الأخير (“من مات قامت قيامته”)، “موت” معجل قبل الموت الفعلي، استحضار القدرة المطلقة وفيوض الأصل، زهد في الجسم والعلم، سجود مع الكائنات.. رصيد نفسي ثمين يضيعه الشرق بموضة “تفسير كل شيء”، خبرة حدسية عميقة ونافعة يحاصرها “تفسير جزئي”.

لم تستقر مدرسة التحليل النفسي نفسها على رأي واحد؛ فأسس ألفرد آدلر مذهبه الفردي (علم النفس الفردي)، حيث التركيز على الجانب الواعي في الإنسان وقدرته على تخطي حالات النقص والشعور بالدونية لديه؛ وأسس كارل غوستاف يونغ مذهبا خاصا في الأعماق (علم نفس الأعماق)، حيث التركيز على دلالة الرمز واللاشعور الجمعي وأهمية الطقوس والأساطير. أما سيغموند فرويد، الأستاذ، فهو وإن اتخذ لأبحاثه ودراساته منحى “الوعي باللاوعي” (إيريك فروم)، فقد اصطنع برزخا بين الجهاز النفسي و”وجوده الاجتماعي”، وحبس اللاوعي في تصوره عن دوافع الجنس وتطورها عبر عمر الفرد. وجهات نظر تحليلية مختلفة بين مؤسسي التحليل النفسي، لكنها جميعا لم تخلُ من نجاعة في واقعها العلاجي. أين الحقيقة إذن؟ جزء منها في التفسير، وكلها في العلاج. الأسبقية للعلاج، للاطمئنان والصفاء الداخلي، وهنا تبرز حكمة الشرق، حكمة الوحي وحضارات مصر وفارس والشام والصين والهند…

ظهرت مدارس جديدة، مراجعات بمنطق جديد للتحليل النفسي الكلاسيكي (فرويد بالذات)؛ منها التي وضعت التحليل الفرويدي في صلب واقعه الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لإيريك فروم ووليام رايش.. ومنها التي رفضت التحليل النفسي ككل واهتمت بعلم النفس العصبي، وعرفت النفس تعريفا جديدا يفسر صحتها بالصحة العصبية، ويعالج أمراضها من جذورها، أي من جهازها العصبي؛ وغير هذا تفاصيل وتفاسير كثيرة ودقيقة يعرفها ذوو التخصصات كل حسب تخصصه، تحقق الراحة والعلاج وترسم طريق الخلاص بهذه الدرجة أو تلك.. تطور علم النفس والطب النفسي، وأصبح الإنسان المعاصر يعرف عن نفسه أكثر من سابقيه، فهل روضها؟ هل امتلكها؟ هنا تكمن المشكلة، وهنا يجد الإنسان المعاصر نفسه أمام واقعين خطيرين:

– واقع الملكية؛ تقسيمها اللامتكافئ، وما ينتجه من أمراض وأحقاد ووساوس واضطربات وصراعات تخرب النسيج النفسي الداخلي للإنسان. ندخل في هذا الواقع أيضا مجهود الإنسان للتكيف مع واقع لا إنساني، يستحيل إنسانيا بحكم التاريخ وضرورته.

– واقع النفس؛ فقدت ملكيتها الاجتماعية، فعجزت عن إخماد نار التملك داخلها، نار يشتد لهيبها بنار الملكيات المتصارعة، بنار تفاقم الثروات والخبرات ومعها تفاقم الآلام والآهات.

أين استراتيجية الإسلام من هذا كله؟ جنة نسبية في أفق الأرض، وأخرى مطلقة في أفق السماء. طلب العدل رسالة في الأرض، وعدل مطلق يعوض الناس في السماء. الفوضى التي يعيشها العالم اليوم تقتضي الجمع بين ألم وأمل، معركة في الأرض وجنة في السماء. من اكتفى بالطلب الثاني ضاع حقه في أرض الله، ومن اكتفى بالأول أشغلته الفاقة وضيع الحياة. “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” (سورة الحشر، الآية 7)، “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث” (سورة آل عمران، الآية 14)/ “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” (سورة آل عمران، الآية 185).

(يتبع)

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M