بين الموروث والمشروع أو بين الشعبي والشرعي
هوية بريس – د. إدريس أوهنا
من تأمل كثيرا من سلوكياتنا اليوم، وجدها محكومة بالموروث الاجتماعي وبالثقافة الشعبية، لا بالقوانين والمبادئ الشرعية، التي تبقى في الغالب حبيسة ما يتلى، أو يتداول في المجالس الخاصة.
وهذا الأمر لا يكاد يسلم منه حتى المتدين المتعلم الذي يفهم مبادئ دينه فهما جيدا، ويؤصل لها من الكتاب والسنة تأصيلا محكما. لكنه في واقع الممارسة قد يعمل بخلاف ذلك تماما، وهو لا يقصد وربما لا يشعر.
ومرجع ذلك في الغالب إلى غلبة الموروث على المشروع، والشعبي على الشرعي، ويظهر ذلك جليا في كثير من جزئيات الحياة ومفردات التصرف والسلوك، والأمثلة على ذلك لا تنحصر، ومنها:
المثال الأول: الشرع لا يميز بين الناس على أساس المال أو الجمال أو المنصب أواللون أو الجنس أو غير ذلك من المقاييس الوضعية الفاسدة. لكننا نجد في ثقافتنا الشعبية المتوارثة كثيرا من مظاهر التمييز المبنية على هذه المعايير للأسف الشديد. حتى صارت أمثلة سائرة في ثقافتنا الشعبية؛ نحو قولهم: (شحال عندك تسوى)، و(اللي ما عندو فلوس كلامو مسوس) وغير ذلك من مقاييس التفاضل المزيفة والعنصرية التي تحط من قيمة الشخص لا لشيء إلا لأنه لا يملك ثروة، أو ليس له منصب أو إطار في المجتمع، أو لأنها (غير ولية) كما يقال، أو غير ذلك.
والتمييز على هذه الأسس الهجينة نجده من داخل العائلات وبين الأقارب، حيث يحمد ويمجد صاحب المال أو الجمال أو المركز الاجتماعي أو … حتى وإن كان رصيده من الأخلاق والتقوى: صفر. ويحقر ويزدرى الخلوق التقي لا لعلة فيه إلا لقلة ماله أو ما إلى ذلك.
المثال الثاني: وهو قريب من المثال الأول ومن جنسه، نجد أن الشرع نهى عن المفاخرة والاختيال، قال الله تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور}، لكن الغالب على ثقافتنا الشعبية التفاخر والتباهي بالمنزل والأثاث والسيارة والثروة والأولاد وغير ذلك، الذي يصل أحيانا إلى درجة التعاظم والتكبر والعياذ بالله. وقد يقع في هذا الفخ المذموم شرعا حتى بعض الملتزمين المتمسكين أكثر من غيرهم بالدين ظاهرا.
المثال الثالث: النظرة إلى المرأة؛ فهي في شرع الله قائمة على التكريم والبر والعدل، لكن الموروث الثقافي والاجتماعي يجعل عددا لا يستهان به من الأزواج مثلا يتعاملون مع زوجاتهم من منطلق أنهن خادمات مطيعات، لا رأي لهن، ولا حق لهن في غير الإكساء والإطعام.
المثال الرابع: الشرع نهى عن الغضب، وجعله سهما من سهام إبليس، وفي الحديث: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، في حين أن الموروث الثقافي، يجعل كثيرا من الناس يغضبون لأتفه الأسباب، ويسارعون إلى الطعن واللعن والفحش والبذاءة، وربما امتدت الأيادي والعصي والسكاكين، وتوقفت قنوات العقل عن التفكير، وبلاغات الشرع عن التسيير.
بل نلحظ في بعض الأوساط أن نيل شهادة الاعتراف بالرجولة – زعموا !!- رهين بمدى رفع الصوت بالخصومة، ومدى تعنيف الزوجة، وما إلى ذلك مما ليس له في الثقافة الشرعية سلطان.
المثال الخامس: شرعنا يحظ على الأخذ بالأسباب، وتحري الإحسان والإتقان في ذلك، ثم التوكل على الله تعالى في تحصيل النتائج وبلوغ الغايات، والرضا والقناعة بما تيسر وتقدر من تلك النتائج والغايات، مع السعي الدائم لتطوير الأداء وتحسينه.
لكن الموروث الثقافي يجعل فهم الكثير من الناس للقناعة فهما مغلوطا، فالقناعة عندهم هي الرضا بالدون، والاستسلام أمام الظروف، وقبول الأوضاع المادية وغيرها كما هي دون السعي لتغييرها.. في حين أن القناعة الحقيقية هي أن تحدد أهدافك التي بها تحسن أوضاعك، وتسعى لبلوغها وتحقيقها بالعزم القوي والعمل الجاد، وعندما تصل إلى النتائج من غير تقصير، تقنع بها، سواء كانت على قدر انتظاراتك وتوقعاتك، أو كانت أقل من ذلك. هذه هي القناعة الإيجابية، أما الأولى فلا تعدو أن تكون عجزا وكسلا وسلبية.
وأكتفي بهذه الأمثلة؛ إذ ليس غرضي الاستقصاء والاستقراء، بقدر ما غرضي الروم إلى التنبيه على خطورة تحكم الموروث الثقافي والاجتماعي فينا، ولا علاج لهذه الآفة إلا بالوعي بذلك، والاعتراف به، ومجاهدة النفس على التخلص منه، بالاحتكام إلى المشروع بدل الصدور عن الموروث، ومن سار على الدرب وصل.
بارك الله فيكم
بعد هذا راجعت نفسي فوجدتني امزج في تصرفاتي بين ماهو موروث غير شرعي والموروث الشرعي فتذكرتكم نفعتني شكرا لكم