محو “الأميات”
هوية بريس – عبده حقي
في اليوم العالمي لمحو الأمية، الذي يُحتفل به كل عام في الثامن من سبتمبر، يتأمل العالم قاطبة القوة التغييرية لبرامج محو الأمية وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات.
وإذا كان محو الأمية التقليدية – القراءة والكتابة – يظل أساسيا في اهتمامات الحكومات، فقد أدخل الازدهار السريع للتكنولوجيا أشكالًا جديدة من محو الأمية، بما في ذلك محو الأمية الرقمية والإعلامية ومحو الأمية على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي عالم اليوم المترابط والمتشابك، تعد أشكال محو الأمية الجديدة ضرورية للتنقل عبر تعقيدات الحياة الحديثة، من الوصول إلى المعلومات إلى المشاركة المدنية. وبينما نحتفل بهذه المناسبة هذه السنة، من الأهمية بمكان أن ندرك الطبيعة المتطورة لمحو الأمية والحاجة إلى شموليتها.
لقد كان مفهوم محو الأمية يعني تقليديًا القدرة على القراءة والكتابة، وهي مهارة أساسية شكلت لفترة طويلة حجر الأساس للتعليم والتطور الذاتي. تاريخيًا، مكّن محو الأمية التقليدي الأفراد من المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال منحهم إمكانية الوصول إلى المعلومات والمنتجات الثقافية وفرص المبادرة والشغل.
وكثيراً ما ننظَر إلى محو الأمية التقليدي باعتباره بوابة عريضة لفهم الأعراف الثقافية والمجتمعية الأوسع نطاقاً. وفي العديد من الثقافات، تُستخدم معدلات محو الأمية كمؤشر للتنمية والتقدم الشامل. على سبيل المثال، تؤكد المنظمات العالمية مثل اليونسكو على أهمية محو الأمية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتربطها بتحسين النتائج الصحية، والمساواة بين الجنسين، والحد من الفقر. وفي هذا السياق، فإن القدرة على القراءة والكتابة هي أكثر من مجرد مهارة عملية؛ فهي تمثل شكلاً من أشكال رأس المال الاجتماعي الذي يمنح الأفراد القدرة على الوصول إلى السلطة وفرص التنمية.
ورغم أن محو الأمية التقليدي يظل بالغ الأهمية، فقد شهد القرن الحادي والعشرين ظهور ما يطلق عليه العلماء “محو الأمية الجديدة”. وتشمل هذه “محو الأمية الرقمية” و”محو الأمية الإعلامية” و”محو الأمية الاجتماعية”، وكل منها ضروري للعمل النشيط في عالم اليوم المترابط الذي تحركه اختراعات التكنولوجيا. وعلى النقيض من محو الأمية التقليدي، فإن هذه “المحو الأمية الجديدة” لا تنطوي فقط على القدرة على استهلاك المعلومات، بل وأيضاً على القدرة على تحليل وإنتاج المحتوى بشكل نقدي في البيئات الرقمية والإعلامية.
تشير الثقافة الرقمية إلى القدرة على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للعثور على المعلومات وتقييمها وإستهلاكها وتوصيلها. ويشمل ذلك فهم كيفية استخدام الأدوات الرقمية والتنقل عبر الإنترنت والتفاعل مع المنصات الرقمية. وفي عالم حيث يتم التوسط بشكل متزايد في العمل والتعليم وحتى التفاعلات الاجتماعية من خلال التكنولوجيا، فقد أصبحت الثقافة الرقمية ضرورية بقدر الثقافة التقليدية. فهي لا تنطوي فقط على القدرة على استخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، بل تشمل أيضًا فهم الآثار الأخلاقية والأمنية للتفاعل الرقمي، مثل قضايا الخصوصية وحماية البيانات.
أما محو الأمية الإعلامية فتعني القدرة على التعامل بشكل نقدي مع أشكال مختلفة من وسائل الإعلام، مثل الأخبار والإعلانات والترفيه. ومع انتشار المعلومات في العصر الرقمي، يساعد محو الأمية الإعلامية الأفراد على التمييز بين المصادر الموثوقة والمعلومات المضللة، وفهم التحيزات في التمثيل الإعلامي، والتعرف على تأثير الإعلان والدعاية. في عصر “الأخبار المزيفة” ، يعد محو الأمية الإعلامية أمرًا بالغ الأهمية للمشاركة الديمقراطية، مما يسمح للأفراد باتخاذ قرارات مستنيرة والمشاركة في الرأي العام.
إن محو الأمية الاجتماعية هي أيضا إضافة حديثة إلى طيف محو الأمية الجديدة. وهي تنطوي على فهم كيفية عمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والخوارزميات التي تتحكم في ظهور المحتوى، والتأثيرات المحتملة لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والخصوصية والاتجاهات المجتمعية. وتشمل محو الأمية الاجتماعية أيضًا القدرة على إنشاء المحتوى ومشاركته بشكل مسؤول، والمشاركة في مناقشات هادفة عبر الإنترنت، والتنقل بين تعقيدات العلاقات الرقمية. ونظرًا للدور الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وأنستغرام وإكس (تويتر سابقا) في تشكيل الرأي العام والهوية الشخصية، فإن محو الأمية الاجتماعية قد أصبح مهمًا بشكل متزايد.
وعلاوة على ذلك، فإن الوتيرة السريعة للتغيير التكنولوجي تعني أن مهارات القراءة والكتابة الجديدة تتطور باستمرار. ولا ينبغي للأفراد أن يكتسبوا هذه المهارات فحسب، بل يتعين عليهم أيضا أن يكونوا قادرين على التكيف مع بيئتها، وأن يتعلموا باستمرار كيفية التنقل بين المنصات والأدوات الرقمية الجديدة عند ظهورها. وقد أدى الانقسام بين أولئك الذين يتمتعون بالقدرة على القراءة والكتابة الرقمية وأولئك الذين يجهلونها إلى ما بات يعرف ب”الفجوة الرقمية” التي تؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية، حيث يتم استبعاد أولئك الذين يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة الرقمية في كثير من الأحيان من الفرص التعليمية والاقتصادية.
وعلى الرغم من الأهمية المتصاعدة لمحو الأمية الجديدة، فإن هناك تحديات كبيرة تعوق تبنيها على نطاق واسع. فالوصول إلى التكنولوجيا غير متكافئ، حيث تفتقر المجتمعات المهمشة في كثير من الأحيان إلى الموارد اللازمة لتطوير مهارات محو الأمية الرقمية والإعلامية. بالإضافة إلى ذلك، كانت أنظمة التعليم في العديد من أنحاء العالم بطيئة في التكيف، ولا تزال تركز في المقام الأول على محو الأمية التقليدية وتفشل في دمج محو الأمية الجديدة في المناهج الدراسية.
إن دمج أساليب جديدة لمحو الأمية في التعليم من شأنه أن يخلق مواطنين أكثر انخراطا ووعيا وتمكينا. وعلاوة على ذلك، توفر التكنولوجيات الرقمية فرصا غير مسبوقة للتعلم والإبداع. على سبيل المثال، تمكن المنصات الإلكترونية الأفراد من الوصول إلى ثروة من المعلومات، والتواصل مع الآخرين في مختلف أنحاء العالم، ومشاركة أفكارهم وإبداعاتهم.