هل يعري الغلاء شرعية الحكومة في المغرب؟

17 فبراير 2023 07:38

هوية بريس – بلال التليدي

جدل سياسي كبير يتفجر هذه الأيام حول موجة الغلاء التي ضربت أسعار الخضر والفواكه واللحوم والدواجن بالمغرب، بين الحكومة التي تسارع لتطويق الأزمة بالبحث عن أسباب بعيدة عنها، وبين المعارضة السياسية التي تحاول أن تنسب الأزمة إلى تضارب المصالح التي تتهم وزراء فيها، بمن في ذلك رئيس الحكومة نفسه الذي تحتكر شركته جزءا كبيرا من قطاع المحروقات بالمغرب.

والواقع أن أزمة ارتفاع الأسعار ليست جديدة ولا طارئة، فقد عرفت أسعار المواد الغذائية في المغرب ارتفاعا مطردا وذلك منذ جائحة كورونا، وازدادت الوتيرة أكثر منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وكانت الحكومة تستنجد في خطابها التواصلي الموجع للرأي العام بحكاية تغيرات المحيط الدولي والإقليمي وارتفاع الفاتورة الطاقية وتضخم أسعار الحبوب والأسمدة والمواد الأولية التي تستعمل في صناعة الزيوت.

الجديد في الأزمة الجديدة التي تفجرت على خلفية ارتفاع الأسعار، هو أنها ضربت اليوم الخضر والفواكه واللحوم والدواجن، أي أنها مست مخرجات مخطط زراعي (المخطط الأخضر) كان رئيس الحكومة الحالي السيد عزيز أخنوش، يشرف عليه شخصيا حين كان يشغل مهمة وزير الفلاحة في الحكومات السابقة.

والذي أثار الأزمة أكثر، هو المفارقة بين سوق محلي ترتفع فيه أسعار الخضر والفواكه واللحوم والدواجن بشكل غير مسبوق، وبين سوق أوروبية وإفريقية وخليجية وروسية تضج بالمنتجات المغربية المصدرة إليها، فأصبح الاتهام موجها للحكومة، بكونها تشجع تصدير هذه المنتجات للرفع من الاحتياطات النقدية والزيادة في الموارد الضريبية، في الوقت الذي تهدد السوق بالندرة وقلة العرض، مما يتسبب في إشعال الأسعار والإجهاز على القدرة الشرائية وتعريض السلم الاجتماعي للتهديد.

الحكومة بعد أكثر من شهر من التذمر المجتمعي، تحركت على واجهتي الخطاب والإجراءات.

من حيث الخطاب، تمسكت الحكومة بأربع حجج أساسية: ارتفاع أسعار المواد الأولية (البذور والأسمدة) في مناخ دولي مضطرب، وارتفاع أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، وما ينتج عنها من ارتفاع أسعار البذور والآليات الزراعية التي يحتاجها الفلاح (ارتفاع كلفة الاستثمار) وحالة الطقس (البرد الشديد) الذي قلل الإنتاج خاصة في شهر يناير وفبراير، وجشع الوسطاء الذين يستغلون قلة الإنتاج للقيام بمضاربات واحتكار يضخم الأسعار.

من جهة الإجراءات، توجهت الحكومة إلى تحريك الجهاز الإداري (الولاة والعمال) لمراقبة الأسعار والتصدي لبعض المضاربات، وقام القطاع الوصي بحوار مع مختلف المهنيين المعنيين للبحث عن توافقات يتم من خلالها الرفع من معاناة المواطنين بخفض الأسعار في هذه المواد، حثت المهنيين على وقف التصدير لبعض المنتوجات لإفريقيا.

المعارضة تسجل على الحكومة تناقضها في البحث عن التبريرات غير المقنعة، وتعتبر أن عمق المشكلة يكمن في تضارب المصالح، وتوجه النقد إلى رئيس الحكومة، وتتهم مشروع «المخطط الأخضر بالفشل» بالتسبب في الأزمة التي يعرفها المغرب، وتنتقد على الحكومة محاولة صرف انتباه الجمهور عن أصل المشكلة، إذ بدل أن تعالجها من أول حلقاتها (التجار الكبار والوزراء المتهمون بتضارب المصالح) تتجه إلى الحلقات الضعيفة (أصحاب البقالة وصغار التجار).
المزاج الشعبي العام، يحمل روايته الخاصة، فهو يرى أن المشكلة في حكومة، تحمي «الكبار» الذين يحصلون على أرباح خيالية من خلال تصدير منتجاتهم للخارج، وتجوع الشعب المغربي، حين تخيره بين الحرمان وبين شراء منتوجات زراعية أساسية بأثمان ترهق قدرته الشرائية.

المهنيون لهم أيضا روايتهم، فهم يميزون بين المنتوجات الموجهة للتصدير والتي تدر لهم أرباحا مهمة، وبين المنتوجات الموجهة للسوق الداخلي والتي يتكلفون فيها خسارة، وأن ما يكسبونه من جراء التصدير، يغطي الخسارة التي يتكبدونها في بيع منتوجها للسوق الداخلي بأقل من كلفته، بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية وارتفاع كلفة الضرائب بعد إخضاع القاع لها.

