فرنسا والمغرب: هل تستمر سياسية إدارة التوتر ضمن السقف المنخفض؟

14 أكتوبر 2022 07:53

هوية بريس – بلال التليدي

لم يعد هناك أدنى شك أن العلاقات المغربية الفرنسية قد تجاوزت منطقة الجمود والتوتر الصامت إلى مرحلة أخرى أعلى سقفا من سابقتها، فالمؤشرات الجديدة للتوتر بين البلدين، لم تبق في حدود جمود في الزيارات بين مسؤولي البلدين، وغياب الرسائل المجاملاتية، حتى في المناسبات الضرورية (مثل رسائل الاطمئنان على صحة مسؤولي البلدين بعد الإصابة بفيروس كورونا)، بل أصبحت تمس بعض المصالح الحيوية التي كانت دائما ما تعطي صورة واضحة عن الوضعية الامتيازية التي تأخذها العلاقات المغربية الفرنسية.
والواقع، أن مسار العلاقات المغربية الفرنسية لم يكن دائما يسير في اتجاه إيجابي مطرد، بل الثابت في مسار هذه العلاقات هو التحور والتذبذب والانتقال من وضع جيد إلى وضع متوتر أو على الأقل غامض أو بارد، ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه التحولات في مسار العلاقات، لم يسجل في تدبير لحظات التوتر أن استعمل البلدان أوراق الضغط المحسوبة على السقف المرتفع في إدارة الصراع، بما في ذلك ما جرى سنة 2014 حين استفزت فيها فرنسا المغرب، ببعث استدعاء إلى سفير المغرب بفرنسا السيد شكيب بن موسى تطلب مثول مسؤول المخابرات المغربية السيد عبد اللطيف الحموشي للتحقيق أمام القضاء الفرنسي في قضايا تعذيب مفترضة، وهو الذي كان في زيارة لباريس لحضور اجتماع تنسيق أمني دولي (قمة أمنية)، فقد اختار المغرب الرد على هذه الخطوة الاستفزازية باستعمال ورقة قطع التعاون القضائي وهو ما تحملت فيه باريس كلفة ثقيلة بسبب ما تعرضت له من سلسلة هجمات إرهابية استهدفت باريس سنة 2015، كان ربما من الممكن تلافيها لو بقي التنسيق الأمني بين البلدين.

تجدر الملاحظة أن سياق هذه الخطوة الاستفزازية يختلف بشكل كبير عن سياق التوتر الذي يسود العلاقات المغربية الفرنسية في الراهن الحالي، فلحظتها، ما حرك فرنسا هو سياسة توغل الرباط في العمق الإفريقي، وشعور فرنسا ببداية تقلص نفوذها بسبب منافس جديد (المغرب) كانت تعتبر دائما أنه لا يخرج من معطفها، وأنه أداة من أدوات خدمة أجندتها، فأصبح فاعلا يضيق مساحة نفوذ باريس في منطقة كانت تحسبها حديقتها الخلفية، في حين، يعود التوتر الحالي لأسباب أخرى تتعلق بتنويع المغرب لشركائه، ودخوله في تحالفات نادي الكبار، بالشكل الذي أربك قواعد التوازن التي كانت تحكم علاقته بباريس. نذكر في هذا السياق التحول في علاقات المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية، واعتراف الأخيرة بسيادة المغرب على صحرائه والتفاهمات الاستراتيجية التي ثوت خلف هذا الاعتراف (مصالح حيوية أمريكية في إفريقيا تنطلق من منصة الصحراء المغربية)، وأيضا تطور العلاقات المغربية الإسرائيلية، والتي برز فيها عنوان التعاون الأمني والعسكري وحصول المغرب على أسلحة جد متطورة تكنولوجيا، وإبرام اتفاقات عسكرية حساسة (إنتاج طائرات الدرون الانتحارية)، وهو ما أزعج باريس، وأربك التوازنات الإقليمية التي كانت تحرص باريس عليها للحفاظ على خطها الازدواجي في إدارة العلاقة بين المغرب والجزائر، ثم تحول العلاقات المغربية الإسبانية، وتصدر إسبانيا مرتبة الشريك التجاري الأول، ووصول العلاقة مع مدريد المرحلة الاستراتيجية، التي لم يعقها أن تخسر الورقة الطاقية في تدبير علاقتها مع الجزائر، إذ غيرت مدريد موقفها من الصحراء، ووضعت أسسا سليمة لتطوير علاقات استراتيجية مع المغرب لم تكشف بعد حدودها وأبعادها، ويبقى المحدد الرابع، هو التحول في الموقف الألماني في موضوع الصحراء، وما ترتب عنه من علاقات استراتيجية، تمكن برلين من تخفيف كلفة الحصول على الهيدروجين الأخضر من المغرب، هذا فضلا عن مواد أولية ذات قيمة (التروبيك)تراهن عليها ألمانيا لتعزيز ريادتها في صناعة السيارات.

هذا الاختلاف في السياقين، يفسر من زاوية أولى السبب الذي جعل التوتر يدار في سقفه المنخفض، والذي أقصى ورقة استعملتها فيه فرنسا هو ورقة تقليص التأشيرات الممنوحة إلى المغاربة خاصة منهم المسؤولين، ويفسر من زاوية ثانية، عدم اللجوء إلى أي ورقة ضغط تدفع العلاقات بين البلدين إلى الخروج عن منطقة السقف المنخفض، فبدل أن تستعمل أوراق الإضرار، استعملت أوراقا أخرى تشير إلى الاستعاضة عن جزء من مشمولات العلاقة السابقة بالبحث عنها لدى بلدان أخرى.

