مقومات النظام السياسي الإسلامي
إلياس الهاني
هوية بريس – الخميس 19 فبراير 2015
إذا كانت افتراءات العلمانيين على الإسلام نابعة من عداء قديم ومتأصل، مما يمكن تفسيره بصراع الحضارات كما يحلو للبعض تسميته، فإن افتراءات العلمانيين على شمولية الإسلام اشتدت في الآونة الأخيرة، تلك الاتهامات التي لا تستند إلى دليل وبرهان بقدر ما تستند إلى خصومة وعداء خصوصا بعد ما برز التيار الإسلامي منافسا قويا في الحياة السياسية، فظهرت كتابات عدة تنفي عن الإسلام وجود نظام سياسي قائم وتجعل من شبهات المستشرقين وافتراءاتهم مسلكا ومرجعا لذلك.
وليس من شأن هذا المقال تبرئة التيار الإسلامي من الوقوع في الخطأ، فكل بني آدم خطاء، غاية ما في الأمر أن المقال يهدف إلى نفي افتراءات العلمانيين على الإسلام ونظامه السياسي وإبراز أهم المقومات والأسس التي قام عليها.
لقد قام النظام السياسي الإسلامي على أسس ومقومات جعلت منه بنية فكرية وهيكلية متكاملة، تميزه عن غيره من النُّظم والفلسفات، «تقيم الصلاح والمصلحة والعدل بين الناس قدر المستطاع»1، من ذلك:
1- سيادة الشريعة:
«فالكتاب والسنَّة هما مصدرا التشريع، والدستور الذي يجب التحاكم إليه، وقد سبق الإسلامُ جميع الأنظمة والفلسفات الأرضية في ترسيخ مبدأ المشروعية الذي يخضع له الجميع بلا استثناء، الحاكم والمحكوم على حدٍّ سواءٍ»2.
«وقد جعل القرآنُ الحُكم لله وحده؛ فهو الذي له الحق وحده في التشريع المطلق لعباده، وله حق الطاعة المطلقة؛ كما قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف:40]؛ فاعتقاد وحدانية الله في حاكميتِه هو الأصل الذي يقوم عليه توحيدُه في عبادته وطاعته، والأمر الوارد في الآية (أمر) هو فردٌ من أفراد (الحُكم)، ونوعٌ من أنواعه، فلكون الحاكمية لله عز وجل، ولكونها حقًّا من حقوقه التي لا ينازعه فيها أحدٌ، لهذا أمر ألا يعبد إلا هو فلا يعرف التوحيد من الشرك، ولا الطاعة من المعصية، ولا الإيمان من الكفر إلا بحكم الله، فمن لم يثبت هذا الأصل الإيماني العظيم -أي توحيد الله المطلق في حاكميته وإفراده بها- لم يسلم له توحيد الله في عبادته وطاعته؛ إذ العبادة والطاعة لله لا تعرف إلا عن طريق حكم الله وشرعه، ولا سبيل لالتزام حكم الله إلا بالإقرار والإيمان بأنه وحده الذي له الحكم والتشريع والأمر، كما له الخلق ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ الأعراف:54»3.
ولا بد مِن ذكر أن «مبدأ سيادة الشريعة لا يصادر على الحكومة أمر التنظيم؛ لأن النصوص الشرعية قليلة محدودة، والحوادث غير متناهية، وحياة الناس تتطلَّب نوعًا من التنظيم؛ فالسفر إلى الخارج، والمرور، والجوازات، والجنسية، والصيد، والتوظيف وغيرها من أمور الحياة، بحاجة إلى نُظُم تضبطها وتمنع التجاوز؛ لذا فمن حق الحكومة وضعُ تنظيمات، بشرط واحد ألا تخالف نصًّا شرعيًّا.
ومن هذه الزاوية قام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بوضع الدواوين للجيوش، مع أنها لم تكُنْ معروفة، كما قام بعض الخلفاء بسكِّ النقود وغيرها، وهكذا»4.
2- مبدأ العدل:
وهو أمر رباني، ومطلب أساسي في الحكم، والمبرر لبقائه واستمراره، فإذا فُقِد فلا معنى للدولة، فإذا كان الحاكم هو المعتدي فاقرأ على حُكمه السلام؛ «فالعدل في القضاء، والمساواة في العطاء، من أهم المبادئ التي قام عليها الخطاب السياسي في المرحلة الأولى التي تمثل تعاليم الدِّين المنزل، وقد أكد هذا المبدأَ القرآنُ العظيم في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء:58]، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8]»5.
