تداخل الحقول المعرفية وسؤال التوجيه المدرسي
هوية بريس – عبد الرحمان الادريسي
في هذه الأيام، مجموعة من التلاميذ، مقبلون على تعبئة مطبوع التوجيه المدرسي، وكل واحد منهم يختار المسلك الذي يناسبه، بحسب ميوله ومؤهلاته، وهذا أمر عادي، وإجراء روتيني سنوي لا غرابة فيه، بيد أن ما يدفع للاستغراب،اعتقاد كثير منهم ـ ومعهم أولياء أمورهم ـ أن التخصصات التي هم مقبلون على خوض غمارها، والانخراط في سلكها ينبغي أن يصبوا كل اهتمامهم في نطاقها وحيزها، وأن لاقيمة للتخصصات الأخرى، ما دامت في اعتقادهم ثانوية،وهذا ما يفسر انقطاع بعض المتعلمين عن دروس التعليم عن بعد في بعض المواد،بمجرد إعلان وزارة التربية الوطنية عن الاكتفاء بنقط المراقبة المستمرة في بعض الأسلاكفي حساب معدلات النجاح، إثر توقف الدروس الحضورية بسبب جائحة كوفيد 19.
إن هذه العناية الفائقة و الكبيرة بالتخصصات، ولو على حساب الحقول المعرفية الأخرى،قد يظهر للوهلة الأولى أنه أمر طبيعي، وأن له ما يسوغه؛ ذلك أن المقصد إتقان تخصصهم والتفنن فيه.
لكن هذه النظرة ـ أعني التركيز وفقط على مواد التخصص ـ يحفها خطرين اثنين أحدهما آني، والآخر مستقبلي وسأحول تسليط الضوء عليهما بيانا وإيضاحا ـ بإيجاز ـ حسب ما يسمح به المقام.
أولاهما: إهمال التخصصات الأخرى وضعف الاهتمام بها
يجمع الباحثون التربويون، بأن المدرسة المغربية، تعيش على وقع مجموعة من الإكراهات، والتحديات وهذا ما يفسر تتابع مجموعة من الإصلاحات،بناء على دراسات اهتمت بالتنقيب عن ماهية هذه الصعوبات ودوافعها ونتائجها،بيد أن ثلة من المتخصصين ، يهملونجانب ما يتصل بالتوجيه المدرسي وآثاره.
إن عددا من المدرسين في مدارسنا، يشتكون من سلوكات بعض المتعلمين في بعض المواد الدراسية، وعدم اهتمامهم بتلك المواد، وهي مواد في اعتقاد هؤلاء المتعلمين خارج التخصص، فلا داعي للتركيز فيها !ومن المضحك المبكي أن أولئك التلاميذ بعينهم تجدهم متفوقين ومهتمين بمواد التخصص !
وهم لا يدركون بأنهم يفوتون على أنفسهم فوائد جمة، تفيدهم في تخصصهم الذي هم فيه؛ فالعلوم متداخلة ومتلاقحة يكمل بعضها بعضا.
ثانيهما: غياب النظرة النسقية للعلوم والمعارف
لا يختلف اثنان أن التقدم العلمي الحاصل الآن، مدين في جزء كبير منه إلى فكرة التخصص العلمي الدقيق، والذي يعالج إشكالات وجزئيات في منتهى الدقة، ويجيب على تساؤلات تفصيلية في مناحي الحياة، غير أن هذا التخصص على ماله من إيجابيات، أوقع أهله في سجن معرفي، وتفسير أحادي للحقائق،ناهيك عن العزل الشبه التام عن قضايا المجمتع ومصيره.
إن هذا التفسير الأحادي للحقائق أخرج العلوم، عن مسارها الصحيح المتمثل في إسعاد الإنسان وتسهيل عيشه، بل صارت بعض التخصصات العلمية كالتلاعب بالجينات والصناعات الحربية الدقيقة على سبيل المثال..مضرة بالإنسان المعاصر أيما إضرر، ولازالت تجر عليه المصائب والويلات، إثرغيابالبعد الأخلاقي الذي يؤطرها، والنسق الشامل الذي ينظمها.
إننا لسنا ضد التوجيه المدرسي، ولا ندعوا إلى ترك التخصص كلا! فالتوجيه المدرسي أمر ضروري ولابد منه،والتخصص أمر لازم وأكثر من ضروري، ولا ينبغي أن نعدمه، فمن البداهة أنه لا يوجد يستطيع أن يتحكم ويتفوق في جميع العلوم والفنون.
إنما القصد تنبيه التلاميذ وأولياء أمورهم، إلى أنه يجب في الوقت الذي نتخصص فيه، في أي فرع من فروع المعرفة، أن نحفظ كليتنا الإنسانية وكليتنا الاجتماعية، والقاعدة هي أن تعرف شيئا عن كل شيء وأن لا تكتفي بمعرفة كل شيءعن شيء.
ولنا في تراثنا الإسلامي الكثير من النماذج المشرقة من علماء أفذاذ برعوا في أكثر من علم فهذا ابن رشد طبيب وفيلسوف وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي وذاك ابن خلدون مؤرخ، وقاضي، وعالم اجتماع، واقتصادي، وفيلسوف، وسياسي والنماذج كثيرة.