وقفة مع المتعالمين

17 نوفمبر 2013 23:26

ذ. يونس الناصري

هوية بريس – الأحد 17 نونبر 2013م

ما أحوجنا إلى العلم وآدابه في زمن الجهل الذي تصدر فيه الرويبضات للأندية والمحافل، وتكلموا في كل شيء دون إتقان شيء، ولم يتأدبوا بأخلاق العلماء، ولم يوقروا علمهم ولا شيبتهم، بل تجاوزوا ذلك إلى اللمز الصريح والخفي لمن شهد له القاصي والداني بالعلم والاطلاع وحسن السيرة والخلُق.

قوم من المحسوبين على العلم وأهله يهتبلون كل فرصة للانتقاص من الأفاضل والازدراء بهم ووصم مؤلفاتهم بالخلل والركاكة ومجانبة العلمية، وهم في ذلك:

كناطح صخرة يوما ليوهنها — فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعِلُ

وقد بلغ العجب بهؤلاء منزلة يرون منها العلماء المحدِّثين مجردَ متطفلين على العلم، وهؤلاء الشاتمين -والله- أحق بذلك وأجدر، حتى إنه بلغني أن أحدهم قال لطلبته في الكلية: لو امتحنتُ الشافعيَّ لوضعتُ له أربعة من عشرين (4/20) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إنه زمن ابتُلي فيه الأفاضلُ بالأراذل، وامتُحن فيه الأكابرُ بالأصاغر، فاللهَ أسألُ أن يُمِدَّ مشايخَنا بالصبر ويُجزل لهم المثوبة والأجر، ويعينهم على خدمة الدين وأهله، و يشغلهم بالتبحر في كتاب الله وسنة رسول الله، ويرزقهم وإيانا العلم والعمل به آمين.

لقد صدق في هؤلاء المتعالمين المتحذلقين غير المتأدبين ما سمعتُه من العلامة المحدث أبي إسحاق الحويني شافاه الله وعافاه مما قرأه لعبد الوهاب بن نصر المالكي رحمه الله لما قال:

متى تصل العِطاشُ إلى ارتواء — إذا استقـت البحـارُ مـن الركايا

ومن يُثني الأصاغرَ عن مراد — إذا جـلـس الأكابـرُ فـي الزوايـا

وإن تـرفُّـع الـوضـعـاء يــومـا — على الرفعاء من إحدى الرزايا

إذا استوت الأسافـلُ والأعالـي — فــقـد طــابـت مـنادمـةُ المـنـايـا

إن مشكل هؤلاء هو تكسبهم بالعلم، وإن كانوا قد أخذوا من العلم رسومه، وتركوا لبه ومقاصده وآدابه، فلم يعد يهمهم إلا التصدر والتهافت على مكبرات الصوت والبروزُ أمام الملأ ليقال: هم علماءُ أو قراءٌ، فليحذر هؤلاء -إن لم يتوبوا إلى الله تعالى- من أن يُقال لهم في يوم من الدهر: فقد قيل!!!

ولكن للعلماء المعظَّمين المبجلين سلفُهم من الأفاضل الجهابذة الذين اشتكوا هم أيضا من هؤلاء الأصاغر وذكروا في كتبهم معاناتهم معهم، ولا يخفى أن الاقتداء بالسلف الصالح خيرُ معين على الصبر على الابتلاء؛ لأن ذلك من سنن الله الكونية التي لن نجد لها تبديلا ولا تحويلا.

يقول أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني الجريري (390هـ): “وأرجو أن يغير الله ما أصبحنا منه ممتعضين، وأمسينا معه مرتمضين، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويُذهب غيظَ قلوب الأماثل من العلماء المبرزين، فقد بلغ منهم ما يرون من تقديم الأراذل الضُّلاَّل، والأداني الجهال، حتى صُدِّروا في مجالس علم الدين، وقُدِّموا في محافل ولاة أمور المسلمين، وصُيِّروا قضاة وحكاما ورؤساء وأعلاماً، دون ذوي الأقدار، وأولي الشرف الأخطار، وكثيرٌ ممن يُشار إليه منهم لا يفهم من كتاب الله آية، وإن تعاطى تلاوتَها لحن فيها، وأتى بخلاف ما أنزل الله منها، ولا كتبوا سنةً من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا دروها، وإن تكلفوا ذكرَها أحالوها، وأتوا بها على غير وجهها، ولا عرفوا شيئا من أبواب العربية وتصريفها..”.

وقال تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في كتابه “إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع” (1/2): 

وكثير من هؤلاء المنتقدين لمناهج العلماء الأفاضل ودعوتهم وكثرة المقتدين بهم، لا يستطيع تفصيل الكلام في علمه الذي تخصص فيه، فضلا عن التوسع في باقي التخصصات الأخرى التي لا يحسنون منها إلا أسماء الكتب أو بعضَ العبارات المكرورة التي يعرفها العالم والمتعلم، إلا أنهم يتفننون في شيء واحد، هو نقد أصحاب الأيادي البيضاء على الإسلام وأهله واتهامُهم بالعمالة ومخالفة المذهب المالكي، والترويج للمذهب الحنبلي، وغير ذلك من الكلام البارد المنافي لحقيقة العلمية التي يتشدقون بها ليل نهار.

والعجيب هو أن ذلك الصنف من المستهزئين بالعلماء الطاعنين فيهم، قد قرؤوا يوما قول النبي عليه الصلاة والسلام: “العلماء ورثة الأنبياء”، ثم تجاهلوا الحديث وما يفيد من وجوب إجلال أهل العلم وإنزالهم منازلهم التي شرفهم الله بها لإرثهم العظيم الذي وُرِّثوا بتوفيق الله تعالى، ثم بإخلاصهم ومثابرتهم، غضوا الطرف عن دلالات الحديث وقلبوا لأساتذتهم العلماء ظهر المجنِّ، وصاروا أعداء لهم ولدعوتهم، لا لشيء -والله أعلم- إلا لحسد أكل قلوبهم وأنساهم قول الله تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.

وقد غرهم إبليس مرتين لما زين لهم الطعن في علماء الأمة الربانيين، و لما أوهمهم بأنهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد وحُقَّ لهم الجرح والتعديل، ولو تأملوا صنيعهم وسوء عاقبته، لفضلوا الجهل على العلم، على اعتبار أن المسلم المسالم الذي يؤدي فرائضه ويعرف للعلماء فضلهم ومكانتهم، وإن لم يشدُ من العلم شيئا، هو أفضل ممن قضى ردحا من الزمن طالبا للعلم الشرعي، ثم انتهى به طلبه إلى عكس ما يُرجَى من التفقه في دين الله.

وإذا انضاف الكِبْرُ إلى الحسد، فقد اجتمع على المرء المهلكان، وعما قريب سيصير في خبر كان، ويؤول أمره إلى نسيان، فإن لحوم العلماء -كما قال ابن عساكر- مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة.

وأختم مع المتعالمين بكلام نفيس لخطيب أهل السنة والجماعة، ذكره بعد أن بين صفات من يقصدهم بكتابه فقال: ” ونحن نستحب لمن قبِل عنا وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءَته عن دناءة الغِيبة، وصناعتَه عن شَيْنِ الكذب، ويجانب -قبل مجانبته اللحن وخطل القول- شنيعَ الكلام ورفثَ المزح..”. 

ورحم الله من قال:

وعالم بعلمه لم يعملنْ — معذب من قَبْلِ عباد الوثنْ 

نسأل الله السلامة والعافية، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M