من الطعن إلى التشكيك

05 مارس 2024 20:51

هوية بريس – مولاي التهامي بهطاط

من الأدلة الشاهدة على أن “الدين عند الله الإسلام” (آل عمران 19)، الهجمة الشرسة التي يتعرض لها هذا الدين اليوم من جبهات متعددة، وبأسلحة متنوعة.

وجه “المعجزة” هنا يتمثل في أن كل هذه الهجمات ترتد على أصحابها، رغم الجهود والأموال التي تصرف عليها.. “فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون”. (الفرقان 36)

ولعل أهم مؤشر يمكن التوقف عنده بالمناسبة، هو أن تراجع الاستشراق الذي لم يعد له توهجه السابق، حيث تأكد رواده -على ما يبدو- من أن معركة الطعن في هذا الدين خاسرة لامحالة، لذلك سعى الجيل الجديد منهم إلى تغيير استراتيجياته، من محاولة القضاء على الإسلام، إلى التشكيك في أسسه وأصوله التي يقوم عليها… لأن الغاية في النهاية واحدة.

وإذا كانت هذه الموجة ستتكسر حتما على صخرة الواقع العنيد، كما تكسرت سابقاتها، فإن ذلك لا يمنع من تسجيل بعض الملاحظات، خاصة وأن الحرب على الإسلام اليوم، تعتمد على أجيال جديدة تعرضت لغسيل عقول متواصل.

أولى هذه الملاحظات تتمثل في أن “حسن النية” يقود أحيانا إلى الوقوع في المحذور والمحظور.

فمن التقنيات المعتمدة ضمن حملة التشكيك تقنية تقديم الباطل في لبوس الحق، من خلال الاختفاء وراء “العقلانية” للطعن في بعض النصوص الشرعية، أو اتهام “الفقهاء” بتحريفها أو سوء فهمها.

وغالبا ما تجد هذه الشبهات سوقا رائجة في بعض الأوساط التي تنطلي عليها “ألعاب الخفة” التي يمارسها هؤلاء، خاصة حين يوضع “العلم” في مواجهة “الفقه”، وكأنهما نقيضان لا يجتمعان مع أن الفقه هو العلم والفهم.

ولهذا تجد اليوم كثيرا من الشباب، تحديدا، يرددون هذا الكلام دون تدبر، ودون إعمال “العقل” الذي يفترض أن “الفقهاء” يعطلونه ويحاربونه.

بل تجد أحيانا احتفاء بالمعتزلة، باعتبارهم رواد “العقلانية” في الفكر الإسلامي والحال أنه لا أحد يتساءل كيف تعامل هؤلاء مع مخالفيهم، عندما تبنت السلطة مذهبهم. هل جادلوا معارضيهم بالعقل، أم سجنوهم ونكلوا بهم وسحلوهم، وسلطوا السيف على رقابهم؟

المثير هنا، أن من يحتفي بالمعتزلة لا يتوقف عند هزائمهم المدوية في كل المعارك الفكرية التي خاضوها، مع معاصريهم من “الفقهاء”، كما حدث مثلا مع عبد العزيز الكناني الذي أسقط مذهب الاعتزال بأدلة عقلية ونقلية موثقة في كتاب “الحيدة والاعتذار”.. لكن من يقرأ؟

الملاحظة الثانية تتمثل في إثارة كثير من الشبهات القديمة والمستهلكة، التي تم الرد عليها في بدايتها، وبشكل أفحم مخترعيها ومروجيها، لكن رواد حملة التشكيك الحالية، يراهنون على مخاطبة جمهور لا يقرأ، ولا يبحث ولا يتحقق.

وهنا لابد من وقفة، ذلك أن كثيرا من الدراسات والإحصائيات تفيد أن الإسلام هو أكثر وأسرع الأديان انتشارا في العالم، خاصة في المجتمعات الغربية، رغم حملات الشيطنة المتواصلة منذ عقود، ورغم المساعي الحثيثة لربطه بالعنف والإرهاب والتخلف واحتقار المرأة والشواذ، وغيرها من الألفاظ والمفاهيم التي لها وقع خاص في الدول الغربية.

والسبب في هذه المفارقة، يتمثل في كون الإنسان الغربي، تربى على التفكير والتحليل والنقاش، ولذلك لا يتقبل هذه الاتهامات دون دليل، بل هناك أرقام تشير إلى أن كل حملة شيطنة تستهدف الإسلام، تعقبها موجة من دخول الناس أفواجا في هذا الدين، وذلك عكس ما يحدث في بعض المجتمعات المسلمة، التي تتقبل هذه الشبهات دون النبش في حقيقتها أو البحث عما كتب في الرد عليها، لسبب بسيط هو أن “الحس النقدي” قتل في بلاد المسلمين، فأصبح عاديا أن تجد صاحب التعليم العالي يردد كلاما لا يقبله عقل تلميذ في الابتدائي، بل ويتمسك به حتى لو خالف أبجديات التفكير “العقلاني”..

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتمثل في اعتماد بعض الأقوال الشاذة في اتجاهين:

إما بجعلها دليلا على معاداة “الفقهاء” للعقل وللعلم، وعدم قدرتهم على فهم النص الشرعي، أو بتبنيها وتقديمها على أنها الحق الذي حاول “الفقهاء” التغطية عليه.

وهنا أيضا تتثور مرة أخرى مشكلة تعطيل الحس النقدي لدى المسلمين، مع أن المادة العلمية متوفرة، إذ لم يعد الأمر يتطلب شراء أطنان من الكتب، أو الطواف على المكتبات للبحث عن مراجع نادرة.

وفوق ذلك، كيف يقبل “العقل” مثلا، اتهام أئمة اللغة بالعجز عن فهم نص كتب بالعربية، بينما يبرع اليوم في فهمه من لا يفرق حتى بين الجملتين الفعلية والإسمية؟

ويتضح هذا أكثر في الشق المرتبط بالترويج لبعض الروايات غير الصحيحة أو الشاذة، خاصة في التفسير، دون احترام أبسط مبادئ الأمانة العلمية.

فهذه الروايات معروضة في كتابات المتقدمين، لم يكتفوا بنقلها، بل قاموا بنقدها ووزنها بميزان منهجي وعلمي دقيق، وليست اكتشافا من إبداع هؤلاء، الذين كان حريا بهم نقل الحقيقة كاملة للقارئ، بدل التدليس عليه، واستغلال معاداته لضوابط التفكير السليم.

ختاما، يصعب فهم كيف يدعي البعض تراجع الإسلام حتى في بلدان المسلمين، حيث “ارتفاع” معدلات الإلحاد، والحال أنه الدين الوحيد الذي يتعرض لحملات متواصلة ومكلفة.

فإذا كان ينحسر فعلا، فلم الانشغال به على مدار الساعة، والسعي للتشكيك فيه والطعن في نصوصه؟

أما الأهم من هذا كله، فيتطلب الاحتكام إلى “العقل” المفترى عليه، بإجراء مقارنة بسيطة بين مستوى عقول من يعتنقون الإسلام من نوابغ الشرق والغرب، وبين من يدَّعون الإلحاد من المسلمين..

نتهمهم بالادعاء ليس لأننا اطلعنا على ما في صدورهم، بل لأنهم عالة على الإلحاد نفسه، لم يبلغوا فيه حتى مرتبة التقليد.. وكل ما يتقنونه هو “الببغائية” أي ترديد الكلام دون فهم معناه.. والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن يحيط بها عد أو إحصاء.. كمن يسمي القِبلة “قُبلة”، أو المُسند “مَسندا”.. ولله في خلقه شؤون.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M