حديث عن التقليد

07 سبتمبر 2020 17:03

هوية بريس – محمد عوام

قرأت غير ما مرة عن بعض الأساتذة، ممن يشتغلون بالعلوم الإسلامية، أنهم ينسبون أنفسهم إلى التقليد، ويقولون ما هم إلا مقلدة، حتى ادعى أحدهم أنه بعد زمن غير يسير من التحصيل بلغ درجة الفقيه المقلد، ولي على هذه المقالة بعض التعليقات، أقيدها فيما يلي:

أولا: أن من اطلع على كتب علم أصول الفقه خلص إلى أن التقليد هو أخذ قول من غير معرفة دليله أو حجته، قال الإمام الغزالي رحمه الله: “التقليد هو قبول قول بلا حجة.” (المستصفى)، وقال ابن الحاجب: ” التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة.” (المنتهى) وعرفه ابن السبكي بقوله: “أخذ قول الغير من غير معرفة دليله.” (جمع الجوامع مع شرحه تشنيف المسامع للزركشي).

ومن العلماء من فرق بين التقليد والاتباع، استنادا إلى القرآن الكريم، وهو ما جنح إليه ابن خويز منداد (توفي390ﻫ) وأكده بقوله: “التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه. وذلك ممنوع منه في الشريعة. والاتباع: ما ثبت عليه حجة.” (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد ص106.)

وهو أيضا ما ذهب إليه ابن عبد البر في قوله: “التقليد عند العلماء غير الاتباع، لأن الاتباع هو تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى.” (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، 2/787.) ثم أفاض بعدها ابن عبد البر في بطلان التقليد، حتى قال: “فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك.” (2/975).

بهذا يظهر أن العلماء متفقون عن بكرة أبيهم، على أن التقليد هو أخذ قول أو العمل به من غير معرفة دليله، ولا الوقوف على حجته، وهو باطل. ومذهب الإمام مالك رحمه الله والجمهور وجوب الاجتهاد والنظر، على ما نقله القرافي في (شرح تنقيح الفصول) وجزم به، قال: “مذهب مالك وجمهور العلماء رضي الله عنهم وجوبه وإبطال التقليد لقوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» (ص430).

وتواليف العلماء طافحة بذم التقليد، ويتعجب المرء من هؤلاء الذين يتمسكون بما هو مذموم ومنبوذ عند العلماء، ولم يرضوه لأنفسهم، لأنه مسلك بعيد عن طريق العلم وليس معدودا منها.

ثانيا: هل التقليد من العلم؟ الذي جرى عليه المحققون وفحول الأصوليين أن التقليد ليس من العلم في شيء، لأن المقلد ليست له القدرة أن يُعمل الأدلة، ولا أن يستنبط بها الأحكام، قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): “التقليد ليس طريقًا للعلم ولا موصلاً له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافًا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن البحث والنظر حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.” (الجامع لأحكام القرآن2/142.)

وقد أكده ابن القيم في (إعلام الموقعين) ونقل فيه الاتفاق، فقال: ” “والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم.” (2/188) وهو الذي نصره أهل العلم من كل المذاهب، ومصنفاتهم وتواليفهم شاهدة على ذلك، لا نطيل الكلام عنها هنا.

ثالثا: ابن القصار والشاطبي يوجبون الاجتهاد في حق العامي. على أن من علماء الأصول من قد أوجب على العامي أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه، أو يعتمد عليه في الفتوى. ومنهم مالك نفسه، وقد نسبه ابن القصار إليه في مقدمته الأصولية، قال: “يجب عند مالك -رحمه الله- على العامي إذا أراد أن يستفتي ضرب من الاجتهاد.” (ص26)

وهو الذي جرى عليه الشاطبي رحمه الله، حيث أوجب على العامي الاجتهاد عمن يأخذ عنه، قال: “فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معًا، ولا  اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا  ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معًا، ولا  أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح. وقول من قال: “إذا تعارضا عليه تخير” غير صحيح من وجهين: أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر، وقد مر ما فيه آنفًا. والثاني: ما تقدم من الأصل الشرعي، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل، وهو غير جائز،… ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة، لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة، فلا يصح القول بالتخيير على حال.” (الموافقات 4/130،131).

