د.الودغيري: المغرب لم يخرج بعدُ من مرحلة التخبط في مجال سياسة التعليم والسياسة اللغوية المتصلة به

04 سبتمبر 2022 11:42

 هوية بريس – حاوره: محمد زاوي

1ـ اللغة والمدرسة، كيف تتصورون العلاقة بينهما؟

المفروض في المدرسة أن تكون مَحْضِنًا لإتقان اللغة الوطنية المشتركة، وتربية النشء على تشرّب حبها والانغماس فيها والاعتزاز بها، ولهذا يجب أن تخصَّص سنوات الطفولة الأولى لتعلُّمها والتعليم بها دون غيرها، واستعمالها والتكلم بها، قبل الانتقال إلى تعلّم أية لغة أجنبية مهما كان شأنها.

ولكن الذي يحدث في مدارسنا خلاف ذلك تماما. ففي أحسن الأحوال لا يُعطى للغة الوطنية الأولى سوى حيّز صغير من الزمن المدرسي، وهو ما يتم في حصة العربية داخل الفصل لا خارجه، ثم تتركَ بعد ذلك، وتزاحم باللغة الأجنبية منذ مرحلة الروض الأولى (مرحلة ما قبل التمدرس) في المدرسة والشارع والمنول، وأحيانا تُزاحَم بلغة أجنبية ثانية أيضًا في المرحلة الابتدائية. فإذا كان للمغرب لغتان وطنيتان رسميتان اليوم، فمعنى ذلك أن الطفل يطالب منذ سنوات طفولته الأولى أن يُلم بأربع لغات في آن واحد. وهذا إرهاق كبير لذهنيته وبلبلة للسانه وتشتيت لطاقاته وقدراته، فضلاً عن إرهاقه بالكتب والدفاتر والواجبات المدرسية من كل فن ولون، وحرمانه من حقه في اللعب والاستمتاع بطفولته واكتشاف مواهبه.

وأحيانا يتساءل بعض الناس عن سبب تفوق الطفل في المدرسة الفرنسية أو الإنجليزية في إتقان اللغة التي يتعلمها في أقصى سرعة، ولا يفلح الطفل المغربي في ذلك، ولا ينتبهون إلى هذا الإرهاق اللغوي لذهنية الطفل وبلبلة لسانه وتشتيت وعيه وتركيزه في المدرسة المغربية، بينما تركزّ المدرسة الأجنبية في مرحلة الطفولة الأولى على تعليم لغتها قبل التفكير في أية لغة أخرى.

ومن باب تركيز المدرسة الأجنبية على تعليم لغتها أنها تفرض على أولياء الأطفال والتلاميذ أن لا يُكلموه في البيت أو الشارع بلغة أخرى غير لغة المدرسة. ثم إن تعليم اللغة ينبغي أن يرتكز أساسًا على الحديث الشفوي وتوفير بيئة سَماعية كافية، وهذا ما لا يحدث بتاتا في مدارسنا. وهذا التكوين الارتجالي الذي يعطي الأسبقية للكمّ على الكيف، ينشأ عند التلميذ منذ مراحل التعليم الأولى ويستمر معه إلى النهاية، ولذلك فهو في النهاية يتخرَّج من غير أن يتقن أية لغة من اللغات الكثيرة التي تزاحمت عليه، بما في ذلك لغته الوطنية. ومع كل هذا يأتي من يزعم أن سبب ضعف التكوين اللغوي للتلميذ المغربي سببُه اللغة العربية، وعلاجُه هو استعمال الفرنسية، فيزيد بذلك الطين بلة. تلك إحدى آفات التفكير التربوي في بلادنا، للأسف الشديد.

2 ـ كيف تقيّمون التدبير اللغوي في مجال التعليم بالمغرب؟

باختصار شديد، المغرب ما زال لم يخرج بعدُ من مرحلة التخبط في مجال سياسة التعليم ككل، والسياسة اللغوية المتصلة به على وجه الخصوص، رغم مضيّ قرابة سبعين عامًا على الاستقلال، وهذا مؤسف ومُحزِن للغاية. مؤسف ومُحزن أن نُمضي كل هذا الوقت واقفين في مكاننا لا نراوحه، وما زلنا نتناقش في شأن لغتنا: هل هي صالحة لتكون أداة للتعليم أم لا؟ ومؤسف ومُحزن أكثر أن تكون هناك فئةٌ منّا فاقدة للثقة في لغتها وهويتها، مهزومة نفسيًّا ومستلَبَة فكريًّا وثقافيّا ولغويّا إلى الحد الذي يجعلها مستمرة في عنادها وعرقلة كل مشروع يحاول تقريبنا من نهاية النفَق والوصول إلى الحل الذي يحقق أحلام شعبنا في التخلّص من كل تبعية ثقافية ولغوية.

