مطلب المساواة بين الجنسين.. رؤية فقهية متجددة (3/3)

16 أكتوبر 2023 15:08

هوية برييس – د.إسماعيل حفيان[1]

سؤال التفاوت في أنصبة المواريث بين الرجل والمرأة: تفسير وتعليل

ذكرت في الحلقة السابقة أني سأضرب مثلا أعرضه على الدارسين لأجل البحث والمقارنة والتحقيق، نجيب من خلاله عن سؤال: هل تتضمن الأحكام الشرعية التي يشغب بها من يدعون نصرة المرأة والدفاع عن حقوقهاقهرا لها وتسلطا عليها، أم هي رحمة بها، وعطف عليها؟

وسنكتفي بمثال واحد، وهو يتعلق بقضية التفاوت في أنصبة المواريث بين الرجل والمرأة، وهي أم الباب فيما نحن بصدده، وما بقي تابع لها في منهج الرد والإبطال، وإذا سقط ما يعدونه أصلا، تبعه بالضرورة ما يتفرع عنه.

لا يعرف دعاة التحرر والتنوير على النمط الغربي في هذا الباب إلا قوله تعالى: “لِلذَّكَرِ مِثۡلُ‌ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ“[النساء: 11] يمسكون بهذا الجزء من الآية مسكا متعسفا، منفصلا عن سباقه وسياقه ولحاقه، ولا يقرؤونه في إطار نظامه الاجتماعي المتكامل الذي تتقابل فيه الحقوق والواجبات، وتتكامل فيه الوظائف والأدوار، وتراعى فيه الاستعدادات الطبيعية من تركيب نفسي وعاطفي، ومقدرة جسدية، وغير ذلك.

إن الحقيقة العلمية المستقرأة من حالات إرث المرأة في الإسلام أن مرجعها إلى قاعدتين جامعتين:

القاعدة الأولى: الأصل في إرث المرأة الفرض لا التعصيب

إن إرث المرأة في الإسلام الأصل فيه والأكثر أنه يكون بالفرض لا التعصيب. والفرض هو النصيب المقدر شرعًا لوارث مخصوص، لا يزيد إلا بالرد، ولا ينقص إلا بالعَول[2]، وذلك كالنصف للبنت إذا كانت واحدة، والثمن للزوجة إذا كان له ولد، والربع للزوج إذا لم يكن لها ولد، وهكذا. أما التعصيب فهو ما يحصل عليه العصبة وهم قرابة الهالك من جهة أبيه بعد أصحاب الفروض. والعاصب قد يرث جميع المال إذا انفرد بالتركة، وقد لا يرث شيئا إذا لم يفضل عن أصحاب الفروض شيئا.

ومعلوم أن أصحاب الفروض مقدمون في قسمة التركة، يأخذون حظوظهم قبل غيرهم من العصبة. أي أن حق المرأة مكفول دائما بنصوص قاطعة، لا يدخلها تأويل، ولا يمكن التغيير فيها من أي كان، على أي حال، ولو بوصية الهالك نفسه، وأخصهن من النساء لا يحجبون حجب حرمان، كالزوجة والبنت والأم، وهؤلاء هن قرة عين الهالك من الإناث. أما الأخريات، كالأخت، والجدة، وبنت الابن، فقد يحجبون في أحوال خاصة.

والفروض المقدرة في القرآن ستة، وهي: السدس، والثلث، والثلثان، والثمن، والربع، والنصف.

وإذا استقرينا ما تستحقه المرأة من هذه الفروض في حالاتها الإرثية، فسنجده يقدر بنسبة (%78). وتبقى نسبة (%12) للرجل.

أما السدس فترث فيه بنسبة (%62)، والثلث (%75)، والثلثان(%100)، والثمن(%100)، والربع(%50)، والنصف(%80).

ولا يخفى أن هذه حظوظ كبيرة، ما علمت أن شريعة من الشرائع أعطتها للمرأة، وهي مضمونة بقوة الشرع، ومكفولة بسلطة القضاء، وهي كذلك مستحقة لها بالنظر لمكانتها الأسرية والاجتماعية، وذلك باعتراف من شقيقها الرجل الذي يلزمه الشرع بتمكينها منها طيبة بذلك نفسه من غير امتعاض ولا اعتراض.

