“مدونة الأسرة”.. إشارات ملكية لخطباء وأئمة المساجد

15 أبريل 2024 18:23

هوية بريس – عبد المولى المروري

في حمأة الصراع بين تيار الحداثيين والمحافظين، وأمام حالة الانجراف الذي عرفه هذا السجال العنيف، يتساءل الناس عن موقف الملك ورأيه الخاص من اقتراحات كل تيار، وهل هو على الحياد أم يميل إلى أحد التوجهين؟

من الصعب أن يصطف الملك لفائدة اتجاه إيديولوجي ضد آخر بشكل واضح وعلني، لأنه حسب العرف أن الملك هو ملك لجميع المغاربة بمختلف توجهاتهم واتجاهاتهم، باعتباره راعيا وحكما لهم، ويقف على المسافة نفسها بالنسبة لجميع التوجهات، مع استحضار الرقابة الدولية الآتية من دول استعمارية ومؤسسات مالية مانحة ومنظمات حقوقية تحصي أنفاس رؤساء وملوك العالم المتخلف..

فرغم أن الملك يستمد شرعية حكمه من عقد البيعة قبل انتقال الحكم بالوراثة، إذ لا حكم بدون بيعة شرعية صريحة وواضحة في النظام المغربي، ورغم أن مؤسسة إمارة المؤمنين هي أعلى من مؤسسة رئاسة الدولة، لأن الأولى استمدت شرعيتها من الدين، والثانية أكد شرعيتها ومشروعيتها الدستور..

وبعيدا عن الجدال غير المنتج – في الوقت الراهن – الذي يتساءل عن حضور عقد البيعة ومؤسسة إمارة المؤمنين في واقع المغرب التشريعي والقانوني والاقتصادي والحياتي.. لأن ذلك ليس موضوعنا الآن، بقدر ما أن الراهنية وواجب الوقت ينصرف نحو كيفية التعامل مع المقترحات التي تهم مراجعة مدونة الأسرة، وكيف نقرأ التوجه الملكي من خلال إشاراته ورمزية تحركاته الأخيرة..

فرغم أن الإطار القانوني والتشريعي الذي وضعه الملك عند إطلاقه ورش مراجعة المدونة والذي حدده في خطابه بالقول: لن أحل حراما، ولن أحرم حلالا، فإن التيار الحداثي اللاديني قفز قفزة كبيرة وألقى بنفسه خارج الإطار الذي حدده الملك، وأخذ يقحم ما لا يستقيم مع قيم المغاربة ودينهم وعقيدتهم وثقافتهم وأعرافهم.. مستغلا صمت الملك، وضغط المنتظم الدولي، وما أُتيح لهذا التيار من إمكانيات إعلامية ومالية لنشر أفكاره الدخيلة..

ولكن هل إن الملك صامت كما يتوقع الكثيرون، أم إنه يبدي رأيه من خلال إشارات رمزية يجب قراءتها على الوجه المناسب؟

لا يجب أن يشك عاقل أن المقترحات التي يسوق لها التيار الحداثي اللاديني تتجاوز المعلن عنه إعلاميا، فهي لا تقف عند إلغاء نظام الإرث، ولا استبدال عقد الزواج الشرعي بالعقد المدني، ولا جعل الولاية على الأبناء على قدم المساواة بين الأب والأم.. أو غير ذلك من المقترحات الخطيرة..

فاستبدال العقد الشرعي في الزواج في أفق إلغاءه باعتباره ينبني على خلفية طائفية ودينية غير حقوقية، هو في العمق يستهدف إلغاء عقد البيعة الشرعية التي تجمع ملوك المغرب بالشعب.. والملك لن يفوته أو يغيب عنه هذا البعد..

وإلغاء نظام الإرث وجعل الولاية الشرعية بالتساوي بين الأب والأم هو استبدال لنظام انتقال الملك وإلغاء لمؤسسة إمارة المؤمنين، والملك يدرك هذا جيدا..

وبطبيعة الحال المقترحات التي يطمح الحداثيون اللادينيون إلى فرضها على المغرب تشكل على المدى المتوسط، وفي حالة إقرارها تهديدا حقيقيا لنظام الحكم ولاستقرار الدولة، الأمر الذي لن يقبل به ملك البلاد..

ولكن كيف سيعبر الملك على رفضه لذلك؟ هل نتوقع أن يخرج بخطاب مفصل يبين فيه رأيه وموقفه وانزعاجه من اقتراحات الحداثيين اللادينيين؟ طبعا لا! لن يفعل ذلك..

ولكن في المقابل لابد للفاعل السياسي،. للمثقف، وللعلماء وأئمة المساجد أن يلتقطوا الإشارات الدالة على موقف الملك من كل هذا..