فالمغرب لم يستطع بعد كل هذا الوقت الضائع، أن يُبلور لنفسه رؤية واضحة في موضوع اللغة بصفة عامة ولغة التدريس بصفة خاصة، ولم يصل إلى تبنّي قرار حاسم لا رجعة فيه حول هذه المسألة التي لا يزيدها الزمنُ إلا تعقيدًا، مع أن حسمها كان سهلاً في البداية، وإنما ظل طيلة الحقبة الماضية متذبذبًا متقلّبًا في خياره اللغوي لا يرسو على شاطئ. ومن الخطأ أن يعتقد أحد أن القانون الإطار للتعليم الذي صدر عام 2019 قد حلَّ هذه المعضلة حلا نهائيا، لأن الطريقة التي مُرِّرَ بها والضجة التي أحدَثها بعد تمريره بطريقة فجة، تدلان على أن ما حصل هو مجرد جولة في معركة طويلة لم تنته بعدُ.

أما لماذا ظل المغرب متذبذبًا في مواقفه تُجاه مسألة لغة التدريس طيلة العقود السبعة الماضية؟ فهنالك عدة أسباب واضحة لمن يتابع تطور النقاش حول الموضوع منذ سبعين سنة الماضية:

السبب الأول في نظري هو أن القرار في مسألة اللغة بالذات ليس قرارًا مغربيّا حرًا مستقلا. وإنما هناك تبعية ثقافية وفكرية ولغوية معروفة. ولاسيما أن القرار اللغوي مرتبط بالقرار السياسي والاقتصادي، وهو أيضا ليس قرارًا مغربيّا في القضايا المصيرية الكبرى.

والسبب الثاني مرتبط بالأول، وهو أن المغرب لم يستطع التحرّر من قبضة بعض النخَب المتحّكمة في القرار، وهي التي تُملي إرادتَها حسب مزاجها ورؤيتها الخاصة وارتباطاتها ومصالحها الذاتية، ولا تبالي بما سوى ذلك. وبما أن هذه النُّخَب في الأساس فرنكفونية التكوين والتوجّه والتفكير والثقافة واللغة، فإن عداءها للغة الوطنية عداءٌ مستحكِم ومفروغ منه، وازدراءها لها أمرٌ موروث من مرحلة الاحتلال، وهو جزء من تكوينها الثقافي وسلوكها اليومي. وكيف تريد لنخبة هذا شأنها أن تُفكّر في غير ما تفكّر فيه وتسير في غير الاتجاه الذي تسير فيه، وهي ذاتُها مستلَبَة وغير مستقلة في تفكيرها وتوجهها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ففاقدُ الشيء لا يُعطيه.

ومن المؤسف أن هذه النخبة الفرنكفونية التكوين والتفكير لا تعمل وتؤثِّر وحدها في ميدان اللغة والسياسة التعليمية، وإنما أصبحت تتحالف معها نخبة من نوع آخر متطرّفة في تفكيرها وتعتقد عن خطأ واضح وسوء نية أن استعمال العربية في التعليم والإدارة يسيء إلى وضع الأمازيغية ويؤدي إلى تهميشها، ويهدد وجودها، ولذلك فهي أيضًا تعلن عداءها للغة القرآن وتجاهر به ولا تُجامل فيه، وتجد نفسها عن طواعية واختيار في حلف إيديولوجي مع التيار الفرنكفوني. بل هناك من يذهب في التطرف إلى حد القول إنه مستعد للتحالف مع الشيطان، ومع فرنسا وإسرائيل وأمريكا وأية قوة خارجية أخرى، من أجل الوقوف سدا منيعًا للحد من مجالات استعمال العربية في أي اتجاه.

هذا دون أن أتحدث عن فئة ثالثة تتكون من النخب السياسية الفاسدة والشعبوية التي استطاعت في المراحل الأخيرة أن تتغلغل في الأحزاب الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى والوصول إلى مراكز القرار فيها، وهذه الفئة من الخطورة بمكان لأنها مستعدة للمتاجرة في كل شيء وبيع مواقفها في المزاد العَلَني لمن يدفع أكثر، ولاسيما حين يتوقف الأمر على اتخاذ قرارات حاسمة تحدد مصير البلاد وترهن مستقبلها لأمد طويل أو متوسط. وهذه قمة الدراما في هذه القصة المضحِكة المُبكية في آن.

