الاعتدال في نقد الرجال (ح4)
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الأحد 19 أكتوبر 2014
ضبط المفاهيم وتحرير المصطلحات (ج2)
.. لقد بيَّنَتِ الألفاظ والمعاني الشرعية المتقدمة في الحلقة الثالثة؛ أنه يجب على كل مسلم أن يعتصم بالقرآن والسنة وأن يتبع السلف الصالح في عقيدتهم وفهمهم للدين1.
والمراد بفهم الدين هنا: منهجية فهم نصوصه واستنباط دلالاتها؛ وهي المنهجية المتمثلة في أصول الاستنباط التي اتفقوا عليها، وليس المراد فهم آحاد السلف لنصوص شرعية معينة.
وقد تبلورت تلك المنهجية ودُوِّنت في علم أصول الفقه الذي افتتح التأليف فيه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
وتم تطبيقها لتقرير العقائد الإسلامية واستنباط الأحكام والآداب الشرعية؛ من قِبَل الأئمة والعلماء؛ وعلى رأسهم: الأئمة الأربعة الذين ورّثوا الأمة مدارس فقهية متنوعة ومتكاملة؛ تُجمع على: حجية النص ووجوب تحكيم الشرع وجعله مواكبا للتطور البشري من خلال آلية الاجتهاد الشرعي التي تدل على عظمة التشريع الإلهي وعبقرية الأئمة المجتهدين..
كما رسخ “السلف الصالح” من الصحابة والأئمة من خلال تلك الأصول؛ مبدأي: توحيد العبادة وتوحيد الاتباع؛ وما يستلزمه ذلك من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به وحبه، وحب الصحابة رضي الله عنهم وعدم مخالفة إجماعهم..
وتلك المعاني هي التي اصطلح بعض العلماء على تسميتها بالسلفية؛ وهي عين الإسلام في صفائه وشموليته وجمال قيمه ومبادئه، وجلال أحكامه وآدابه؛ ولذلك وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بـ: “البيضاء“2.
وفي مقابل ذلك المسار الشرعي الذي رسخه السلف الصالح؛ عرفت الأمة طوائف وتوجهات خالفت بعض أصوله وثوابته، وقد بدأ ظهورها منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
فقد ثبت أن جد الخوارج اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال له: “اعدل يا محمد“!
وهذا اعتراض مباشر على السنة (فعل النبي صلى الله عليه وسلم)، وقد تطور هذا الفكر المنحرف حتى ولد طائفة: (الخوارج).
ثم ظهرت طائفة الروافض الذين رفضوا السلف الصالح الذين زكاهم القرآن والسنة؛ ومن رحِم الروافض خرجت فرق الشيعة المتعددة..
ثم كان ظهور القدرية والجهمية والمرجئة الذين عارضوا عقائد وأصول ثابتة في القرآن والسنة..
ثم كان جيل ثان من المخالفين للسنة (البيضاء)..
ومن هذا الجيل: طائفة المعتزلة التي وضعت منهجا عقلانيا أخضع النص الشرعي لما يرونه مسلمات عقلية وقواعد فلسفية تبلورت في الفكر الإنساني عبر تاريخ طويل من التأملات والتجارب.
وحاولت هذه الطائفة أن توهم بأن ما جاء به الوحي موافق لما اتفق عليه الفلاسفة المؤمنون بالإله، موظفة ذلك للرد على الفلاسفة الملحدين؛ لكنهم أخطئوا في المقدمات والنتائج؛ فكانوا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة؛ فكان ما فعلوه مما جرّأ الملحدين أعداء الدين عليه؛ فلا هم للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا” اهـ3.
ثم برز العلماء الأشاعرة4 الذين اجتهدوا في بيان الانسجام والموافقة بين مسلمات النقل وظاهر نصوصه ومقتضيات العقل، وقد حققوا منجزات مهمة في هذا الباب، وتمكنوا من رد كثير من الشبهات التي أثيرت حول العقيدة الإسلامية، كما أبطلوا انحرافات المعتزلة..
وكان عامة علماء الحديث يرون أن الأشاعرة الأوائل من أهل السنة الذين أتقنوا العقليات واستطاعوا أن يواجهوا شبهات الفلاسفة ويصححوا أخطاء المعتزلة:
قال أبو الوليد الباجي في كتاب (اختصار فرق الفقهاء) من تأليفه، في ذكر العالم الأشعري: ابن الباقلاني:
لقد أخبرني الشيخ أبو ذر (راوي صحيح البخاري) وكان يميل إلى مذهبه (أي: مذهب ابن الباقلاني)، فسألته: من أين لك هذا؟
قال: إني كنت ماشيا ببغداد مع الحافظ الدارقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب الباقلاني؛ فالتزمه الشيخ أبو الحسن الدارقطني، وقبل وجهه وعينيه!
فلما فارقناه، قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه؛ وأنت إمام وقتك؟
فقال: “هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب”.