القاعدة الثانية: إرث المرأة بين المعايير الموضوعية والتكاليف الاجتماعية

إن الحالات التطبيقية المقارنة لإرث المرأة مع الرجل لا تخرج عن أربعة أقسام[3]، وفي كل قسم حالات افتراضية كثيرة، وهي:

  • قسم أول: ترث فيه المرأة مثل الرجل.
  • قسم ثان: ترث فيه أكثر من الرجل.
  • قسم ثالث: ترث فيه المرأة، ولا يرث الرجل شيئا.
  • قسم رابع: ترث فيه المرأة نصف ما يرثه الرجل.

والأقسام الثلاث الأولى من هذه الأقسام تشكل بالحساب الاحتمالي والعد الرياضي لمجموع حالاتها الإرثية ما تقرب نسبته من  (%84). أما (%16) المتبقية فهي من القسم الرابع الذي ترث فيه المرأة نصف ما يرثه الرجل.

وبهذا يتبين بلا شك أن قسمة المواريث في الشريعة الإسلامية لا ترجع إلى ذكورة ولا إلى أنوثة من حيث هي كذلك، وإنما ترجع إلى معايير أخرى لم ينتبه إليها أولئك المنكرون المعترضون.

وقد حرر هذه المعايير وبينها الدكتور محمد عمارة في مقدمته لكتاب “ميراث المرأة وقضية المساواة” للدكتور صلاح سلطان، وأثبت أنها ترجع إلى معايير موضوعية: اجتماعية واقتصادية، وليست جنسية، وهي:

  • درجة القرابة بين الوارث والمورث، فكلما زادت الصلة زادت القرابة: فالولد دائما مقدم على الإخوة، والابن مقدم على ابن الابن، والأخ يقدم على العم، وهكذا.
  • موقع الجيل الوارث من جيل المورث، فالأجيال التي تستقبل الحياة وتنتظرها أعباء كثيرة يكون نصيبها أكثر، فالبنت ترث أكثر من أمها وأبيها، وابن الابن وبنت الابن يرثان أكثر من الأم والجدة عند الانفراد، والأب يرث والجد لا يرث لأنه محجوب بابنه، وهكذا.
  • العبء المالي الذي يتحمله الوارث، فبقدر ما أناط الشارع بالوارث مسؤوليات مالية كثيرة، يرتب على ذلك نصيبا أكبر من الإرث لتتكافأ المغانم والمغارم، ويكون الضمان على قدر الخراج[4].

ولنعرض الآن شواهد ونماذج واقعية من الحالات الأربع المتقدمة:

  • نماذج وأمثلة من حالات القسم الأول الذي ترث فيه المرأة مثل الرجل
  • ترك أما، وأبا،وبنتين، فالأم لها (6/1) والأب له (6/1) مثل الأم سواء بسواء. أما البنتان فلهما الثلثان.
  • تركت زوجا، وأختا شقيقة، فالزوج له النصف والأخت الشقيقة لها النصف كذلك.
  • ترك ابنا فردا، فتكون له التركة كلها، وكذلك إذا ترك بنتا وكانت منفردة، ترث التركة كلها، نصفها بالفرض، ونصفها الآخر بالرد.

2- نماذج وأمثلة من حالات القسم الثاني الذي ترث فيه المرأة أكثر من الرجل

  • ترك أما، وأبا،وبنتين، فالأم لها (6/1) والأب له (6/1) مثل الأم. أما البنتان فلهما الثلثان. وكل واحدة من البنتين لها (3/1) وهو أكثر من (6/1) الأب، وهو رجل وهما بنتان.
  • ترك أختين لأم، وأما، وزوجة، وأخوين شقيقين، فالأختان لهما (3/1) والأم لها (6/1) والزوجة لها (4/1) والأخوانالعاصبان لهما الباقي، وهو يقدر بالربع. وبين واضح من هذه النسب أن كل واحدة من هؤلاء النسوة يفوق حظها حظ كل واحد من الإخوة الأشقاء عندما نقابلها ببعضها.
  • نماذج من حالات القسم الثالث الذي ترث فيه المرأة ولا يرث فيه الرجل.
  • ترك جدا لأم، وجدة لأم، فهذان جدان من نفس الدرجة، فالجد لأم لا يرث شيئا، وترث الجدة (6/1)، والباقي يرثه باقي الورثة بحسب القسمة الشرعية.
  • ترك أختا شقيقة، وزوجا، وأخا لأب، فالأخت الشقيقة لها(2/1) والزوج له (2/1) والأخ لأب لم يبق له شيء، فلا يرث شيئا، ولو فرضنا الأخ لأب أختا لأب لورثت (6/1) مع الأخت الشقيقة تكملة للثلثين.
  • حالات القسم الرابع الذي ترث فيه المرأة نصف الرجل.