في الواقع، لا أحد من هؤلاء، لا الحكومة ولا المعارضة ولا المهنيين، ولا حتى فئات الشعب، يزعم حصول ندرة في السوق، فالجميع يتحدث عن وفرة الإنتاج، ولذلك، لا أحد منهم، مقتنع بأن المشكلة في اختلال معادلة توازن العرض والطلب، وحتى الحكومة والمهنيون، الذين يدفعون بحجة أن موجة البرد تقلل من الإنتاج، لا ينكرون أن كمية هائلة من المنتوج المغربي توجه للتصدير إلى الأسواق الأوروبية والإفريقية والخليجية والروسية!

أين المشكلة إذن؟ هل هي مهنية ترتبط بإكراهات قطاع زراعي؟ أم سياسية ترتبط بأزمة تضارب مصالح أو فشل في تدبير قطاع زراعي تولي الحكومة الحالي مسؤوليته منذ أكثر من عقدين؟

الاستقراء المعمق لأسباب المشكلة، يضع الأصبع على ثلاث معضلات: فشل الحكومة في مواجهة مضاعفات إخضاع القطاع للضريبة، وغيابها كطرف يضبط إيقاع السوق الداخلي ومتطلباته وينسق مع المهنيين ممكنات التصدير، تغول نخب المال والأعمال على السلطة، وارتهان الحكومة لمعادلات ضيقة فرضها واقع تضارب المصالح لبعض أعضائها وربما لأحزاب مكونة لها.

قبل سنة، صدر تحذير مهم من المهنيين للقطاع الوصي (وزارة الفلاحة) نبه إلى أنهم لن يستمروا في إنتاج الطماطم الموجه للسوق الداخلية بسبب ارتفاع الكلفة وعدم قيام الحكومة بأي إجراء يخفف من العبء الضريبي، في الوقت الذي كانت الحكومة تحقق موارد ضريبية مهمة (تحقيق فائض مهم هذه السنة).

السلوك الذي اختاره المهنيون لمواجهة إعراض الحكومة، هم توجيه استثماراتهم للمنتوجات الزراعية الموجهة للتصدير باعتبار مردودها المالي المهم الذي يغطي كلفة الاستثمار، وبذل جهد متواضع في تلبية حاجيات السوق الوطنية بحجة أنهم لا يمكن أن يستمروا في تحمل الخسارة.

المشكلة ظهرت هذه السنة بشكل مزعج، لاسيما في شهري يناير وفبراير اللذين يتأخر فيهما الإنتاج بسبب انخفاض درجة الحرارة، مما جعل الحكومة، تتداعى للقاء مرة أخرى مع المهنيين لإقناعهم بصرف جزء من المنتوجات الموجهة للتصدير إلى السوق الوطنية، إذ تم إصدار قرار بوقف التصدير لإفريقيا حتى لا يتعرض المهنيون لمتابعات قضائية من طرف المستوردين الأوروبيين الذين تربطهم بهم عقود سابقة كما وقع في السنة الماضية.

الوضع الحالي، يكشف عن معضلة كبيرة، فالحكومة ـ على ما يبدو- لا تملك أي معطيات عن الحاجة الحقيقية للسوق الوطنية، وتترك توفير متطلباتها، وحاجة الدول الأخرى للمنتوجات المغربية لإرادة المهنيين، فيبرمون عقودهم للتصدير، دون أن يكون لها يد حتى في تنسيق هذه العملية أو ضبط إيقاع معادلة حاجة الداخل ومتطلبات الخارج.

بعض السياسيين والإعلاميين انتقدوا بشدة قرار وقف التصدير لإفريقيا، معتبرين أنه يحمل طابعا تمييزيا، وأنه يسير عكس دبلوماسية المغرب في التمدد في العمق الإفريقي، لكن القرار في الواقع، يعكس عجز الحكومة عن التدخل في التصدير، وأنها لم تجد من المهنيين سوى هذه الاستجابة بحكم أن التصدير لإفريقيا لا يخضع للعقود الإلزامية نفسها مع السوق الأوروبية والتي توجب المتابعة القضائية في حالة الإخلال.

كثيرون يعتقدون أن جزءا كبيرا من المشكلة يكمن في تضارب المصالح، فثمة من يطرح التساؤل عن سبب عدم تدني أسعار المحروقات وأسعار الزيوت وأسعار القمح في السوق الداخلية مع حصول انخفاض مهم في الأسواق الدولية، بل إن كثيرا من هؤلاء يتساءل عن سبب قيام شركات المحروقات في منتصف هذا الشهر ـ أي تزامنا مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية على أزمة الغلاء ـ بتخفيض درهم واحد في سعر الكازوال، مع أن سعر النفط دوليا لم يختلف عما كان عليه الشهر الماضي (ما بين 82 و86) كما أن سعر الدولار لم ينخفض بالمقارنة مع الدرهم.

الظاهر في أزمة ارتفاع أسعار المنتوجات الزراعية، أن الحكومة أعمتها عائداتها الضريبية عن النظر إلى مخاطر الاستمرار في تدبير السياسات العمومية بمنطق تغول رجال المال والأعمال، بدون امتلاك أي رؤية استراتيجية للأمن الغذائي، فضلا عن موازنة حاجيات الداخل والخارج.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M