السبب الثالث: غياب جو ديموقراطي حقيقي يسمح بمناقشة مثل هذه القضايا نقاشًا عميقًا بتأطير من خبراء التعليم والتربية واللغة الحقيقيّين لا المزيّفين، والوصول به إلى حل متفق عليه. ولقد سبق للمغرب أن نظم في عهد الحسن الثاني رحمه الله عدة مناظرات كبرى حول التعليم (من 1970 إلى 1994ـ1995) وانتهت كلها إلى ضرورة اعتماد اللغة العربية في تعليم كل المواد الدراسية، لكنها رغم ذلك أقبرت مُخرجاتُها وعُطِّل تنفيذها عمدًا، وتم اللجوءُ إلى إملاء حلول أخرى بديلة خارج النقاش الوطني الحر الذي تؤطره النخب الوطنية ذات الكفاءة والخبرة والمسؤولية.

إذن، يوم يصبح القرار في هذه المسألة قرارا مغربيّا مئة بالمئة، ويوم يكون الأمر بيد نخبة وطنية مسؤولة ومتحررة من الاستلاب الثقافي واللغوي والحسابات الفئوية والطائفية الضيقة، ومتمتِّعة بقدر كبير من الوعي والقدرة على اختيار الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى خدمة المصلحة العليا للبلاد بعيدا عن إغراءات المال والسلطة والمتاجرة السياسية والمزايدات الإيديولوجية الشعبوية، إذ ذاك يمكن أن يكون لنا أملٌ في التغيير الحقيقي الذي ننشده.

3 ـ كيف تقيّمون واقع التعليم بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على تبنّي القانون الإطار؟

 يمكن أن أقول لك بكل صراحة وجدّية، إن ما سمي بالقانون الإطار الخاص بالتعليم، كان أكبر نكسة حقيقية في مجال لغة التعليم على وجه خاص، وأكبر صفعة تلقَّتها اللغة العربية في تاريخ المغرب الحديث، لم يكن أحد ينتظرها لا من الوطنيّين المغاربة الغيورين على مصلحة بلادهم ولا من أعدائهم، ولاسيما أنه جاء في شكل تواطؤ شاركت فيه كل الأحزاب والهيئات السياسية الكبرى تقريبا، بشكل أو بآخر، سواء منها أحزاب الأغلبية المكوِّنة للحكومة آنذاك، وأحزاب ما يسمى ب«المعارضة»، فكلها تتحمل مسؤولية ما وقع بلا استثناء، وإن بنسب متفاوتة بطبيعة الحال. ولاسيما أيضا أن الأمر لم يقف عند التراجع عن استعمال العربية في تدريس المواد العلمية بكافة أطوار التعليم، وإنما تَعدّاه إلى فرض الفرنسية على الأطفال في مرحلة الروض (أي السن الرابعة للطفل)، بعد أن كان تدريس اللغة الأجنبية يبدأ، قانونيًّا، في السنة الثانية من الابتدائي (السن السابعة للطفل).

وبهذا يتبين كيف أن اللوبي الفرنكفوني وحلفاءه الآخرين في الداخل والخارج، ممن ذكرناهم قبل قليل، قد نجحوا نجاحا باهرًا في إرغام العربية على التخلّي عن مساحة شاسعة من مواقعها في المقررات والمواد الدراسية العلمية، وإقامة سدود منيعة تحول دون تقدمها في المستقبل.

وهذا الوضع سوف يؤدي من جهة، إلى زيادة الزحف الفرنكفوني حتى يُحكِم سيطرتَه التامة على المجتمع المغربي بكافة أطيافه وفئاته ومكوّناته، ومن جهة أخرى، سيخلق صعوبات جمّة أمام أية محاولة لإصلاح الوضع وإرجاع الحق المسلوب من العربية ظلمًا وغَصبًا، فأحرى التقدم نحو اكتساب مواقع جديدة. وأخطر من هذا وذاك، أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى دفع الأجيال القادمة، بعد مسلسل التيئيس الذي زرعوه في نفوس الناس، إلى التطبيع مع الوضع اللغوي القائم الذي جاء القانون الإطار لتكريسه، حتى يختفي تدريجيا النقاش الدائر حول وضع الفرنسية والهيمنة الفرنكفونية، ويختفي معه أي تفكير في مراجعته أو محاولة مقاومته وتغييره.

