د. رشيد بنكيران: مقاربة تحليلية لمواقف المسلمين اتجاه ما يقع في المسجد الأقصى المبارك

01 أغسطس 2017 11:24
260 ألفا صلوا الجمعة الأخيرة من رمضان في "الأقصى"

د. رشيد بنكيران – هوية بريس

مرَّ المسجد الأقصى المبارك مسرى رسول الله عليه الصلاة والسلام من عاصفة قوية كادت تنقض أسسه -لولا لطف الله عز وجل- ولا يزال أثر تلك العاصفة لم يصفُ بعدُ والاحتلال اليهودي الصهيوني الممنهج جاثم على أنفاس أبواب المسجد.

وإذا كان خطر تربص اليهود بالمسجد الأقصى المبارك مما لا يقبل الجدال ولا المراجعة، فإن أكبر خطر يهدد هذا المسجد هو خفوت صوته لدى المسلمين وضعف حضوره في همومهم، والذي سيعقبه -وفق السنن الكونية- نسيانه من ذاكرتهم، وإذا كانت الحقوق لا تسقط بالتقادم فإنها تضيع بالنسيان وتتلاشى وتضمحل، ومن استقرى تاريخ الشعوب والأمم والحضارات لاحت له في الأفق هذه الحقيقة أو السنة الكونية.

ومن تأمل مواقف المسلمين اتجاه ما جرى للمسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام الأخيرة، فإنه لا يسعه إلا أن يرفع عقيرته محذرا مغبة التغافل عن قضية الإسلام والمسلمين… قضية المسجد الأقصى وفلسطين. فقد أبانت قراءة تلك المواقف على أن المسلمين كانوا ثلاثة أصناف؛

الصنف الأول: فرغم قلة عدده الذي لا يكاد يعدّ، إلا أن مقالته كانت تحدث صدمة للمهتمين بقضية المسجد الأقصى المبارك، لا لقوة المقالة وأدلتها ولكن لنشازها ومعارضتها الصريحة لثوابت الدين الإسلامي وأصوله القطعية وقضايا الأمة المجمع عليها.

فقد صدر من هذا الصنف ما يؤيد الفكرة القذرة لليهود المحتلين حول حقهم المزعوم في المسجد الأقصى، وأنهم أصحاب الحق فيه وأولى به من المسلمين، ومن هذا الصنف المشؤوم من أصبح ينادي بأن المسجد الأقصى ليست قضية أمة بل هي شأن داخلي للفلسطنيين.

ونحن ندرج هذا الصنف بأطيافه ضمن المسلمين لأنهم من أبناء الوطن الإسلامي وينتسبون إليه بأوراق رسمية، والله أعلم بحالهم، فمنهم العلماني الصرف، ومنهم الأمازيغي المُعلمن، ومنهم اللبرالي، ومنهم التائه…، لكنهم بموقفهم ذاك كادوا يتلبسون بناقض من نواقض الإيمان وهو مولاة أهل الكتاب، والذي بينه الله عز وجل في محكم تنزيله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وغيرها من الآيات والنصوص الشرعية المحكمة. فكل من تولى اليهود والنصارى مولاةَ مودة وتأييد ونصرة؛ فأحبهم وروج مقالتهم وتمنى النصر لهم وساعدهم في ذلك في مقابل المسلمين فهو منهم بنص الآية الكريمة.

الصنف الثاني: وهو في مقابل الصنف الأول، فقد نصر قضية المسجد الأقصى المبارك، وجاد بنفسه مثل المقدسيين المرابطين حول المسجد، فأسأل الله أن يتقبل شهداءهم ويشفي جرحاهم ويفك أسراهم، والجهاد بالنفس في ذلك الموطن واجب شرعي يتعين عليهم لقربهم من المسجد الأقصى المبارك، ومن هذا الصنف من نصر القضية بالدعاء الخالص والكلمة البليغة؛ فبين ووضح حقيقة ما يسعى إليه اليهودي المحتل الماكر، ودعا لمقاومته وفعل ما أمكنه فعله ممثلا قول ربه جلا جلاله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.

إلا أن الملاحظ على هذا الصنف أنه بدأ يتناقص عدده ويتآكل زخمه في مقابل ما كان عليه منذ عقدين أو أكثر، وبدا هذا النقص والتراجع واضحا ليس فقط على مستوى عموم الناس، بل كان ظهوره على مستوى الخاصة من الدعاة والعلماء والمثقفين والسياسيين الإسلاميين أكثر. وهنا لابد أن يتساءل المهتمون عن الأسباب التي أفضت إلى بروز هذه الظاهرة التي يدل وجودها أخطر من وجود أبواب التفتيش التي وضعها اليهودي المحتل أو الكاميرات على مرافق المسجد الأقصى المبارك، وهذا ما نحاول أن نجيب عن بعض جوانبه أو وصف مظاهره في بيان الصنف الثالث.

