كيسنجر…رحيل داهية في الدبلوماسية الدولية

21 ديسمبر 2023 11:40

هوية بريس – سعيد الغماز

عن سن ناهزت المئة سنة، رحل الديبلوماسي ووزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق، هنري كيسنجر. لم يكن الرجل عاديا، فقد ترك بصمة كبيرة في العمل الديبلوماسي جعلت البعض يتحدث عن مدرسة كيسنجر في الديبلوماسية الدولية. اختلفت الآراء حوله بعد رحيله بين معجب ومؤيد ومنتقد ومن يصفه بالداهية والساحر والثعلب الذي أساء كثيرا للقضايا العربية، على رأسها القضية الفلسطينية. اختلاف الآراء حول هذه الشخصية، يمكن اعتباره طبيعيا لكون الرجل كان طرفا في القضايا الكبرى التي شهدها المسرح الدولي في القرن الماضي، كصراع تايوان مع الصين حيث كان وراء اعتراف أمريكا بالصين الشعبية واحتلالها مقعد تايوان في الأمم المتحدة، والحرب الأمريكية الفيتنامية، والصراع العربي الإسرائيلي واتفاقات كامب ديفيد، وكذلك اتفاق أوسلو في القرن الحالي ولو بشكل غير مباشر وصراع أمريكا مع الصين.

تكوين كيسنجر المتنوع جعله يبني عمله الديبلوماسي على أسس سياسية وتاريخية وفلسفية. فأستاذ العلوم السياسية أحرز الماجستير من جامعة هارفرد في موضوع معنى التاريخ. فقام بمقارنة فلسفة التاريخ بين المؤرخ الألماني سبينغر الذي كتب عن صعود وسقوط الدولة الرومانية، والمؤرخ الإنجليزي توينبي صاحب كتاب “دراسة التاريخ”. والهدف من هذه المقارنة هو معرفة كيف فهم معنى التاريخ رجلان من أكبر الباحثين في التاريخ. وأحرز كذلك دكتوراه في الفلسفة. هذه الدراسات، جعلته ينظر للعلوم السياسية من منظور التاريخ والفلسفة، ويوظف مفاهيم تاريخية وفلسفية في عمله الديبلوماسي عندما كان وزيرا للخارجية. فهو من أخرج الولايات المتحدة الأمريكية من ورطتها في حرب الفيتنام. كان كيسنجر يؤمن بأن الديبلوماسي يجب أن ينظر للصراعات الدولية كما هي وبنظرة واقعية، وليس بنظرة من يريد دعم الطرف أ لينتصر، ويُضعِف الطرف باء لينهزم. هذا التصور جعله لا ينظر لموقف بلاده في صراع الفيتنام على أساس مساندة قوات الفيتنام الجنوبية الموالية للغرب، ضد قوات الفيتنام الشمالية الشيوعية والموالية للمعسكر الشرقي في عز الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي. وإنما ارتأى الديبوماسي المحنك أن يعالج هذا الصراع بين الفيتناميين، على أساس كونه حربا تستنزف الولايات المتحدة الأمريكية ولا سبيل لفرض الهيمنة الأمريكية في هذا البلد. على هذا الأساس، دفع كيسنجر في اتجاه انسحاب بلاده من الفيتنام والتخلي الانتهازي عن حليفه الجنوبي وتركه يواجه مصيرا مجهولا. كما أنه لم يكترث لمن يروج لهزيمة مدوية لأمريكا، ولا لمن يتحدث عن تمريغ الفيتناميين أنف القوة العظمى في غابات الفيتنام وكمائن هوشي مين. وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية كان يفضل أن يُقال إن أمريكا انهزمت في حرب الفيتنام، على أن تظل بلاده تعاني من حرب استنزاف لسنوات إضافية. هكذا جسد كيسنجر مبدأي المصلحة والواقعية التي كان يمارس على أساسهما الديبلوماسية الخارجية.