تمثيل ذلك، أن فرنسا اختارت أن تضع جزءا كبيرا من بيضها في سلة الجزائر، ووجهت الزيارة الأولى لرئيسها المنتخب إليها بما يخالف عادتها البروتوكولية في البدء بزيارة الرباط.

البعض يعتقد أن توجه فرنسا لإصلاح علاقتها مع الجزائر، لا يرتبط ضرورة بجواب أو بعث رسالة سياسية للمغرب، وإنما حاجة فرنسا للطاقة هو الذي أملى عليها ذلك لمواجهة فصل شتاء قاس، وأنها لا تملك في أجندتها ما تقدمه للجزائر سوى أن تتحايل بتقديم تناول في ملف الذاكرة، الذي تعرف أن المزاج النفسي لحكام الجزائر مرتبط بشكل كبير به، وأن تقدم عرضا مشجعا للجزائر من استثمارات، تقنعهم بأن وجهة فرنسا تحولت عن المغرب إليهم، لاسيما وأن الضربة التي تلقتها في قرار مجلس الأمن السابق (2602)، جاءها من قبل الدور الفرنسي الذي استثمر التوتر مع حكام الجزائر وقراراتهم العدائية ضد باريس (قرار منع الطيران العسكري الفرنسي من التحليق فوق أجوائها) لتوجيه ضربة للجزائر في مجلس الأمن.

ومع وجاهة مؤشرات هذا التحليل، إلا أن قوة المصالح الفرنسية بالمغرب، تمنع أن يتم التفكير في تحول استراتيجي يضحى بها لفائدة بناء مصالح أخرى مثيلة في الجزائر، ففرنسا، تدرك أن مصالحها ترتبط في بناء خط ازدواجي في التعامل مع المغرب والجزائر يبنى على شرط الحفاظ على توازن العلاقات بين الطرفين، والتكيف مع ميزان القوى المتأرجح بينهما، كما أن هناك تقدير فرنسي لم يتغير إلى اليوم، يعتبر أن البنية الاقتصادية للجزائر، لا تسمح بتطور الاستثمارات الفرنسية بها، وأن التجارب السابقة، أكدت هذا المعطى، وألا وجود لمؤشرات بتغيير هذه البنية. وفي المقابل، فإن النشاط الذي حققته الاستثمارات الفرنسية المغربية في بنية اقتصادية منفتحة، تضمن امتيازات لها تتجاوز أحيانا حدود القانون (تتدخل السياسة أحيانا لمنع أي إجراءات عقابية ضد الاستثمارات الفرنسية التي تتجاوز حدود القانون)، لا يشجع فرنسا على أن تضحي بمصالح مقطوع بها لأجل مصالح موهومة لا يفترض حصولها في بنية منغلقة اقتصاديا كتلك التي في الجزائر.

المغرب لحد الآن، لم يتجه إلى استعمال أي ورقة محسوبة على إدارة الصراع ضمن السقف العالي، فقد اكتفى بالاحتجاج على إجراءات فرنسا التضييقية على منح التأشيرات للمغاربة، ومضى في تطوير علاقاته الاستراتيجية مع الشركاء الذين أعادوا تعريف مصالحهم بمراعاة مصالح المغرب الحيوية للمغرب، وقدم صفقات حيوية كانت دائما ما تكون ضمن الحظوظ الفرنسية، صفقة القطار الفائق للسرعة بين الدار البيضاء وأكادير الذي قدمت الصين بشأنها طلبا رسميا وسط حديث عن حظوظ وافرة لها للفوز به، ونذكر أيضا، إبرام اتفاق مع روسيا لبناء محطة نووية بالمغرب يستفيد منها المغرب لتوليد الكهرباء.

هذه المؤشرات المحدودة والدالة، تعكس أوراق المغرب لإدارة التوتر ضمن السقف المنخفض في مواجهة أوراق فرنسا، مع تقدير مبني على حسابات خاصة، يرى أن العلاقات المغربية الفرنسية لا يمكن أن تتجه إلى خط التصعيد كما حصل مع برلين ومدريد، وأن تفهما فرنسيا، سيحصل وإن بشكل متأخر لسياسة المغرب تنويع شركائه، كما حصل في السابق، في مالي، بعد أن باريس لخطة استفزازية لم تحسبها حسابا دقيقا.

كلمة سفير المغرب في باريس محمد بنشعبون خلال النسخة الخامسة من عشاء الصداقة الفرنسية المغربية المنعقد بمانت لافيل ضواحي باريس في الأسبوع الماضي، تعزز هذا التقدير، فقد دعا إلى الحفاظ على العلاقات المغربية الفرنسية الكثيفة وتثمينها في مواجهة التحديات الجديدة، وهو ما يفيد بأن الرباط رغم تحركات باريس نحو الجزائر، لا زالت مقتنعة أن الحفاظ على العلاقات مع فرنسا هو أفضل لمصالح البلدين من حالة التوتر ولو ضمن سقفه المنخفض فبالأحرى أن يتجاوز التوتر هذا السقف.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M