والصنف الثالث: هذه الفئة التي أصبحت تتسع رقعتها ويكثر أصحابها، وهي فئة المعرضين عن قضية المسجد الأقصى وقضايا أخرى للأمة، غير مهتمين بذلك، بل هم منشغلون بهمومهم الخاصة ومصالحهم الجزئية، وليس خطأ أن ينشغل المسلم بهمه الخاص أو مصلحته الجزئية، ولكن الخطأ كل الخطأ أن يختلط عليه ترتيب الأولويات، فما حقه أن يُقدَّم لا يجوز بحال أن يؤخر أو يغفل عنه.

وقضية المسجد الأقصى المبارك هي قضية إسلامية ترتبط بكل مسلم أينما كان، ويجب أن تكون لها حق الصدارة والأسبقية في واقع المسلمين لارتباطها بدينهم ووجودهم الحضاري، وصراعنا على المسجد الأقصى مع اليهود هو صراع ديني بالدرجة الأولى وليس صراعا على الأرض فحسب، والغريب أن يعرف هذه الحقيقة اليهود ويعلنونها في كتبهم ويلقنونها لأبنائهم ويجهلها المسلمون أو يتجاهلونها.

وإذا ما حاولنا أن نستنطق سبب وجود هذا الإعراض لدى هذا الصنف عن قضية المسجد الأقصى أو الغفلة عنه، لاشك أننا سنجد أسبابا كثيرة ومتنوعة، وخصوصا إذا ما رمنا جانب التفصيل فيها، ولكن قد تؤول إلى سبب اثنين من حيث الإجمال؛

السبب الأول: ضعف الخطاب الديني

 يكاد يتفق المهتمون بالشأن المعرفي والثقافي أن قضية المسجد الأقصى المبارك أصبحت غائبة في الخطاب الديني، سواء على مستوى العلماء أو الدعاة أو الكتاب أو المفكرين، ومن المؤشرات التي يمكن أن تؤكد صحة هذه الدعوى موضوعات خطب الجمعة، فتجد الخطيب لا يتعرض لموضوع فلسطين أو المسجد الأقصى إلا إذا كان هناك عدوان عسكري من اليهود على فلسطين أو غزة، يقوم بذلك -إن فعل- بخجل مفضوح، أما أن تتناول قضية فلسطين من جدورها بالبيان والتوضيح وعقد الندوات والبحوث العلمية والدراسات الأكاديمية، وأن يأخذ موضوع المسجد الأقصى المبارك اهتمام كراسي العلماء فلا تكاد تسمع عن هذه الأمور شيئا إلا لمما.

وبسبب هذا الضعف في الخطاب الديني غابت حقائق دينية وتاريخية عن كثير من الشباب، كما غاب اهتمامهم بالقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى وأصبح الحديث عنها باهتا لا يحقق التدافع المطلوب مع واقع الاحتلال، ومن أراد أن يوجد في الأمة صلاح الدين الأيوبي الرمز، فلابد أن يوجد الفكرة التي احتضنته والعقيدة التي صقلته والخطاب الذي صنعه.

ومن مظاهر ضعف الخطاب الديني لدى الدعاة والعلماء فزعهم نحو الأجوبة العامة والاقتصار عليها لنصرة قضية المسجد الأقصى وإرشاد عموم المسلمين إليها باعتبارها الحل المباشر والأوحد للقضية المسجد مثل قولهم: عليكم بالرجوع إلى الكتاب السنة ونبذ الخرافة وطلب العلم الشرعي..

ومع أن هذا الكلام حق ويصلح جوابا عاما لجميع معضلات الأمة فلا خصوصية للأقصى على غيره في ذلك، إلا أن الاقتصار عليه يفضي إلى عدم الاهتمام بقضية المسجد الأقصى، فيتصور الشباب أنهم بحفظ متون فقهية أو عقدية سينصرون الأقصى، بل أصبح يعتقد جزء كبير من الشباب المتدين أن من يكابد في نصرة الأقصى ويبحث عن الحلول المباشرة علما وعملا وفق الضوابط الشرعية هو متهور حماسي، ويوصف بأوصاف تكرس غياب قضية المسجد الأقصى المبارك في ذاكرة الأمة.

