من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (14)

24 مايو 2019 16:54
من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (19)

هوية بريس – سفيان أبو زيد

التساؤل 17: لماذا قال الله {إياك نعبد وإياك نستعين} ولم يقل (إياك أعبد وإياك أستعين)؟

الجواب:

قال العلماء : لأن الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، وخلط حاجته بحاجتهم، لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.

ففي النون في إياك نعبد وإياك نستعين معنى الشفاعة، ومعنى الجماعة، وكأن قارئها ينادي: يا رب أنا فقير ومحتاج إليك، وقد يكون فقر غيري إليك أصدق وأمعن من حيث اعتقاده وتمثله، فاللهم أدخل إقراري هذا في دائرة ذلك الإقرار، وأدخل اعترافي وحاجتي في دائرة ذلك الاعتراف والإقرار الصادق.

وفيه كذلك الاعتراف بقصور العبد وحده عن الوقوف أمام الله، فكأنه يقول: لا يليق بي الوقوف وحدي وبمفردي في مناجاتك، وأخجل من تقصيري وذنوبي، بل أنضم إلى سائر المؤمنين، وأتوارى بينهم، فتقبل دعائي معهم، فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك.[1]

وهذا مصداق لحديث أبي هريرة في صحيح البخاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم ” قال: «فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا» قال: ” فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك ” قال: ” فيقول: هل رأوني؟ ” قال: ” فيقولون: لا والله ما رأوك؟ ” قال: ” فيقول: وكيف لو رأوني؟ ” قال: ” يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا ” قال: ” يقول: فما يسألوني؟ ” قال: «يسألونك الجنة» قال: ” يقول: وهل رأوها؟ ” قال: ” يقولون: لا والله يا رب ما رأوها ” قال: ” يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ ” قال: ” يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ ” قال: ” يقولون: من النار ” قال: ” يقول: وهل رأوها؟ ” قال: ” يقولون: لا والله يا رب ما رأوها ” قال: ” يقول: فكيف لو رأوها؟ ” قال: ” يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة ” قال: ” فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم ” قال: ” يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم “[2]

قد لا تكون لي أهلية الاستجابة مع اختلال في الحصر الذي في الآية، لما أقول إياك نعبد وإياك نستعين، فكأنني أدخل نفسي وأقحمها في دائرة العباد والصادقين في الاستعانة، لعل الله تعالى يقبلني ويقبل مني.

وفيه إقرار من المصلي، وشهادة منه بان هذا هو شأن المؤمنين مع ربهم. وفي ذلك إدراج لعبادته واستعانته، ضمن عبادتهم واستعانتهم؛ رجاء القبول ببركة ذلك، وليوضح أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة. [3]

هذا معنى ، وهناك معنى آخر.

المعنى الآخر:

قلت: أن نون إياك نعبد وإياك نستعين تبعث الثقة في صفوف الأمة والمجتمع، ومن مقاصد الإسلام بكل مكوناته بعث الثقة في المجتمع، فإذا فقدت الثقة فلن تصلح عبادة ولا عمل ولا قربة ولا صلة . فجاءت إياك نعبد وإياك نستعين لتدعم هذه الثقة وتنبه عليها.

قد يقول قائل: ولكن من أين أتيت بهذا المعنى؟

قلت: نحن نعلم بأن التوجه إلى الله بالعبادة هو أمر باطني خفي، فأنا لست مطلعا على قلوب الناس حتى أقر بالنيابة عنهم بأنهم توجهوا بصدق بعباداتهم إلى الله عزوجل، وكذلك افتقارهم إلى الاستعانة وتوحيدهم الله فيها, ولكنني أقر به وأثبته لأنني أحسن الظن بالناس جميعا، لأنني أحسن الظن بكل من توجه إلى الله واستقبل قبلته.

فإحسان الظن بهذا المعنى، أظهره في هذا الاعتراف وفي هذا الإقرار بأنني أقر عن غيري في صدق عبادتك والاستعانة بك.

فالنون هنا أمرها عظيم إذ تبعث الثقة في المجتمع المسلم التي ينبغي أن يحافظ عليها، وأن تقوى أواصرها.

ولأن انعدام الثقة يعود على كل الأمة بالدمار والشنار والفساد، ومن هنا جاء تقديم نهي أهل النفاق في أوائل سورة البقرة عن الإفساد على أمرهم بالإيمان، لأن الإفساد يجتث قواعد الإيمان من أصولها.

ومن هنا قدم النهي والنكير على اشتغال أهل القلوب المريضة بالفساد والإفساد، على تركهم للإيمان في أوائل سورة البقرة، إذ قال الله تعالى{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}[4]

لأن الإيمان لا يستتب إلا بالصلاح والإصلاح.

وهنا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لقد جمع الله بين التوكل والعبادة في مواطن كثيرة كقوله تعالى{فاعبده وتوكل عليه} وقوله عزوجل {عليه توكلت وإليه أنيب} لأن هذين يجمعان الدين كله، ولهذا قال بعض السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في الفاتحة، وجمع علم الفاتحة في{إياك نعبد وإياك نستعين}

 

معنى آخر..

النون تفيد انتفاعك من تعبد وإحسان غيرك:

يقول الإمام الشعراوي رحمه الله: وإذا رأيت إنساناً محسناً في دينه، فلا بد لك أن تحترمه؛ لأن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكان الحق سبحانه قادراً أن ينزلها «إياك أعبد وإياك أستعين» ولكنه شاء أن تنزل على صورتها تلك؛ حتى يأذن سبحانه بقبول الصفقة من كل قائليها، فيتقبل من عباده أعمالهم بما يغفر لبعضهم الأشياء المعيبة.

ولذلك أقول: إن رأيت إنساناً مستغرقاً في العبادة فلا تسخر منه ولا تهزأ به؛ لأن حرصه على الطاعة وانشغاله بالعبادة قد تنفعك أنت.

وساعة تتلقى آمراً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتجده شاقّاً، فعليك أن تتذكر أنه المرجع الذي قد يشفع لك في الأمور التي لم تقدر عليها.[5]

 

[1] – أنظر هذا المعنى في : التفسير المنير (1/56)

[2] – صحيح البخاري (5/2353/ 6045)

[3] – أنظر [ التفسير الوسيط (1/21) / تفسير الشعراوي (4/2041)

[4] – سورة البقرة : 11-12-13

[5] – تفسير الشعراوي (9/5711)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M