جلسة غداء باردة.. (بدون الشيخ زحل -رحمه الله-)

11 سبتمبر 2017 00:34
وقفة مع رحيل العالم..!

هوية بريس – سفانة إراوي

ساهمةٌ في متابعة حركات جدتي وهي تغمس ملعقتها في صحن السَّلَطة.. هدوء مفعم بحنين الذكريات، يزيد من ضراوته ديكور الجلسة في اهتمامه بهذا المثنّى الذي طالما كان حيّا أمامها بذات التفاصيل؛ كرسيان مستندان إلى الطاولة، صحنا سلطة، كأسا عصير، خبزتان وصحن دجاج رئيسي.. تنضاف إليها في هذه المرة الاستثنائية في سجل الذكرى، ذاكرتان متوهجتان بملاحم الأيام الخالية، الخالدة بكل ما يرتبط بها في الحاضر المتعلق برحم الماضي، في وفاء لا يملك عنه المرء بدلا!
تتمتم إحدانا بما يلطّف الجو حيناً لكسر السكون، ونسرح أحياناً كثيرة مع صخب مسيرة “الهْدية” التي أبت إلا أن تذكرنا بسكيزوفرينية الدنيا في تقلب وجهها علينا بين مظاهر الفرح والحزن، النصر والهزيمة، الربح والفقدان، الأمل والألم، الجمال والقبح… وهكذا… مثل كتاب قصص نوالي صفحاته واحدة بعد أخرى، لننتقل من مشهد إلى مشهد، ومن ضمير إلى آخر، ومن عبرة إلى أخرى أقوم منها وأعمق أثرا!
تتنهد أنفاسي في إصرار على فضح فوضى خواطري المتراكمة وهي لا تزال شاردة مع ملعقة جدتي التي أراها وقد استأنست بسلطة الخضروات مجدداً، في مشهد تاريخي يعيد نفسه أمام ناظرَيّ، كما كان يوما في حضرة جدي وهو جالس بهيبته المعهودة، يهيم بعينيه في وجوهنا وحركاتنا ليصطاد شيئا يداعبنا به كعادته، ثم يترجل بهما أمام جدتي المستسلمة لصحن السلطة.. فيعاتبها في مزاح ظاهر:
“لا أراكِ إلا خارجة علينا يوماً بأذني أرنبة وأنت تقفزين أمامنا مثلها، لكثرة تطلعك للخضروات بديلاً عن اللحوم!”
فتجيبه غير متأخرة، بصرامة ثباتها على مبدئها المقرع لاختياراته:
“أ لن أكون إلا أرنبة، لا تمت لوحشية الافتراس بشيء؟! احمد الله إذن!”
ثم يرن صوت ضحكنا الجماعي من الدعابة في أذنَيّ كما لو أنني أعيشه مرة أخرى..
أطرب لموسيقاه في داخلي، وتنتاب قلبي لهفةٌ لِلَوك لساني به في هذه اللحظة الباردة… وسرعان ما يهُبّ اللاشعور عندي لينتفض بقهقهة تفضح مكنون النفس، فتستيقظ الجدة من شرودها ملتفتة إلي في ابتسام محفِّز، وهي تستعد لسماع أصل هذا الذي كسر صوت أنفاسنا الحائمة في خيالات الباطن العميق..
أذكِّرها بمشهد جلسة الغداء بدعابتها تلك وأنا في حرص على تضمين نبرة صوتي كل معاني الانتشاء والحبور بهذا الخاطر العابر، فتقايضني بذلك انفراجَ أساريرها بضحكة غامرة، وتمضي بدورها في استحضار لبعض معالم الموضوع الخافية علي، لتضيف:
“كنت في خياله أرنبة أحياناً، و”فكروناً” أحيانا أخر، وله في ذلك قصص، وعبر أيضاً يصر على استخلاصها وإن كانت في غير محلها من أجل تطعيم دعابته… ياااا ربي ترحموو وتجمعنا بيه صالحيييين”
ثم تلى الخاطر الوضيء صمت مطبق، ارتخت فيه الأحاسيس، واختلت فيه البواطن بهواجسها المقلقة وكأنها تردد في انكماش: “سبحانك، سبحانك.. ما هي إلا دنيا فانية! لا تكلنا إلى أنفسنا، أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، اجعل لنا من لدنك سلطانا نصي

آخر اﻷخبار

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M