اللغة والشرع: مزالق المعتزلة المعاصرين

28 أكتوبر 2013 00:29

ذ. يونس الناصري

هوية بريس – الإثنين 28 أكتوبر 2013م

اللغة كما عرفها ابن الجنيفي كتابه “الخصائص” أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، فهي حروف وكلمات مركبة تركيبا مضبوطا، وفق قواعد دقيقة راقية، لا توجد بتلك الدقة في أي لغة من لغات العالم، قديمه وحديثه؛ إذ من يتأمل قواعد النحو والصرف العربيين، يقف حائرا مندهشا من براعة عقول أسلافنا، ورهافة حسهم، ودقة ملاحظتهم وهم يستخرجون أسسَ الكلام العربي من الوحيين ومن أشعار العرب الأقحاح.

بل ذهب بعض الباحثين إلى أن المتخصصين في اللسانيات الحديثة، وبخاصة اللسانيات التوليدية لصاحبها Noam Chomsky  اكتشفوا هذا الغنى النظري في النحو العربي المبكر، وهو ما دعاهم إلى القول: إن النحو العربي في صورته تلك، يتشابه مع الدراسات اللسانية الحديثة، إن لم يتماثل معها في الأهداف وفي طريقة البحث، وفي الوصف والتفسير، وأشاروا إلى عدد كبير من الغربيين المعاصرين الذين اكتشفوا شدة التشابه بين دراسات نحاة العرب والدراسات اللسانية الحديثة في الغرب، منهم (جوناتان أووين)، الذي أكد أن جهود النحاة العرب الرائعة لم تقدر بما تستحقه في الغرب إلا مع التقاليد البنيوية التي أتى بها (دوسوسير وبلومفيلد وتشومسكي )، ومنهم (مايكل كارتر، وديفيد جستس)، وغيرهم.

ويمكن أن نذهب إلى أن الدراسات اللغوية الغربية في القرن الماضي لم تزدهر إلا بالرجوع إلى الموروث النحوي العربي، مستفيدةً من مناهج النحاة الأوائل في البحث، ومن عمق مداركهم واتساع معارفهم، فوصلوا بعد ذلك إلى مبتغاهم من خدمة لغاتهم وتطويرها والدفاع عنها، ثم فرضها بطرائق خفية على العالم بأسره (الإنجليزية مثلا).

وليس عيبا أن ينهل الغرب من تراثنا في جميع شعبه، فقد كانت تلك عادته منذ عصور ظلماته، وإنما العيب فينا نحن المسلمين الذين تنكرنا للغتنا وتراثنا وحسبناهما دليل تخلف ورجعية، وأعجبنا باللغات الأعجمية. وقد أبهجتني صورةٌ مضحكة تمثل مجموعة من المغاربة رجالاً ونساءً وأطفالاً يتكلمون فيما بينهم بعبارات أجنبية، ووسطهم سائحان أجنبيان يسمعان، فسأل أحدهما الآخر متعجبا: كيف يتكلم هؤلاء لغة غيرهم ويتركون لسانهم؟ فأجابه صديقه: يظنون أنهم بذلك متحضرون!!!

إن ابتعادنا عن لغتنا الأصيلة هو مصدر تخلفنا؛ ذلك أن فهم شرع الله تعالى والعملَ به ينبني على الوعي الكامل بلسان العرب، ونظرة سريعة في ما تخطه أقلام بعض مدعي البحث والمعرفة تؤكد أن جهلهم الفاضح باللغة وتصاريفها ومختلف أساليبها، إضافة إلى استهتارهم بها وانبهارهم الباطني باللغات الأخرى، هو أصل الداء الذي ابتُلُوا به، داءِ الفهم السقيم للدين، والتطاول المتعجرف على المعلوم من الإسلام بالضرورة.