وإذا ما تحدثنا عن العلماء والدعاة فلا ينبغي أن يغيب عنا موقف الأحزاب السياسية الإسلامية من قضية المسجد الأقصى المبارك، ونقارنه بما كانت عليه من قبل، وكيف كان خطابها الديني واضحا وقويا بخصوص المسجد الأقصى المبارك ومعبئا لقلوب الشباب والأمة عموما، وكيف أصبح الآن ضبابيا وضعيفا، لا يقدر على تأطير الشباب فضلا على أن يقنع الرجال. ومن المؤشرات التي تؤكد صحة هذه الدعوى ضعف المظاهرات المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، أو المستنكرة للظلم الواقع على فلسطين أو القدس.

السبب الثاني: استقواء أطروحة ثقافة التسامح (العفو عند العجز)

حينما يُطلب من المظلوم الضعيف الذي انتهك حقه، واغتصب عرضه، وديست كرامته ولا يزال، أن يتلبس بثقافة التسامح وينشدها، فلا يكون المقصد من ذلك الطلب إلا خضوعا لواقع الهزيمة والاستسلام للعدو ونكران الهوية وترك المطالبة بالحق المغتصب؛ لأن المقام كان يقتضي حشد الهمم لرد العدوان لا العزف على أسطوانة التسامح التي تفضي إلى صناعة النعاج بدل الرجال، هذا ما يقع لجيل الشباب الذي نشأ في هزائم متتالية وغطرسة للعدو ولم يذق طعم النصر.

وقد انخرط في هذا الجرم الممنهج -فضلا عن العدو الماكر- بعض المؤسسات الدينية باختلاف وظائفها ومؤسسات التربية والتعليم باختلاف مستوياتها، فأكثرت من خطاب الخنوع وتبرير الواقع وتعميم قضايا الأعيان في الهدي النبوي التي تدل على التسامح والعفو عند المقدرة فجعلتها في المقام العفو عند العجز، ولا يخفى الفروق الجوهرية المؤثرة بين المقامين.

كان من الممكن أن يُلتمس لهؤلاء المنخرطين في الجرم آنف الذكر العذرُ -وليس التصويب- لو كان العدو الصهيوني يدعو من جانبه إلى ثقافة التسامح بالطريقة التي يطلب منا، ولكن الواقع يدل على عكس ذلك، ويظهر في العدو اليهودي أكثر منه في العدو الصليبي (لينظر مقررات التعليم للهيود وتصريحات ساستهم ومثقفيهم)، وإن كان هما معاً يشتركان في تمكين الفكر الصهيوني وتعزيز أطروحته في مقابل تحطيم الفكر الإسلامي والترهيب من أطروحته.

ولهذا لا يستساغ صنيع من انخرط من بني جلدتنا في الترويج لثقافة التسامح أحادية الجانب، وأجدني مضطرا أن أصف أصحاب هذه الدعوة إما بالجهل المركب غير المقبول أو خيانة قضايا الأمة، أقول هذا محذرا أمتي وناصحا لها.

ويشبه جرم هؤلاء جرم من دعا منذ عقود مضت إلى التقريب بين السنة والشيعة وروج هذه المقالة أحادية الجانب في ديار السنة ولم يلتفت إلى تحذيرات العلماء من مغبة ذلك، حتى تشيع من تشيع من أهل السنة وخربت ديارها، وتمكنت الشيعة من رقاب بعض المسلمين السنيين وتحكموا في مقدراتهم والاستعلاء عليهم.

وختاما أقول، إن المقاربة التحليلية السليمة لمواقف المسلمين اليوم اتجاه ما يجري في القدس أو المسجد الأقصى المبارك قد تفضي إلى أجوبة مختلفة متنوعة، وهي في حقيقتها من باب اختلاف التنوع والتكامل وليس من باب اختلاف التضاد والتقاطع، وإن كان هذا المقال سلط الضوء على جانب من جوانب هذه المواقف وجعل ظاهرة العزوف -وإن كانت في بدايتها- عن قضية المسجد الأقصى وقضايا الأمة عموما تكمن في ضعف الخطاب الديني واستقواء أطروحة ثقافة التسامح، فإن علاج هذه الظاهرة الخطيرة لا يمكن أن يكون إلا بتظافر جهود صانعي الخطاب الديني على اختلاف وظائفهم ووسائلهم ومراتبهم وأن يتبوأ المسجد الأقصى والقضية الفلسطينية حق الصدارة والأسبقية من اهتمام الفاعل الإسلامي، وتفنيد أطروحة ثقافة التسامح أحادية الجانب وبيان الغبن وفضح المكر اللذان يلحقان الأمة جراء هذه الدعوات المشبوهة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M