وهذا القسم هو الأقل، وتنحصر حالاته في أربع، ترث فيها المرأة نصف ما يرثه الرجل، وهي:

  • البنت مع الابن إذا انفردا بالتركة.
  • الزوجة ترث الثمن إذا كان لزوجها الهالك ولد، والربع إن لم يكن له ولد، والزوج يرث ضعفها في الحالين معا، إلا أنهما لا يجتمعان معا في تركة واحدة أبدا.
  • الأخت الشقيقة مع أخيها الشقيق، والأخت لأب مع أخيها لأب، للذكر منهما مثل حظ الأنثيين إذا كان إرثهما بالتعصيب.
  • الأب مع الأم عند عدم الولد ولا زوج ولا زوجة، فترث هي الثلث، ويرث هو الباقي بالتعصيب، وهو بالتقدير ضعف نصيب الأم.

وفي حالات هذا القسم يطلب أصحاب الاتجاه الحداثي التعليل، ولا يطلبونه فيما سبق من الحالات السابقة، ونحنوإن كان بإمكاننا أن نعترض على هذا الطلب ونرده، إلا أننا سنقبله منهم، ونتغاضى عن سوء النية، وغياب الموضوعية، ونجيب على ذلك بمثال عملي تطبيقي؟

لنستحضر مثال الابن والبنت ونحاول أن نستعرض نموذجا لأكبر وأهم موازنة مالية ستواجههما في الحياة، وهي المسؤوليات المالية للزواج وتكاليفه المستمرة، ونرى هل المرأة مظلومة في هذه القسمة، أم هي مستفيدة منها؟

  • المهر يقدمه الابن. أما البنت فستأخذه وتنتفع به.
  • النفقة على العيال من إطعام، وملبس، وعلاج سيقدمها الابن. أما البنت فستأخذها.
  • الابن يتحمل مصاريف العرس ووليمته، وتأثيث البيت، والبنت تستمتع بكل ذلك.
  • الابن يتحمل نفقات الجهاد والدفاع عن الوطن بماله ونفسه، ولا شيء على البنت من ذلك.
  • الابن يتحمل دية الخطأ التي تكون على العاقلة، ولا شيء على البنت.
  • الابن سيتحمل كلفة الضيافة، وأضحية العيد، وزكاة الفطر التي يبدلها على بناته وزوجته، ولا شيء من ذلك يفرض على البنت.
  • الابن إذا طلق زوجته مكنها من متعة الطلاق، والبنت هي من ستأخذها، ولا عكس كما في حال الطلاق للشقاق.
  • الابن سيدفع نفقة العدة، وأجرة الرضاع والحضانة، وسكن المحضون، ونفقة الأبناء، إذا لزمه ذلك، ولا شيء على المرأة من ذلك.

فهذه التكاليف وغيرها كثير، تدل كل باحث منصف على أن الإسلام يقدم للبشرية مفهوما متميزا للمساواة، يؤلف بين الجنسين من غير محاباة ولا تمييز، تتكامل فيه الوظائف والأدوار، وتراعى المواهب والاستعدادات، وتتكافأ الحقوق مع الواجبات، بل ربما لو وقعت المشاحة بين الرجل والمرأة وكشفت الحسابات لكانت المرأة هي صاحبة الكفة الراجحة، وهي لذلك مستحقة، وبه حقيقة سواء من جهة الطبع، أو من جهة الشرع، ولكان عطاء الرجل أكثر من أخذه، وهذا هو الذي يليق به؛ فإنه لا يكون جديرا بهذا الوصف إلا إذا كان ما يعطي أكثر مما يأخذ، وإلا انتفت عنه صفة الرجولة، وفقد معاني النبل والشهامة، وفي هذا يقول الشيخ التاويل -رحمه الله- في تعليقه على الموازنة المتقدمة: “يتبين أن ما تأخذه المرأة من الميراث لا تحتاج إليه إلا في حالة نادرة عندما تكون يتيمة، أو تصبح أرملة لا زوج لها ولا أبناء يتحملون نفقتها”[5].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– الدكتور إسماعيل حفيان، أستاذ مادة الفقه وأصوله بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

[2]– إعانة الطالب في بداية علم الفرائض، أحمد بن يوسف الأهدل، دار طوق النجاة، 2007، ص23.

[3]– ميراث المرأة المسلمة، وقضية المساواة، صلاح سلطان، دار نهضة مصر، القاهرة: 1999م، ص10-11

[4]– المرجع نفسه: ص 4 وما بعدها.

[5]– لا ذكورية في الفقه، محمد التاويل، منشورات البشير بن عطية، فاس: 2019م. ص93.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M