من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (16)

29 مايو 2019 14:24
من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (19)

هوية بريس – سفيان أبو زيد

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

التساؤل 18: النون في {اهدنا} ترجع للمسلمين المؤمنين، فلماذا نطلب الهداية ونحن مؤمنون موحدون؟ فالهداية لا يطلبها إلا الضال المنحرف الخارج عن الطريق، فهؤلاء الذين يطلبون إلى الهداية قد هدوا إلى الطريق،وقد وحدوا الله تعالى فما فائدة طلب الهداية بعدما وقعت لهم؟

قبل الإجابة على التساؤل ..

وقفة مع قضية الهداية:

ومن خلالها سيتبين لنا جواب التساؤل:

قضية الهداية هي القضية الأساس في القرآن فإذا وصفنا القرآن بأنه كتاب هداية فقد أتينا بالمعنى الأساسي والمقصد الأول الذي أنزل من أجله القرآن، لذلك أول قضية بدأ القرآن بمعالجتها هنا في سورة الفاتحة وفي صدر سورة البقرة هي قضية الهداية، وكيفية تعامل الناس مع هذه الهداية ، فالله عزوجل يريد أن يقول لنا إذا أردتم أن تستفيدوا من هذا الكتاب ومن تفاصيله وأحكامه وعبره وعظاته وقصصه وأمثاله وغير ذلك فينبغي أن تقفوا أولا عند قضية الهداية ومنظورها ، لذلك جاء التفصيل بعد طلب الهداية بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين، وكذا جاء التفصيل في أوائل سورة البقرة (المتقين، الذين كفروا، المنافقين)

ففي ذكر هذه الأصناف من الناس و طريقة تعاملهم مع الهداية ، دعوة إلى اختيار الطريق الأمثل للانتفاع من هذا الكتاب .

فهذه الآية هي لب سورة الفاتحة وجوهرها.

ونلاحظ أن الآيات الأولى من سورة الفاتحة كلها رسائل تعظيم وتقديس لله عزوجل، واعتراف بالعبودية فجاء النداء والدعاء بعد ذلك مدويا راغبا راغما ذليلا مفتقرا{اهدنا الصراط المستقيم}

ذلك الدعاء الذي يجب على المسلم أن يدعو به ، بل فرض علينا في كل صلاة وفي كل ركعة أن ندعو به .

وهنا نجيب على السؤال الذي صدرنا به وهو:

لماذا ندعو بهذا الدعاء ونحن مؤمنون؟

الهداية لها أربع مقامات:[1]

الارتقاء في المقامات لا نهاية له وتنحصر فيما يلي :

الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة ، كما قال تعالى {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وقوله تعالى {والذي قدر فهدى}

هذا ما يمكن أن نسميه فطرة أي أن الله تعالى جبل هذا الانسان على حب الخير، وعلى كراهية الشر، وهي أول مقامات الهداية وأول مظاهر العناية الربانية.

ولهذا جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري[2]، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) وفي رواية الترمذي بسند صحيح : أو يشركانه)[3]

الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى حيث قال : {وهديناه النجدين} أي طريق الخير والشر وقال : {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}

أي نصب الأدلة العقلية الفاصلة بين الصلاح والفساد، وهذا ما يمكن أن نسميه هداية العقل، لأن الانسان قد يدرك بعض مصالحه بعقله، ولكن يبقى ذلك الإدراك قاصرا بقصور عقله وفهمه للحقائق، فهو دائما بحاجة إلى تدعيم، فهذا العقل الذي أكرم الله به هذا الانسان، وميزه به على سائر الحيوان يعتبر مكمن هداية له يستوضح من خلاله بعض مصالحه وبعض المفاسد، ولذلك جعله الله تعالى مناطا للتكليف، إذ لا خطاب لمن فقد عقله.

الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى : {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}[4] وقوله : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}[5]

وهذا مقام إرسال الرسل {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}

لماذا تم إرسال الرسل؟

قالوا: لأن العقل قاصر عن إدراك كل المصالح واجتناب كل المفاسد، ومن رحمة الله تعالى بنا أنه يريد لنا أن نستفيد وأن ننتفع بجميع المصالح، فلما كان العقل قاصرا على أن ندرك مصالح الدنيا والأخرى، جاء الشرع والوحي ليوسع دائرة تلك المصالح الدنيوية وأن يفتح له بابا واسعا من المصالح الأخروية التي لا مجال للعقل في إدراكها.

هل يستطيع العقل أن يدرك جنات عرضها السموات والأرض؟

لا يستطيع

هل يستطيع بالعقل أن نستوعب أن موضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها كما في حديث سهل بن سعد الساعدي في صحيح البخاري.[6]

يعني أن مسافة ثلاثين أو خمسين سنتمتر في الجنة اختزل فيها كل المنافع والملذات الموجودة في الدنيا.

يستحيل أن يستوعب الانسان ذلك بعقله القاصر، فجاء الوحي ليبينه وليوضحه وليحمله على الإيمان به واعتقاده فوق دائرة العقل، فالمسلم يؤمن بهذه المعاني الغيبية ويبذل نفسه من أجلها، وهي عنده أعلى من درجة العيان رغم أنها فوق دائرة عقله.

الرابع : وهو مقام الهداية الربانية {واتقوا الله ويعلمكم الله} أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله : {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[7] والملاحظ في هذه الآية أن الله تعالى لم يقل (فبهم اقتده) وإنما قال {فبهداهم اقتده} فالعبرة بالهدى ، وقوله : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}[8].

هذا المقام مقام عال ، إذا سار المؤمن في طريق الله عزوجل وعلى صراطه ودرب نفسه وروضها على طاعته، وعلى الفهم عنه وعلى التضحية في سبيله، فإن الله تعالى يكرمه، لذلك قد تجد لبعض العلماء في بعض الفنون ميزات وخصوصيات دون غيرهم، قد فتح الله عليهم في مسائل لم يفتح على غيرهم فيها، وأدركوا أمورا ما أدركها غيرهم، فهذا الفتح هو المقصود في هذا المقام.

[1] – أنظر [البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/63) / تفسير إبي السعود (1/17) / تفسير البيضاوي (1/70) / السراج المنير (1/17) / حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي (1/126) / غذاء الألباب شرح منظومة الآداب لمحمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (ص:22) دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان – 1423 هـ – 2002 م الطبعة : الثانية تحقيق : محمد عبد العزيز الخالدي

[2] – صحيح البخاري (2/100/1385)

[3] – سنن الترمذي (4/ 447 / 2138)

[4] – سورة الأنبياء ، 73

[5] – سورة الإسراء ، 9

[6] – صحيح البخاري (4/35/2892)

[7] – سورة الأنعام ، 90

[8] – سورة العنكبوت ، 69

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M