و«الشرع -في الجملة والعموم- أمَر بكلِّ ما هو صلاحٌ وعدل وخير، ونهى عن كل ما هو فساد وظُلم وشر، فكل سياسة تسير في هذا الاتجاه فهي سياسة شرعية، وكل تدبير يصُبُّ في هذا النطاق فهو عمَل شرعيٌّ»6.
3- مبدأ الشورى:
قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:38]، وقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]؛ فهي «نظام تدبير شامل للبلاد وأهلها، وأداء جادٌّ للمسؤولية بفعالية، وسلوكية سوية، وإنتاجية مضبوطة، وضمان للحرية والعدالة والمساواة، على نهج قاصدٍ وصراط مستقيم، لرقي الأمة وازدهارها وظهور أمر دِينها، وليست مجرد تبادل للرأي والنصيحة غير ملزم؛ فإن توفير قواعد لبناء هذا الصرح الشوري العام، يُعَد اللبنة الصلبة للتشييد والأساس المتين الذي يقوم عليه كيان الدولة، وتنظم على هَدْيه المصالح، وتضبط به التصرفات، وتحدد بواسطته الأهداف والغايات، وترتكز عليه مبادئ العدالة والأمن والاستقرار والرفاهية والقوة»7.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو المعصوم- يشاور أصحابَه في الأمور التي ليس فيها نص شرعي، كما صار على ذلك الخلفاءُ الراشدون مِن بعده؛ فهي مِن أسس الخطاب السياسي الإسلامي ومميزاته.
4- مبدأ الحرية:
وهي من المفاهيم التي كان للإسلام أثرٌ في ضبطها وتنظيمها، «فكما للأمة الحق في اختيار الإمام، ومشاركته الرأي، وحق خلعه، فكذا لها الحق في نقده، ومناصحته، والاعتراض على سياسته؛ فالحرية السياسية أحد الأُسس التي قام عليها الخطاب السياسي الإسلامي، التي تمثل تعاليم الدين المنزل، وقد تجلَّت الحرية في أوضح صورها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- وقد أرسى القُرآن مبدأ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256]، ليؤكد مبدأ الحرية بجميع صورها»8.
5- المساواة:
«بما أن أصل البشر واحد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، وأن الناس سواسية كأسنان المُشط، كما ورد في الأثر؛ لذا فالبشر متساوون أمام القضاء، وقد حفظت لهم حق التملك، وجعلت ديتهم متساوية، لذا فالعدالة توفر المساواة، أو هي شرط لها، فلا مساواة حقيقية بدون عدالة، ومتى اختلت موازين العدالة أصبحت بلا مساواة. والمساواة بحسب الأصل تعني أن لا يملك أحد حقوقاً بحس الولادة، ولا امتيازات خاصة، فإن ملك أحد ذلك فقد اختلت العدالة وذهبت المساواة. والمساواة المطلقة لا وجود لها وغير مطلوبة، ولكن المطلوب تساوي المتماثلين، أما غير ذلك فظلم وإجحاف، تساوي العدو يعني الفساد بعينه، ويشكل كارثة»9.
فهذه مَيزة المساواة في النظام السياسي الإسلامي، لا تعرف استثناءات أمام القانون، مثل الحكام والدبلوماسيين وغيرهم ممن يستثنون من القضاء؛ إذ حدَّدت الشريعةُ حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقاصد المقاصد الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة أحمد الريسوني -الشبكة العربية للأبحاث والنشر- بيروت-لبنان ص133.
[2] الحرية أو الطوفان لحاكم المطيري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية (ص:62).
[3] المصدر نفسه (ص:63).
[4] النظام السياسي في الإسلام، د نعمان السمرائي، الطبعة الثانية مكتبة المعارف (ص:16).
[5] الحرية أو الطوفان (ص:74).
[6] مقاصد المقاصد (ص:134).
[7] في النظام السياسي الإسلامي ثلاثية فقه الأحكام السلطانية رؤية نقدية للتأصيل والتطوير، عبد الكريم مطيع الحمداوي، (ص:339)، نسخة إلكترونية معتمدة من المؤلف.
[8] الحرية أو الطوفان (ص:45).
[9] النظام السياسي الإسلامي لنعمان السامرائي (ص:207).