ألم يلاحظ علماء المغرب وخطباؤه وأئمة مساجده أن كل تحركات وخرجات الملك خلال الشهور الأخيرة كانت ذات طابع ديني صرف، وبكثافة غير معهودة عليه، من خلال إذاعة حضوره لصلاة الجمعة في مناسبات عديدة، إقامته للدروس الحسنية بمعدل مرتفع عن السابق، واستقباله لرؤساء وممثلي مؤسسات محمد السادس للعلماء بإفريقيا، وترؤسه الشخصي لحفل ختم صحيح البخاري مع ما يحمل ذلك من رمزية ورسالة مباشرة موجهة إلى أولئك الذين يطعنون ويشككون في صحيح البخاري، والتزامه بالزي التقليدي، والكف عن ظهوره بالمظهر الحداثي كما كان سابقا، بملابس شبابية عصرية، وغير ذلك من المظاهر الرمزية والحقيقية التي تؤكد على تشبت الملك بالسنة النبوية ونشره وعنايته بالحديث النبوي..

ولكن ربما كل هذا لم يكف للبعض من العلماء والأئمة وخطباء المساجد لالتقاط وفهم الرسائل الملكية في هذا الجانب..

وفي سابقة من نوعها، يقوم إمام من سوس العالمة بإلقاء خطبة عيد الفطر أمام آلاف المغاربة، في ساحة عمومية، تحت عدسات ثلاث كاميرات وميكروفونات، وتحت رقابة رجال الأمن والمخابرات والسلطة.. ليوجه كلمة مباشرة وصريحة وواضحة للتيار الحداثي اللاديني.. هل كان ذلك حدثا عابرا، أو فلتة من الفلتات التي لم تنتبه إليها الدولة؟ أم كان ذلك بإيعاز وتوجيه من جهة داخل الدولة ترفض مقترحات التيار الحداثي اللاديني؟ لابد من النظر بعمق في هذه السابقة!

وكيف نقرأ الخطبة الأخيرة لخطيب الجمعة بمسجد الحسن الثاني، وما لرمزية هذا المسجد ولخطيبه في الوعي المغربي ومخياله؟ وللتأكد من ذلك يكفي العودة إلى صلوات التراويح التي يعرفها مسجد الحسن الثاني، والاستمتاع بالنظر إلى عشرات الآلاف من المصلين خلف إمامهم من أجل قراءة دلالات خطبته الأخيرة والرسائل التي تبعثها لباقي خطباء المساجد في ربوع المغرب.

هذه رسائل وإشارات رمزية موجه لأئمة المساجد وخطباء الجمعة للقيام بواجبهم الشرعي وفضح مخططات الحداثيين الذين يستهدفون عمق الدولة المغربية ومرتكزات وجودها الشرعية والتاريخية، هي دعوة لا تتطلب المزيد من الشرح والبيان للحديث إلى الناس بضرورة الانتباه إلى تلك السموم التي يدسها الحداثيون في كلام معسول باسم الحرية والمساواة..

هذا ضوء أخضر من ملك البلاد إلى كل العلماء وأئمة وخطباء المساجد لنفض غبار الخمول والخوف والقيام بواجب دعوة الناس إلى التشبث بأركان الدولة وثوابتها ومقوماتها..

لقد أصبح واضحا للعيان أن هناك تيار نافذ داخل الدولة يعمل ضد نظام الحكم المؤسس على نظام البيعة وإمارة المؤمنين، رغم أن هذين النظامين قد يظهرا للبعض أنهما شكليان ولا أثر لهما على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المغربي، فإن مجرد وجودهما يشكل لهؤلاء إزعاجا حقيقيا، ويسعون بأي طريقة ممكنة إلى إلغاءه واستبداله بنظام آخر قائم على تدمير البعد الإسلامي للدولة المغربية..

فالبعد الديني لعقد البيعة وإمارة المؤمنين يشكلان لهؤلاء النافذين داخل الدولة حاجزا موضوعيا نحو إلحاق المغرب بنظام علماني لاديني، والأمر الذي يشكل تهديدا حقيقيا -إذا نجح مخططهم- لنظام الحكم القائم على عقد البيعة الشرعية وإمارة المؤمنين، فالهدف عند هؤلاء هو إعدام أي مظهر من مظاهر إسلامية الدولة على غرار ما قام به مصطفى كمال أتاتورك في تركيا بإلغاء الخلافة الإسلامية.. وبعد ذلك يسهل العبث بقيم المغاربة ودينهم، والدخول رسميا إلى الإرهاب العلماني المتطرف باستدعاء التجربة التركية الكمالية والتونسية البنعلية..

فهل سيلبي العلماء وخطباء المساجد دعوة ملك البلاد للدفاع عن إسلامية الدولة أم سيستمرون على نهج حيادهم السلبي والتفرج في مشروع علمنة الدولة وإسقاط البيعة الشرعية وإلغاء مؤسسة إمارة المؤمنين؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M