رابعا: لا حق للمقلد في الكلام والنقد: إذا كان التقليد هو الأخذ بقول من غير معرفة دليله ولا حجته، فمن المنطقي والمعقول أنه لا يفهم كلام العلماء، فهو قاصر عن إدراك مقالاتهم واستدلالاتهم، فلا جرم أنه لا يحق له أن يتكلم، وإلا إذا تكلم قد ناقض منزلته ودرجته التي ادعاها، وناقض ما عليه العلماء في اعتبار المقلد من جملة العوام. وها هو ابن رشد الحفيد رحمه الله يبين ما أكدناه، بقوله: “وأما من يجوز لهم التقليد، فهم العوام،…فقد تبين من هذا أن الناس صنفان: صنف فرضه التقليد. وهم العوام الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد التى حددت فيما قبل. وصنف ثان وهم المجتهدون الذين كملت لهم شروط الاجتهاد. وأما هل لهذا الصنف الثاني وهم المجتهدون أن يقلد بعضهم بعضا، ففيه نظر. فإن تقليد العوام شيء أدت إليه الضرورة، ووقع عليه الإجماع. لكن ينبغي أن يقال: يجوز للمجتهد تقليد المجتهد إذا كان أعلم منه، وترجح عنده حسن الظن به ترجحا يفضل عنده الظن الواقع له في الشىء عن اجتهاده.” (ص144).

ثم طفق ابن رشد يبين حال صنف بين المنزلتين، فكأنه يتحدث عن الطائفة التي تسمى عند عامة الناس بـ(الطّلبة)، وإن كان عامة الناس يطلقون عليهم اسم الفقيه، قال رحمه الله: “ولأن هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون- في زماننا هذا أكثر ذلك- بالفقهاء، فينبغى أن ننظر في أي. الصنفين أولى أن نلحقهم. وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام، وأنهم مقلدون. والفرق بين هؤلاء وبين العوام، أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام، من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين.” (ص144).

وصفوة القول أن من يعتقد أنه من المقلدين، فعليه لهذه الاعتبارات أن يمسك لسانه عن الكلام، وأن يبقى وفيا لمبدئه في التقليد، وإلا دخل في التشغيب والتمويه، والتلاعب بالألفاظ، وهذا العمل لا يليق بمن له مسكة من عقل.

خامسا هل تحدث العلماء عن مراتب التقليد؟ وهل سمعنا في يوم من الأيام أو قرأناه عند القوم فلان بلغ مرتبة فقيه مقلد؟ وهل منح أحد العلماء هذه الدرجة لطلابه؟ هذا شيء عجيب وغريب في حق من ينتسب إلى العلوم الإسلامية، وأنجز فيها بحوثا ونال بها شواهد عليا، نحن نسأله إذا كنت مقلدا، فلماذا أعطيت لنفسك حق المناقشة والترجيح والموازنة وإعمال القواعد في بحوثك ودراساتك؟ فهذا لا يفعله المقلد وليس من شأنه. وهذا أكبر دليل على نقض مقولة درجة “فقيه مقلد”، لأن الدرجة أيا كانت ليس من المروءة أن يدعيها أحد لنفسه، وإنما تمنح له من قبل العلماء. نعم من حق الباحث بعد الدراسة والتنقيب والتمكن من الإحاطة بالموضوع أو المسألة المبحوث فيها أن يبدي رأيه واجتهاده ونتائجه، وإلا فلا معنى للبحث من غير هذا. وقد تحدث العلماء عن تجزئة الاجتهاد وهي من مبتكرات الإمام الغزالي في (المستصفى)، وأيده في ذلك جمهرة من العلماء قديما وحديثا، ولم يكن يومها لا مدرسة المنار ولا الظلام!.

ومن اطلع على كتب أصول الفقه، وخبر ما تضمنته من تفاصيل نفيسة متعلقة بالاجتهاد، وقف على تفصيلهم لدرجات المجتهدين ومراتبهم: مجتهد مطلق، ومجتهد منتسب، ومجتهد المذهب،  وهلم جرا. ولم يتحدثوا عن مراتب التقليد، وإنما تطرقوا إلى مسألة هل يجوز للمجتهد أن يقلد غيره في مسألة أم لا؟ والمحققون على المنع من ذلك، فعليه أن يفرغ وسعه، ويبذل جهده.