قال أبو ذر: فمن ذلك الوقت تكررت إليه مع أبي، كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يشار فيها إلى أحد من أهل السنة إلا من كان على مذهبه وطريقه.
قال الذهبي بعد ذكر هذه القصة:
“هو (أي: ابن الباقلاني) الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان، وبالحضرة رؤوس المعتزلة والرافضة والقدرية وألوان البدع، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية، وكان يرد على الكرامية، وينصر الحنابلة عليهم، وبينه وبين أهل الحديث عامر، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة، فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام”5.
فهذا الإمام الدارقطني (الحافظ المحدث) (ت 385 هـ) يعامل الإمام ابن الباقلاني (الأشعري) (ت 403 هـ) بهذه المعاملة، ويصفه بهذه الأوصاف6.
وهو سلوك باقي علماء الحديث الذين أدركوا ابن الباقلاني واطلعوا على علمه ودعوته:
فهذا تلميذه الإمام أبو عمرو الداني (ت 444 هـ) يجله وينقل عنه في كتابه في العقيدة (الرسالة الوافية)؛ كقوله في (ص:158): “قال شيخنا أبو بكر محمد بن الطيب: قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله”.
وهذا الإمام الذهبي (ت 748 هـ) رحمه الله تعالى يقول عن ابن الباقلاني أيضا:
“كان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين”اهـ7.
وقال في ترجمة ابن فورك:
“الإمام العلامة الصالح، شيخ المتكلمين، أبو بكر، محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني.
كان أشعريا، رأسا في فن الكلام، أخذ عن أبي الحسن الباهلي صاحب الأشعري” اهـ8.
وبسبب ضعف اطلاع علماء الأشاعرة على كثير من السنن، وبسبب توسيع بعضهم دائرة التأويل المشروع الذي تتحد ضوابطه في علم أصول الفقه..؛ ظهرت في بعض مسائل العقيدة الأشعرية أخطاء..
ثم اتسعت دائرة الخطأ حتى آل الأمر إلى تبلور مذهب يقدم العقل على النقل بتأويلات خاطئة، ويخالف صريح العقيدة الإسلامية الصريحة في بعض المسائل والأبواب.
وقد أدت التحولات السياسية وتراجع الحالة العلمية بعد القرون الثلاثة المفضلة؛ إلى انتشار المذهب الأشعري بحمولته الفلسفية التي تصادم عقيدة الأشعري ومن انتسب إلى مدرسته السلفية من العلماء.
جاء في دائرة المعارف الإسلامية:
“إن منهج الأشعري في التدليل في عين القارئ الأوروبي لا يختلف للنظرة الأولى عن منهج أتباع أحمد بن حنبل المغالين في المحافظة، ذلك أن كثيرا من حُجَجِه يقوم على تفسير القرآن والحديث، على أن السبب في ذلك كان مرجِعُه إلى أن خُصُومِه أيضا بما فيهم المعتزلةُ أنفسُهم قد استعانوا بحجج من هذا القبيل، وأن الأشعري كان يعتمد دائما على مخاطبة عواطف المرء لا عقلِه.
ومع ذلك فإن خصومه حين يُسَلِّمون بدليل عقلي صِرفٍ، فإن الأشعري كان لا يتردد في استخدامه في دحض أقوالهم.
وما إن تقرر جواز مثل هذه الحجج في نظر كثير من المتكلمين على الأقل، حتى استطاع الأشعرية أن يُنَمُّوا هذا الجانب من منهجه، وانتهى الأمر في القرون المتأخرة بأن أصبح الكلام عقليا تماما، على أن هذا كان بعيدا أشد البعد من مزاج الأشعري نفسه”.
إلى أن قالوا: “إن المذهب قد اختفى في وهج من الفلسفة”9.
إن أكثر العلماء في السابق واللاحق الذين أخذوا بما قرره الإمام الأشعري؛ علماء أفاضل من أهل السنة المتبعين للسلف الصالح؛ ولم يتعمدوا مخالفة النص أو رده بتأويلات باطلة كما فعل المعتزلة وبعض متأخري الأشاعرة؛ بل رأوا في مذهب أبي الحسن قواعد عقلية تدعم النص وتؤكد صحة معناه عند من يعظم دور العقل في تلقي الوحي..
وهؤلاء العلماء يمثلون أكثر علماء الأمة بعد القرون الثلاثة الخيرة، ومنهم علماء ينتمون إلى مدرسة أهل الحديث؛ من أمثال: الإمام البيهقي والإمام أبي عمرو الداني والإمام النووي والحافظ ابن حجر..
وكلهم -رحمهم الله- من أهل السنة (باللفظ الشرعي)، ومن أهل السلفية (بالمصطلح العلمي).
وأخطاء الواحد منهم؛ لا تبيح إخراجه من السنة والسلفية؛ فهذا منهاج مخالف لما درج عليه علماء الأمة وأئمتها:
قال العلامة الفقيه محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) رحمه الله تعالى:
“ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه.
فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة.