هذا المنطق الذي أبدعه كيسنجر في العمل الديبلوماسي، يجد أصله في فلسفة كانط الذي أبدع نظرية “الشيء في ذاته” وهو يقوم بنقد العقل الخالص. فكانط يعتبر أن كل عقل بشري يُكَوِّن تصورا خاصا به عن الشيء الذي ينظر إليه، وهو ما يجعله يشكل حقيقة يقتنع بها. لكن هناك حقيقة أخرى تتجسد في داخل الشيء المنظور، وهو ما يُعبر عنه كانط بالشيء في ذاته، أي الشيء كما هو في الطبيعة. والحقيقة التي يشكلها العقل البشري عن الأشياء الخارجية، قد تبتعد كثيرا عن الحقيقة كما هي في الطبيعة. لذلك تصرف كيسنجر مع تورط بلاده في حرب الفيتنام ليس على أساس نظرة أمريكا كحليف للجنوب المتجه غربا، وعدو للشمال المتحالف مع المعسكر الشرقي، وإنما تصرف من منطلق طبيعة الصراع كما هو في الطبيعة وفي أرض الميدان.

هذا الدهاء الديبلوماسي الذي يمتزج فيه ما هو سياسي بما هو تاريخي وفلسفي عند كيسنجر، نجده كذلك في طريقة إدارته للمفاوضات بين مصر وإسرائيل والتي نتج عنها اتفاق كامب ديفيد. حسب التسريبات التي بدأت تظهر بعد مرور عقود عن هذه المفاوضات، فإن الرئيس المصري الراحل أنوار السادات اتصل مع هينري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، لكي يتوسط في مفاوضات السلام بين بلاده وإسرائيل. وكان من بين ما قاله كيسنجر للرئيس السادات، أن الصراع المصري الإسرائيلي يعيش فترة فتور وانتظارية، وأنه لكي يتمكن من فتح المفاوضات يحتاج من المصريين القيام بحدث يكسر حالة الجمود ويحرك المياه الراكدة. فكانت حرب أكتوبر التي حركت الصراع من جديد وأفضت إلى محادثات السلام. لكن كيسنجر قام بعمل بعيد عن الأخلاق الديبلوماسية بتسريبه لإسرائيل مضمون محادثاته مع المصريين، وهو ما جعل الكيان الصهيوني يعرف سقف مطالب المصريين ومطلع على مواقف وآراء الطرف الآخر. الأمر الذي جعله متفوقا في المفاوضات بفضل المعطيات التي سربها له الوسيط بين البلدين. كان كيسنجر كوسيط في المفاوضات، يستعمل دهائه الديبلوماسي ليبدو للطرف المصري كوسيط موثوق، وفي الحقيقة هو يخدم المصالح الصهيونية. فقد نجح الديبلوماسي الداهية في فرض منهجيته المدروسة لإدارة المفاوضات والقائمة على أساسين: التجزيء والموضوعاتية. التجزيء هو جعل المفاوضات تكون ثنائية بفصلها عن أي تحالف عربي. فمصر تتفاوض مع إسرائيل فيما يخصها كدولة، بعيدا عن باقي المسارات الأخرى فلسطين-إسرائيل، الأردن-إسرائيل، سوريا-إسرائيل، لبنان-إسرائيل. هي منهجية ظاهرها تيسير المفاوضات وباطنها الاستفراد بكل دولة على حدا ليكون الموقف الإسرائيلي هو الأقوى. كان كيسنجر رافضا لتحاور الدول العربية مجتمعة مع إسرائيل، وكان هدفه هو خلق تنافس بين الدول العربية، لتدافع كل دولة عن مصالحها دون الاكتراث لباقي الدول العربية. أما مفهوم الموضوعاتية فقد استعمله كيسنجر بدهاء كبير حيث جزء الحقوق المصرية إلى موضوعات منفصلة يتم مناقشتها حسب صعوبتها، فكان يطلب من مصر القيام بخطوة مقابل قيام إسرائيل بخطوة مماثلة، وهو ما نتج عنه ضياع الحقوق العربية. هذا المفهوم يبرز جليا في مفاوضات أوسلو حيث تم إقناع الطرف الفلسطيني بمناقشة الخلافات البسيطة وترك الملفات الشائكة إلى نهاية المفاوضات. فكانت النتيجة فُتات للفلسطينيين حيث تم تقسيم الحقوق الفلسطينية إلى مناطق “أ” “ب” و”ج”، وتم إبعادهم عن الأقصى وعن العاصمة القدس بدعوى ترك الحسم فيها إلى نهاية المفاوضات فكانت النتيجة التي يعرفها الجميع.

مهما كانت الاختلافات حول شخصية هينري كيسنجر، فستبقى حنكته الديبلوماسية جديرة بالدراسة والاهتمام.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M