ولقد نشرتُ منذ أيام مقالاً بعنوان (انتظروا الأسوأ) أشرتُ فيه إلى الخطوة القادمة التي تعمل النخبة الفرنكفونية مع حلفائها في الداخل والخارج من أجل الوصول إليها، ألا وهي خطوة الانتقال من مرحلة التعامل مع الفرنسية باعتبارها لغةً أجنبية، إلى مرحلة التعامل معها على أنها لغة وطنية لها من الحقوق ما للغتين الوطنيتين الأخريين، مع ميزات تفضيلية زائدة. وهذا ليس رجمًا بالغيب، ولكن علاماته وبوادره أصبحت معلَنة ومصرَّح بها بطريقة أو بأخرى، يدركها بسهولة كل من يتابع الوضع متابعة دقيقة. وما نمرّ به الآن هو مجرد مرحلة تهييء للرأي العام وإنضاجه لتقبل الفكرة والتعامل الإيجابي معها يوم يحين الحينُ لطرحها بشكل جدي وربما قانوني.

أما وضعية التعليم بعد القانون الإطار، فكثير من الناس يخطئون حين يعتقدون، بما فيهم أولئك الذي غُرِّر بهم ودُفِعُوا للمساهمة بأيديهم في خلق هذا الوضع، عن غفلة أو بلادة أو قلة نضج وخبرة، أو عن حسن ظن، أن شعار (إصلاح التعليم) الذي رفعه أصحاب الرؤية الاستراتيجية للتعليم، والقانون الذي انبثق عنها، شعار حقيقي ودعوة جدية للإصلاح، والواقع أن الأمر حسب تحليلي الشخصي وتحليل عدد من المحلّلين المتابعين، على خلاف ذلك.

فالقانون الإطار لم يوضع، إلا من أجل تحقيق غاية واحدة، بدأ العمل عليها وإنضاجها منذ سنة 2010، وشُرع في تنفيذها بشكل عملي منذ سنة 2013 (على يد الوزير رشيد بلمختار) أي قبل اعتماد الرؤية الاستراتيجية وقبل إقرار القانون الإطار بسنوات عدة، وهذه الغاية هي تمرير قرار واحد وهو قرار التراجع عن تعريب التعليم الذي كان من الصعب على أي حزب أو أي وزير أو أية حكومة أن تتخذه بشكل قانوني من قبل، والباقي مجرد أمور تقنية وتفاصيل إجرائية يمكن لأية إدارة تعليمية أن تقترح وتنفّذ مثلها أو أفضل منها دون حاجة إلى كل هذا الضجيج المفتعَل.

ولذلك فهي في نظري لم تكن سوى بهارات وأبازير لتجميل المنظر والتغطية على الهدف الأساس. والأيام سوف تثبت صدق ما أقول. ولا أدل على ذلك من أن أهم نقطة توقّف عندها النقاش المتعلق بالإصلاح طيلة السنوات السابقة لهذا القانون، كانت تدور حول محاولة إقناع عامة الفاعلين بأن السبب الرئيس لأزمة التعليم في المغرب هو العربية لغةً للتعليم. وقد مُهِّد لهذا النقاش قبل ذلك بعدة سنوات (أي منذ 2010) بمحاولة الإقناع باستعمال الدارجة في التعليم، وهو ما أثار ضجة كبرى انتهت برفض الفكرة نهائيا. فلما رُفِضت تم المرور إلى الحل الذي تبنّته الرؤية الاستراتيجية ثم القانون الإطار.

وإذا كان هناك من يقول إن القانون جاء لوضع حد للتخبط في ملف إصلاح التعليم، فأنا أرد عليه بالقول: إنهم جاؤوا به ليكون إطارًا قانونيا لوضع حد للتعريب لا غير. أما الإصلاح الحقيقي فلا يمكن أن يتم في مجال التعليم عن طريق آخر غير طريق اللغة الوطنية الرسمية المشتركة. ومن يقول غير ذلك فهو واهم أو معانِد لمجرد العناد. والأمل الذي أتشبّث به هو أن الأجيال القادمة ستكون أكثر وعيًا منا وتحرّرًا من عقدة الأجنبي وعقدة الطائفية، وبذلك ستصل في النهاية إلى القرار الصحيح الذي عرقلته النخبُ الحالية وأجّلته بصراعاتها وخلافاتها التي لا تنتهي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أكاديمي وكاتب ولغوي مغربي

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M