لأي شيء تصلح الماكرونية سوى الإجهاز على مكتسبات فرنسا؟

30 يونيو 2023 11:18

هوية بريس – بلال التليدي

قبل أكثر من سنة كتبت مقالا عن أعطاب السياسة الخارجية الفرنسية زمن ماكرون، وعددت الخيبات التي جنتها في أكثر من محور، لاسيما في المنطقة التقليدية التي كانت تعتبرها حديقتها الخلفية في إفريقيا، وأشرت إلى تنامي الغضب الإفريقي من سياسة الهيمنة الفرنسية، وبداية مسلسل الانفلات الإفريقي من قبضتها، بعد أن عبرت كل من مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو عن حالة فيتو ضد الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها.

اليوم، تتواتر المؤشرات، واحدا تلو الآخر، لتجعل من الماكرونية عنوانا لانحسار النفوذ الفرنسي، وتراجع كلي للسياسات الخارجية الفرنسية، والافتقاد لأي رؤية استراتيجية تبرر الدور الفرنسي في أي منطقة.

فعلى المستوى الأوروبي، فشلت سياسة ماكرون، في لعب دور الوسيط المؤثر في الحوار بين أوروبا وموسكو، وأضحت باريس التي كانت تعتقد بأن فتحها للحوار المستمر مع الكرملين، يمكن أن يؤهلها للاحتفاظ بالدور القيادي في أوروبا إلى جانب برلين، أضحت فاقدة للدورين معا، أي مباشرة الحوار مع بوتين من جهة، وقيادة السياسة الأوروبية تجاه موسكو من جهة ثانية.

في الجانب الثاني من الزاوية، كان يفترض، أن تقوم باريس بدور أوروبي قيادي مركزي في الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض قواعد التوازن في إدارة الصراع مع موسكو، وعدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية لدفع أوروبا للواجهة والتربح من إدارة الحرب مع موسكو من خلال أوكرانيا، وبواجهة أوروبية، فقد أبانت أزمة الغاز، عن عجز أوروبي تام في مواجهة الابتزاز الطاقي الأمريكي، ولم تنجح باريس في جر أوروبا لرفع فيتو على أمريكا أو الضغط عليها، لإجبارها على الخروج من منطقة توظيف أوروبا من أجل التكسب الطاقي وإلزامها بقاعدة التضحية الجماعية في سبيل منع التغول الروسي على أوروبا.

على المستوى العربي، فقد فقدت السياسة الخارجية الفرنسية محاورها التقليدية، لاسيما في سوريا ولبنان، وأظهرت المؤشرات أن زيارة ماكرون لبيروت، في ذروة الأزمة الداخلية اللبنانية، كانت أشبه ما تكون بحالة إعلامية، لا مخرجات سياسية من ورائها، ولم يكن عناق السيد إيمانويل ماكرون مع شخصيات من تيار الرابع عشر من آذار، لتقنع بالقدرة على مدافعة الأجندة الإيرانية، أو منافسة الدور الإقليمي السعودي في المنطقة، واقتنعت النخبة السياسية اللبنانية، أن قدرة فرنسا على حلحلة الملف اللبناني، أضحت جد محدودة، إن لم تكن منعدمة بالمطلق. فقد كان أمامها ملف ضخم اسمه تفجير مرفأ بيروت، لكنها لم تستطع أن تكسب من ورائه شيئا لإعادة ترتيب نفوذها في المنطقة.

وفي الملف الفلسطيني، لم يعد هناك صوت أوروبي، أو فرنسي، يسمع ضمن مبادرات حلحلة ملف تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ولوحظ انعدام أي دور فرنسي حتى في التدخل لإقناع الطرف الفلسطيني والإسرائيلي بإيقاف التصعيد أو الاتفاق على وقف إطلاق النار في مسارات التصعيد المستمرة على مدى عقد من الزمان، وغطت قطر ومصر والأردن والولايات المتحدة الأمريكية المكان كاملا، ولم يعد لباريس ولو نافذة صغيرة تطل منها على المنطقة، وتبرر بها أي دور مفترض.

الحرب الروسية الأوكرانية، كان لها وقع شديد على باريس، لاسيما في المنطقة الإفريقية، فلم تعد باريس قادرة على أن تؤمن علاقاتها مع حديقتها الخلفية في وقت اقتصاد الندرة وتنامي أزمة الطاقة والغذاء في القارة السمراء، وبدت قدرة موسكو على مغازلة هذه الدول كبيرة، سواء بالدعاية بتقديم حزمة دعم غذائي مجاني للدول الأفريقية الفقيرة، أو ممارسة هجوم إعلامي على سياسية أوروبا في تفقير هذه الشعوب عبر احتكار مخرجات اتفاق تأمين الغذاء ومنعه من الوصول إلى القارة الإفريقية.

