الأسرة ورهان التحول الرقمي مقاربة تربوية
هوية بريس – عبد الكريم المحيحش
لا شك أننا نعيش اليوم عصرا هيمن فيه التواصل الافتراضي والخدمات الرقمية في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية وغيرها، وهذه الثورة الرقمية هي نتيجة حتمية لتطور العلوم والتقدم الصناعي، والتعامل معها لم يعد اختيارا فرديا بل أصبح اليوم اختيارا مؤسساتيا وبالتالي فالنقاش حول مشروعية استخدام هذه الوسائل الرقمية سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى المؤسساتيأصبح نقاشا متجاوزا بفعل هيمنة هذه الوسائل على كل مجالات الحياة،ومن هنا فالسؤال الذي ينبغي أن يطرح هو كيف يتم التعامل مع هذه الوسائل خصوصا في ظل الأوضاع الحالية التي تفرض على المجتمع برمته الانخراط في هذا العالم الرقمي والاستفادة من خدماته؟ هذا السؤال يكتسب أهميته من خلال البحث في السبل القانونية والتربوية لعقلنة استعمال هذه الوسائط، وهي عملية تستدعي مقاربتين اثنتينمقاربة وقائية تتضمن عملية ترشيد استخدام هذه الوسائل الرقمية وما يتطلب ذلك من تدخلات لتوجيه السلوك التربوي والاجتماعي وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة مما تتيحه من خدمات معرفيةتربوية تواصلية،ومقاربة علاجية تقوم على أساس سن مجموعة من الأحكام والتشريعات لمواجهة الخروقات التي يمكن أن تقع في هذا المجال.
إن السياق الذي نعيشه اليوم في ظل انتشار وباء كرونا فرض على الدولة المغربية على غرار باقي الدولاتخاذ مجموعة من التدابير والاجراءات الوقائية لوقف انتشار هذا الفيروس كان من بينها اتخاذ قرار يقضي بإغلاق المدارس والمؤسسات التعليمية وخوض تجربة التعليم عن بعدمن خلالاستخدام وسائل بيداغوجية رقمية لمواكبة العملية التعليمية التعلمية ، إلا أن هذا النمط من التعليم أثار جدلا واسعا في أوساط المجتمع المغربي نظرا لما يطرحه من إشكالياتيتعلق البعض منها بكيفية التعاطي مع هذه الوسائل الرقمية في ظل غياب حماية رقمية تتيح الاستفادة من هذه التقنيات دون الوقوعفيما من شأنهأن يبعد الممارسة التربوية عن هدفها الأسمى.هذه الإشكالياتالمرتبطة بتجربةالتعليم عن بعد تدفعنا إلىطرح الأسئلة التالية: أي دور للأسرة فيخضم هذا التحول الرقمي؟ وكيف تساهم في ترشيد وتهييئ مناخ افتراضي يحقق الأهداف التربوية المنشودة؟وهل تمتلك الأسرة المغربية ثقافة رقمية تمكنها من الاضطلاعبهذا الدور؟كيف تنظر الأسر المغربية إلى هذه الوسائل التكنولوجية الحديثة؟وما هي أبرز التحديات التي تطرح في سياق بحث التحول الرقمي في علاقته بالمنظومة التربوية ؟ وكيف تتعاطى الأسر مع هذه التحديات؟
إنالأسرة هي أعرق مؤسسة عرفتها الحضارة الإنسانية فهي مؤسسة اجتماعية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ إذ ليس هناك مؤسسة تسبقها في الوجود الإنساني،لذلك فالأسرة تستمد قيمتها من هذه المرجعية التاريخية بالإضافة إلى المرجعية الدينية على اعتبار أن كل الأديان السماوية تؤكد على أهمية الأسرة في بناء المجتمع السليموغرس القيم الإنسانية النبيلة التيتؤسس للعيش المشترك في ظل مجتمع يسوده الأمن والأمان وينعم بالسكينة والاستقرار المادي والمعنوي. إن العالم اليوم يتجه إلى إلغاء مفهوم الأسرة بمعناه العام المتمثل في مفهوم القبيلة والعشيرة وما إلى ذلك ليحل محلهمفهوم جديد وهو ما يصطلحعليه بالأسرة النووية،والسبب في هذا التوجه نحو إلغاء مفهوم الأسرة هو أن معظم القيم ذات الطابع التقليدي تنشأ داخل الأسرة لذلك فإن التخلص من هذه القيم الموروثة يقتضي أساسا تفكيك الأسرةوإضعاف دورها في التنشئة الاجتماعية، لصناعة جيل يدين بالولاء لجهة واحدة وهي الدولة التي ينتمي إليها.
