وما يعلم جنود ربك إلا هو

09 يوليو 2023 20:28

هوية بريس – مولاي التهامي بهطاط

قبل أكثر من عقدين، ظهرت “فجأة” جريدة “تنويرية” تم الإغداق عليها ودعمها، بسبب الأدوار الوظيفية التي كانت تؤديها، خاصة في مجال التشكيك في بعض الثوابت “الروحية”، ثم سرعان ما تحولت إلى “شغل شاغل” لـ”الإسلاميين” و”المسلمين”.

وربما كنت ضمن قلة اعتبرت هذه الجريدة، من أكبر الخدمات التي تم تقديمها لـ”الدين”، بما أن كل سطر كانت تكتبه، إلا ويتم الرد عليه بعشرات المقالات، أي أن الحق ظهر في النهاية، قبل أن تجهز ثورة المعلوميات وطفرة مواقع التواصل الاجتماعي على هذا المشروع “الورقي”.

نفس الشيء يتكرر اليوم، مع ثلاثة أو أربعة أشخاص، كلما أوقدوا نارا للحرب على السنة النبوية إلا أطفأها الله، بل إن الجهد الذي يبذلونه للتشكيك والطعن في “المقدسات” سرعان ما يرتد عليهم، بما أن كل مقطع فيديو ينشرونه إلا ويتم الرد عليه بمقاطع متقنة تنقض غزلهم، وتتركهم حفاة عراة أمام الرأي العام.

وهي نتيجة طبيعية، لأن الله تعالى -كما في الحديث الصحيح- قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، و”ما يعلم جنود ربك إلا هو”.

بعد هذا الاستهلال الوجيز، أتوقف هنا، ضمن سلسلة التوضيحات بخصوص ما يثار من شبهات حول صحيح البخاري تحديدا، وبلغة الأرقام دائما عند معطيات تغيب عن كثير من المتابعين لما يجتره بعض المتطاولين على الحديث وعلومه.

فقل من يعلم مثلا، أن إحصاء عدد أحاديث الجامع الصحيح مسألة معقدة تطلبت جهدا واجتهادا من طرف المختصين.

فابن الصلاح والنووي -وهما من هما في هذا المجال- يقولان إن عدد أحاديث الصحيح (7275) حديثاً، وبدون المكرر (4000).

وابن حجر صاحب “فتح الباري”، يرى أن العدد بالمكرر، سوى المعلقات والمتابعات، (7397) حديثاً، والخالص من ذلك بلا تكرار (2602) حديث فقط، وإذا أضيف إلى ذلك المتون المعلقة المرفوعة وهي (159) حديث فمجموع ذلك (2761).

وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) حديثاً، وهذا غير ما فيه من الموقوف على الصحابة والتابعين.

لا أريد هنا أن أناقش اسباب هذا التضارب، فهذه المسألة الفرعية، لأن الاطلاع عليها متيسر مع قليل من البحث، بل أريد لفت الانتباه إلى ما هو أهم، أي إلى التدليس الذي يمارسه بعض المتسلقين على جدران علوم الحديث.

فالمفروض أن هؤلاء الذين يطعنون في صحيح البخاري، قد درسوه دراسة متفحصة، والحال أنهم لم يقرأوا حتى صفحة واحدة منه، لأن مجرد القراءة يحتاج إلى ما لا طاقة لهم به.

وأقصد هنا بالدراسة، اعتماد المنهج العلمي لفهم الحديث، كما حدده علماء هذا الفن.

فدراسة حديث ما، تتطلب تخريجه، لمعرفة صحته أو ضعفه، ثم تتبع جميع رواياته، والمقارنة بينها، ثم دراسة السند وبيان حال رجاله ولطائفه -كرواية الآبن عن ابيه أو العكس- وتتبع شواهده ومتابعاته ثم شرح غريب المتن، قبل بسط الكلام في المعنى الإجمالي للحديث، واستنباط فقهه وفوائده.

وعلى سبيل المثال، لمن أراد إجراء تمرين صغير في هذا المجال، يمكنه الاطلاع على كتاب “بغية الرائد في شرح حديث أم زرع” للقاضي عياض، الذي خصص أكثر من 300 صفحة منه لشرح هذا الحديث، ليقف على أن الأمر صنعة تحتاج إلى مراس طويل وموهبة خلاقة.