وقد كشفت تواتر الزيارات الإفريقية إلى موسكو، فضلا عن قيام وفد إفريقي بمبادرة للسلام بين كييف والكرملين، تراجع الدور الفرنسي وغياب أي عرض منافس، بل وغياب أي رؤية لتدبير المخاطر، تمكن باريس من استعادة ولو جزء من نفوذها الإقليمي في منطقة الساحل جنوب الصحراء أو منطقة غرب إفريقيا.

في الملف الليبي، وعلى الرغم من النجاح النسبي زمن الربيع العربي، في إزاحة النفوذ الروسي بتنسيق أوروبي أمريكي، إلا أن باريس، لم تنجح في تحريك الأوراق المعقدة في الرقعة السياسية والميدانية في ليبيا، وتعرضت أوراقها للإرباك الشديد بسبب عجزها عن التفاعل الإيجابي مع الدور التركي في المنطقة، وعدم قدرتها على التنسيق بين اختلاف الأدوار المصرية والإماراتية والجزائرية المتضاربة في المنطقة.

والأخطر من ذلك كله، أن السيد إيمانويل ماكرون، دخل في مغامرة غير محسوبة العواقب، حينما ضحى برؤية فرنسا التقليدية في إدارة التوازن الإقليمي في المنطقة المغاربية، إذ اتجهت في سياق محاولتها محاصرة النفوذ المغربي المتسارع إقليميا، وكسب رهان تلبية الحاجات الطاقية، إقناع الجزائر من إبرام شراكة استراتيجية استثنائية، لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر، حتى تفجرت بحادثة أميرة بوراوي بعد أن اتهمت الجزائر باريس بالتدخل السافر في شأنها الداخلي، عبر اشتغال السفارة الفرنسية في الجزائر بتيسير عملية تسفير هذه الناشطة عبر الحدود الجزائرية إلى تونس، ثم عبر تونس إلى ليون، وهو ما أثار موجة غضب جزائرية عارمة.

وعلى الرغم من محاولة تطويق الأزمة، وعودة السفير الجزائري إلى باريس، إلا أن رفض باريس المتكرر لبرمجة زيارة كانت مقررة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إليها، دفع الجزائر إلى تصعيد الموقف ضد باريس، والتوجه نحو موسكو في زيارة طالما تأجلت، وذلك بالتزامن مع إصدار مرسوم، يضيف إلى النشيد الوطني الجزائري مقاطع كانت حذفت في السابق في سياق التهدئة مع فرنسا وتجسير علاقات طبيعية معها، وهو ما اعتبرته مختلف النخب السياسية الفرنسية إعلان عداء سافر من قبل الجزائر لفرنسا، فاستثمرت اللحظة لتوجيه نقد قاس للسياسة الخارجية الماكرونية، متهمين إياها بتضييع كل مكتسبات فرنسا، والسباحة من غير رؤية استراتيجية ناظمة.

المثير في النقد الذي وجهته النخب السياسية الفرنسية لسياسة ماكرون الخارجية، ليس التركيز على المكتسبات الجديدة التي كان من المفترض للسيد إيمانويل ماكرون أن يراكمها، وإنما لفت الانتباه إلى تضييع الإرث التقليدي في السياسة الخارجية الفرنسية، ومنها خسارة الحلفاء التقليديين، وسوء توظيف القواعد الاستراتيجية التقليدية سواء في إدارة العلاقة بين أوروبا وأمريكا أو في إدارة العلاقات الخارجية في مناطق النزاع المحكومة بتوازنات إقليمية.

في الخلاصة، لقد أضاع إيمانويل ماكرون مركز فرنسا كفاعل قوي داخل الاتحاد الأوروبي، ولم تعد باريس تقوم بأي دور لحفظ التوازن بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وفشلت في لعب دور حلقة الوصل والتواصل بين موسكو والاتحاد الأوروبي، وفقدت أدوراها المركزية في الشرق الأوسط، وهيجت الطلب الإفريقي على فك الارتهان بالهيمنة الفرنسية، وبدت سياسة ماكرون عاجزة تماما عن إدارة التوازن الإقليمي بين الجزائر والمغرب، فلا هي كسبت الجزائر ولا هي حافظت على حليفها التقليدي المغرب، وهي اليوم، تعاني غموض الرؤية واضطرابها هذا إن لم نقل ضيق الخيارات ومحدوديتها.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M