وإنما نشأ لهم ذلك السوء؛ بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله:
رام نفعا فضر من غير قصد—ومن البر ما يكون عقوقا
ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما}10.
تأمل أيها السلفي المنصف في مواقف العلماء؛ ابتداء بالدارقطني وانتهاء بالشنقيطي، مرورا بالذهبي؛ توقن بخطأ (المناهج المدخلية) التي حزبت السلفية وحجّرت الإسلام وتطاولت على علماءه الأبرار ومصلحيه الأخيار؛ بالتصنيف الآثم والتجريح الهادم..
يتبع بإذن الله تعالى..
تكميل: حول مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي:
مدرسة أهل الرأي؛ من المدارس العلمية الفقهية المعتبرة عند أهل السنة والجماعة باتفاق..
ولم يزل الخلاف الفقهي بينها وبين مدرسة أهل الحديث قائما في إطار الأخوة الإسلامية واحترام أهل العلم بعضهم لبعض، إلا ما شذ؛ مما وضع له العلماء منهاج: يطوى ولا يروى11..
والإنصاف يقتضي منا أن نقول بأن لأهل المدرستين فضلهم الكبير على الأمة وعلى الفقه الإسلامي الذي يشكل ثروة تشريعية هائلة في كل مناحي الحياة ومجالاتها، ولكل مدرسة مزاياها التي تتكامل بها مع مزايا الأخرى؛ وأعظم ما تتميز به مدرسة أهل الحديث12 عنايتها بالسنن رواية ودراية واتباعا وتنقيحا ودعوة..، ولأهل الرأي حظهم من ذلك..
وأعظم ما تتميز به مدرسة أهل الرأي: عنايتها بعملية الاجتهاد الشرعي التي تحفظ للشريعة قدرتها على مواكبة التطور البشري..، ولأهل الحديث حظهم من ذلك..
وكما أن لأهل الرأي أخطاؤهم التي ترجع بالأساس إلى عدم تخصصهم في الصناعة الحديثية والدراية بالمرويات، فإن لأهل الحديث أخطاؤهم التي ترجع بالأساس إلى عدم تخصصهم في صناعة الاجتهاد ومسالكها الأصولية الدقيقة..
وقديما عتب الخطيب البغدادي على أهل الحديث تقصيرهم في إتقان مسالك أهل الاجتهاد، ووضع لهم كتاب “الفقيه والمتفقه”؛ ليعينهم على تدارك التقصير وإكمال النقص..
ولا يمكن للداعية في خطابه المُعرّف بالإسلام، كما لا يمكن للعالم المبَيّن لأحكامه وآدابه؛ أن يتجاهل إحدى المدرستين، أو يبخسها حقها..
وجهله بفضل مدرسة الحديث؛ سيجعله مقصرا في بيان السنة التي هي عنوان الإسلام ولب مضمونه وإطار تطبيقه، وجهله بفضل مدرسة الرأي سيجعله مقصرا في بيان شمولية الإسلام وعالميته وقدرته على مواكبة التطور الإنساني..
وهنا تكمن خطورة منهاج الغلو في نقد علماء مدرسة الرأي؛ إلى درجة السعي في إسقاطهم وإخراجهم من دائرة أهل السنة.
وهو خلاف منهاج أئمة مدرسة أهل الحديث في التعامل مع علماء مدرسة أهل الرأي وغيرهم من المتأثرين أو القائلين بشيء من آراء المعتزلة أو متأخري الأشاعرة أو العقلانيين المعاصرين؛ فإن منهجهم قائم على الوسطية والاعتدال والإنصاف: يعرفون الفضل، ويشكرون الجهد، ويصححون الخطأ، ويردون على الزلة والهفوة..
وسيأتي بيان هذا الأصل بالتفصيل ان شاء الله تعالى..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر أدلة هذا الحكم في كتابي: السلفية في المغرب (ص:32-53).
2- فما أعظم جناية البعض على السلفية حين انحرفوا بدلالتها من ذلك المعنى الاصطلاحي المشروع؛ إلى معاني ضيقة متشنجة متحزبة تتعثر في أوحال الغلو والحزبية والجهل المركب ومساوئ الأخلاق.
3- الرد على المنطقيين (ص:273).
4- نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري (ت 330 هـ) رحمه الله تعالى.
5- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (17/558).
6- ولو فعل ذلك عالم معاصر؛ لانقضت عليه مخالب الغلاة المتعالمين!
7- سير أعلام النبلاء (ج 17 / ص:193).
8- سير أعلام النبلاء (ج 17 / ص:214).
9- دائرة المعارف الإسلامية (3/434-439).
10- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/274).
11- وهو منهاج علمي أخلاقي معروف، لا سيما في كلام الأقران بعضهم في بعض..
12- ولو جاز لي أن أفصح عن انتمائي وميولي؛ لما ترددت في الجهر بأنني أنتمي -تشرفا وليس استحقاقا- إلى هذه المدرسة الجليلة العظيمة، وأسأل الله تعالى أن يحييني ويميتني على السنة.