سادسا: آفات التقليد: للتقليد آفات كثيرة، على رأسها تعطيل العقل، والسطحية في الفهم، وتقديس من مضى بالجملة، والتنكر لفضائل الأمم ومحاسنها فيما تشترك فيه، وعدها من البدع والارتماء في أحضان الأجنبي.

لكن من أغربها أن يتنكر المقلد للوسائل العلمية الحديثة في تيسير الحصول على المعلومات، واعتبارها اجتهادا إلكترونيا، وموضة جديدة في الاجتهاد، وهذا ناجم عن قصور في التفريق بين الوسائل والمقاصد، فالمواقع الإلكترونية كالشاملة وغيرها، هي من باب الوسائل، لا تمنح الباحث اجتهادا تلقائيا، وإنما توفر له المعلومات بسرعة، وعليه هو أن يعمل فيها نظره واجتهاده، ويستخرج منها كنوزه وجواهره، التي هي المقصودة بالذات، فمن ادعى أن المواقع تمنح صك الاجتهاد؟ فهذا لعمري مجرد تمويه وتشغيب يفتريه من وصل درجة “الفقيه المقلد”. ثم هل بناء على هذا القول السقيم يمكن اعتبار ظهور المطبعة، وطباعة الكتب التي كانت من قبل مخطوطة يندرج فيما ذهب إليه المقلد، فما أجدر بالإنسان الذي لا يفرق بين الوسائل والمقاصد أن يلتزم الصمت، حتى لا ينفضح أمره أكثر.

سابعا: ابن عبد البر ينظم أبياتا في ذم التقليد، وينزل المقلد منزلة الدابة التي تنقاد لصاحبها. وفي ذلك يقول:

يَا سَائِلِي عَنْ مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ خُذْ         عَنِّي الْجَوَابَ بِفَهْمِ لُبٍّ حَاضِرِ

وَاصْغِ إِلَى قَوْلِي وَدِنْ بِنَصِيحَتِي        وَاحْفَظْ عَلَيَّ بَوَادِرِي وَنَوَادِرِي

لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَهِيمَةٍ                   تَنْقَادُ بَيْنَ جَنَادِلَ وَدَعَاثِرِ

تَبًّا لِقَاضٍ أَوْ لِمُفْتٍ لَا يَرَى               عِلَلًا وَمَعْنًى لِلْمَقَالِ السَّائِرِ

فَإِذَا اقْتَدَيْتَ فَبِالْكِتَابِ وَسُنَّةِ               الْمَبْعُوثِ بِالدِّينِ الْحَنِيفِ الطَّاهِرِ

ثُمَّ الصَّحَابَةِ عِنْدَ عُدْمِكَ سُنَّةً             فَأُولَاكَ أَهْلُ نُهًى وَأَهْلُ بَصَائِرِ

وَكَذَاكَ إِجْمَاعُ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ              مِنْ تَابِعِيهِمْ كَابِرًا عَنْ كَابِرِ

إِجْمَاعُ أُمَّتِنَا وَقَوْلُ نَبِيِّنَا                  مِثْلُ النُّصُوصِ لِذِي الْكِتَابِ الزَّاهِرِ

وَكَذَا الْمَدِينَةُ حُجَّةٌ إِنْ أَجْمَعُوا            مُتَتَابِعِينَ أَوَائِلًا بِأَوَاخِرِ

وَإِذَا الْخِلَافُ أَتَى فَدُونَكَ فَاجْتَهِدْ          وَمَعَ الدَّلِيلِ فَمِلْ بِهَمٍّ وَافِرِ

وَعَلَى الْأُصُولِ فَقِسْ فُرَوعَكَ لَا تَقِسْ    فَرْعًا بِفَرْعٍ كَالْجَهُولِ الْحَائِرِ

وَالشَّرُّ مَا فِيهِ فَدَيْتُكَ أُسْوَةٌ                  فَانْظُرْ وَلَا تَحْفِلْ بِزَلَّةِ مَاهِرِ

هذا حديث في التقليد، وهمسة في آذان المقلدة، عسى أن تصل إلى أصماخهم، فيستيقظوا من غفلتهم، ويدركوا أن ما هم عليه، ويلهثون وراءه سوى سراب “يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.”

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M