ثم لندع الأرقام تتكلم بما أننا بصدد تسفيه تخرصات المتهجمين على الجامع الصحيح.

فالكتاب تضمن 9082 نصا كما ورد في “فتح الباري”، كل منها يحتاج لدراسة متمعنة، لأن البخاري لم يدرج في كتابه شيئا إلا لغاية محددة.

وحتى إذا اقتصرنا على رقم 4000 حديث التي تضمنتها الأصول، فهل يعلم المتسلقون أن الدراسة المنهجية للحديث الواحد تتطلب، في الحد الأدنى، يوما واحدا، هذا علما أن هناك أحاديث تحتاج دراستها لأسابيع وربما شهورا، كحديث الإفك مثلا.. مع ما يتطلبه ذلك بالضرورة من التوقف عند الترجمات، وهي عناوين الأبواب التي يقال إنها تحيل على الآراء الفقهية للبخاري في المسائل التي يتطرق لها في كل باب.

فبعملية حسابية بسيطة تتطلب دراسة الجامع الصحيح، أكثر من إحدى عشرة سنة، مع ما يتطلبه ذلك من انكباب لساعات يوميا، وتفرغ تام.

بل حتى إذا سهلنا الأمر على هؤلاء، واقتصرنا على الرقم الذي أورده الحافظ ابن حجر أي 2761 حديث، فإن الأمر سيتطلب سبعة أعوام وستة أشهر، هذا من دون التوقف عند بدهية أن ضغط عدد الأحاديث، يعني تلقائيا ازدياد طولها، بما أن سبب الخلاف في العد هو تقطيع البخاري للحديث الواحد بسبب تعدد الأحكام الواردة فيه، وتنوع أماكن الاستشهاد به، وكثرة طرقه.

فكيف يتجرأ هؤلاء إذاً، على كتاب لم تلمسه أيديهم أصلا، فينتقدونه ويسجلون عليه ملاحظاتهم التي غابت عن مئات الأجيال من المسلمين، وعن مئات الآلاف من العلماء على مدى قرابة 12 قرنا، والحال أن هذا الكتاب هو كما قال الإمام الندوي رحمه الله: “لا نعرف كتابا من كتب البشر -في المكتبة الدينية العالمية- تناوله العلماء بالشرح والتحشية والتعليق مثل ما تناولوا كتاب هذا الإمام الجليل”؟

إن هؤلاء يتسترون خلف شعار “العلم”، والعلم أساسه التجربة، فليجرب أي قارئ بنفسه إن كان يسعى للحقيقة فعلا لا للمناكفة والمكابرة.

فليختر أي حديث، وليكن أول حديث في الجامع الصحيح: “إنما الأعمال بالنيات..”، ثم ليقرأ شروحه في 10 كتب فقط من بين أكثر من 130 مؤلفا صنفت في شرح صحيح البخاري، ثم ليحسب كم استغرقه من الوقت لمجرد القراءة، ولا أقول الدراسة، ليكتشف دون عناء، حجم التدليس الذي يمارسه عليه هؤلاء المتسلقون.

ولمن تثقل عليهم هذه العملية يمكنهم الاكتفاء على سبيل المثال، بالبدر العيني وما أورده في كتابه “عمدة القاري في شرح صحيح البخاري” حيث استهل تفسير هذا الحديث بالكلام عن الترجمة (عنوان الباب) “كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله”، في عدة فصول بين فيها: حال الافتتاح، والترجمة، واللغة، والصرف، والإعراب، والمعاني، والبيان، والتفسير، وتصدير الباب بآية “إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلَى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ”.

ثم شرح حديث: “إنما الأعمال بالنيات…” من خلال بيان:  تعلق الحديث بالآية، وتعلقه بالترجمة، ورجاله وضبط الرجال، والأنساب، وفوائد تتعلق بالرجال، ولطائف إسناده، ونوع الحديث، وتعدد الحديث في الصحيح، ومن أخرجه غيره، واختلاف لفظه، واختياره هذا في البداية، واللغة، والإعراب، والمعاني، والبيان، والبديع، والأسئلة والأجوبة، والسبب، والمورد، واستنباط الأحكام.

باختصار، الأمر يتطلب الإتقان، والتمكن من أدوات علوم الحديث ومناهجه، فضلا عن علوم اللغة.. وليس كلأ مباحا لمن هب ودب.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M