إننا حينما نتحدث عن الأسرة في علاقتها بالتحولات الرقمية وما تطرحه هذه الثورة الرقمية من إشكاليات تربوية واجتماعيةوصحية فإننا نتحدث عن دور الأسرة إزاء هذا التحول الرقمي وعن القيم الغائبة التي يجب أن تكون حاضرة في ثقافتنا الرقمية لأن غياب هذه القيم يؤكد على ضرورة تحيين منظومتناالثقافية ورؤيتنا للعالم ومحاولة العيش بمنطق الحاضر لا بمنطق الماضي السحيق. إن معظم الأسر اليوم تعاني من الأمية الوظيفية تجاه هذه الوسائل الرقمية الحديثة سواء من حيث كيفية استعمالها أو من حيث مجالات استعمالها، بل إن معظم الأسر تنظر إلى هذه الوسائل باعتبارها وسائل لا نفعية وليست لها أي مصداقية تربويةوإدارية ومؤسساتية، ومن تجليات هذه النظرة الثقافية ما لاحظناه من الإقبال الشديد على التسجيل للدراسة بالصيغة الحضورية بدل الدراسة عن بعد، وقد أكد التقرير الصادر عن الوزارة الوصية أن نسبة التلاميذ الذين اختاروا التعليم الحضوري تفوق ثمانين بالمائة من مجموع التلاميذ وهي نسبة تؤكد أن معظم الأسر المغربية لا تعول كثيرا على هذه الوسائل الرقميةوهو ما ينم عن خلل بنيوي وعن انطباعات خاطئة وتصورات مغلوطةتتطلب بذل كثير من الجهد لتصحيحها. ورغم أن القضية هي قضية مجتمع بكل هياكله ومؤسساته إلا أننا يجب أن نؤكد بأنعملية التغيير هذه يجب أن تبدأ بغرس ثقافة رقمية من خلال الأسرة لتنشئة جيل جديد قادر على مواكبة التطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي وتسخير وسائله لخدمة مصالحه والنهوض بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية. إن الأسرة اليوم مطالبة بالانخراط في هذا العالم الرقمي لأن استراتيجية الهروب إلى الخلف لم تعد خيارا متاحا في ظل هيمنة التواصل الرقمي والخدمات الإلكترونية على كلمجالاتالحياة.إن ما نلاحظه اليوم هو أن هناك فجوة رقمية عميقة بين الآباء والأبناء،فمن الخطورة بمكان أن تصبح الأم أو الأب أو كلاهما متجاوزين من طرف الأبناء، لذلك فإن الرهان الأول هو غرس ثقافة رقمية لدى الآباء والأمهاتتنبني على أساس القبول بهذه الوسائل ضمن المنظومة الثقافية والاجتماعية ومحاولة الانخراط في هذا العالم الافتراضي والتأثير فيه إيجابا عبر مراقبة وتتبع وكذا توجيه الأبناء للاستفادة من خدماته وفق المعايير الصحيةوالتربوية والاجتماعية.
إن من بين التحديات التي تطرح في سياق بحث هذا التحول الرقمي في علاقته بالمنظومة التربوية ما يتعلق بالمحتويات الرقمية في ظل غياب حماية رقمية بالنسبة للأطفال وما يشكله هذا التحدي من خطر كبير على صحة الطفلوسلوكهالتربوي والاجتماعي، ما يعني أن الأسرة اليوم مطالبةبالمساهمة بنسبة معينة فيتوفير فضاء رقمي خال من المحتويات المخلة بالذوق العام وبالثقافة المجتمعية الأصيلة التي يجب أن ينشأ عليها الطفل، بالإضافة إلى المحتويات الرقمية المتعلقة بالألعاب الإلكترونية التي غالبا ما تتضمن محتويات عنيفة تؤثر سلبا على السلوك الاجتماعي للأطفال، وهو المطلب الذي نادى بهالمنتدى المغربي للحق في التربية والتعليم في الأيام القليلة الماضية.ومن بين التحديات أيضا التي تواجه الأسرة في ظل اعتماد تجربة التدريس عن بعدما يتعلق بكيفيةإدارة هذه المرحلة التي اقتضت أن يتحول البيت من فضاء أسريتجتمع فيه العائلةإلى فضاء تربوي تعليمي تتحمل فيه الأسرة قسطا كبيرا من المسؤولية التربوية باعتبارها تمثل جهة الإشراف المباشرةإذ الأسرة اليوم مسؤولة عن توفير كافة الشروط التربوية ومتابعة مدى تحصيل التلميذ واهتمامه بمقرره الدراسيوكذاالتواصل الدائم مع الأساتذة والأطر التربويةلمواكبة المستجدات في هذا المجال وطرح الإشكالات التي يمكن أن تقع خصوصا على مستوى الولوج إلى المنصات الافتراضية التي تواصل من خلالها المؤسسات التعليمية بث برامجها وأنشطتها التربوية المتعلقة بالمقررات الدراسية.
بالجملة لا يمكننا الحديث عن فضاء رقمي يحقق الكفاية التربوية المنشودة إلا بالتركيز على دور الأسرة كفاعل أساسي في إنجاح هذه العملية ورفع كل التحديات التي من شأنها أن تعيق دور الأسرة في القيام بواجبها التربويفي ظل هذه التحولات الرقمية.