وما خرجاتُ بوهندي الأخيرة إلا دليلا على سالف ما ذكرنا، مثال ذلك استنباطه من قوة موسى عليه الصلاة والسلام -بعد أن فكر وقدر- أنه “فرعون ثان صغير عسكري، وله قوة جسدية مهمة، ولذلك قال القرآن: “واستوى” بمعنى أنه أصبح قويا..“.

وبما أن الواجب علينا هو الرجوع إلى علمائنا الأجلاء والنهل من معينهم الصافي قبل الإدلاء بآرائنا؛ لأنهم بنوا فهمهم واجتهاداتهم على المعلوم من لغة العرب الفطاحل، فلنرَ ما ذكر الجهبذ النحرير ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه في معرض رده على مؤولي صفة استواء الله تعالى على عرشه، في قوله: “لفظ {استوى} في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه نوعان: مطلق ومقيد، فالمطلق ما لم يوصَلْ معناهُ بحرف مثل قوله: { ولما بلغ أشده واستوى} (القصص:14)، وهذا معناه: كمُل وتمَّ، يقال: استوى النباتُ واستوى الطعام. وأما المقيد فثلاثة أضرب: أحدها: مقيد بـ(إلى)، كقوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء} (البقرة:29)، واستوى فلانٌ إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر سبحانه هذا المعنى المعدَّى بـ(إلى) في موضعين من كتابه في سورة البقرة في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء} (البقرة/29).. وهذا بإجماع السلف كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعدُ إن شاء الله.

والثاني: مقيد بـ(على) كقوله: {لتستووا على ظهوره} (الزخرف:13).. وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.

والثالث: المقرون بـ(واو مع) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبةَ، بمعنى: ساواها.

هذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، وليس فيها معنى استولى ألبتة، ولا نقله أحدٌ من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخروا النحاة ممن سلك طريق الجهمية والمعتزلة“.

إذن فشرح بوهندي للفظ (استوى) بأنه أصبح قويا مفتول العضلات هو من نسج خياله الواسع المتجاوز لما تقرر عند علماء اللغة والدين؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون معنى قولنا: (كبر الشاب واستوى) أنه صار قويا يفتك بالناس، فقد تطلق العبارة على كل فتى انتقل من سن الطفولة إلى سن الشباب والرجولة بما فيهما من تغير جسدي ونفسي؛ وحتى إن سلمنا أن الفعل {بلغ أشده} يفيد اكتمال الجسم وتمامه، فإن قوة موسى عليه السلام كانت في الحق، وليست جبروتا وإعجابا بالنفس، كما قال بوهندي: “فرعون ثان صغير عسكري وله قوة جسدية مهمة“.

لقد اجتمع في هؤلاء الأصناف من أشباه الباحثين شيئان قبيحان لا يفلح صاحبهما، وهما: الجهل باللغة العربية الشريفة والوقاحة وسوء الأدب مع الأنبياء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد أداهم إلى ذلك إعجابهم بآرائهم ودكتوراهم وحبهم التصدُّرَ والبروزَ وعدمُ التأدب بأخلاق القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين، وحسدُهم المفرط للعلماء المعتبرين الذين وضع الله لهم القبول في الأرض.

كذلك فحديثنا عن أهمية اللغة العربية لفهم الشرع فهما سليما، لا يعني أن كل لغوي متضلع يكون صحيح الرأي، سليم القلب، نقي الفطرة، فكم من لغوي بلغ السماء في علمه، ونحوي بزَّ من قبلًهُ، كان فاسد العقيدة، كاسدَ الفقه في الشريعة، كسائر لغويي ونحاة المعتزلة والجهمية والأشاعرة وغيرهم. 

وإنما النية الصادقة الخالصة لله تعالى في تعلم اللغة لفهم كلام الله وسنة رسوله هي خير معين على السلامة في الدين والفقه المتين، مع توقير السلف الصالحين، والتتلمذ على أيدي العلماء الربانيين المعاصرين، للعيش في الدنيا مع الآمنين المطمئنين، والفوز في الآخرة بجنات رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M