هل أتاك حديث مقاطعة السادة الأساتذة لزيارات المفتشين الصفية؟!

18 ديسمبر 2021 17:04

هوية بريس – أحمد العبودي / مفتش تربوي

كانت ” التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ” قد نشرت يوم 28 مارس 2021 بلاغا ” من أجل الوقوف سدا منيعا ضد تلاعبات الوزارة الوصية ” دعت فيه الأساتذة والأستاذات إلى ” مقاطعة الزيارات الصفية للمفتشين والأساتذة المصاحبين ” ، وإذا كنا نقدر الاختيارات النضالية لكل الإطارات والفئات التربوية والإدارية باعتبار الإضراب حقا تكفله المواثيق والقوانين ، فإننا في هذا السياق الضيق سنحاول، تحديدا، مناقشة قرار مقاطعة الزيارات الصفية في أبعاده البيداغوجية والتكوينية بغض النظر عن مسألة ” الترسيم ” وقضية ” التأهيل المهني ” وما يرتبط بذلك من جوانب تشريعية وإدارية على درجة من الأهمية بالنسبة للموظف / المدرس ولمساره المهني.
تجربتي المتواضعة رسخت عندي قناعة مفادها أن التكوين هو الرأس ـ مال الاعتباري للمدرس؛ إذ لا ينبغي أن يغبن فيه ولا أن يفرط في المطالبة به، وعليه أن ينمّيه كلما وجد سبيلا لذلك ، وإني لأرى أن الزيارات الصفية التي يقوم بها المفتشون التربويون في إطار المهام الموكلة إليهم لتدخل في صميم تكوين المدرسين الأساس وحتى المستمر.
ولما كان الوضع الذي تشهده الساحة التربوية يتسم بنوع من التوتر المفضي للتعبير عن الاستنكار والرفض من لدن كثير من الفئات المهنية ، فإن خريجي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، أطر الأكاديميات معنيون بالدرجة الأولى بذلك ،ولهذا الاعتبار خاضوا وما زالوا إضرابات مطالبين عموما بالإنصاف مستنكرين للإجحاف… غير أن مقاطعة القسم الدراسي والإحجام عن تقديم الدروس للمتعلمين بالإضافة إلى مقاطعة الزيارات الصفية ” شكل نضالي ” يحتاج إلى مراجعة وتفكير على النحو الذي يحقق المصلحة المشتركة بين المتعلمين ومدرسيهم المضربين. وفي ما يلي تحليل لمجموع المسوغات البيداغوجية التي تجعل من قرار مقاطعة الزيارات الصفية قرارا يحتاج للمراجعة :
1. جل المدرسين أطر الأكاديمية خريجي المواسم المنصرمة لم يستكملوا تكويناتهم حضوريا في المراكز الجهوية خاصة في الشق المتعلق بالتجريب والتطبيق داخل الفصل الدراسي (مرحلة إجراء الملاحظة بأنواعها ومرحلة الاستئناس بالقسم ومرحلة تحمل المسؤولية …)
2. الزيارات الصفية المنجزة لفائدة هؤلاء تؤكد الحاجة الماسة والمتزايدة للتأطير على المستوى العملي. وإذا كان هذا حقا لهم فهو بالأحرى حق المتعلمين أبناء المغاربة في تعليم جيد على يد مدرس كفء استوفى المجزوءات التكوينية على المستوى النظري وامتلك جانبا من ” الصنعة البيداغوجية ” ولو في حدود المعلوم منها بالضرورة.
3. إن سلمنا بكفاية تكوين هؤلاء على المستوى النظري الأساس باعتبارهم تمكنوا من النجاح في مباراة توظيف أطر الأكاديميات (الشق الكتابي والمقابلة) ، فإن تدبير الفصل الدراسي وقيادته يحتاج إلى توجيه وترشيد من لدن من له خبرة عملية مشفوعة بتكوين نظري في علوم التربية (المفتش / المؤطر)، لأن ضبط تفاعلات الفصل الدراسي والتحكم في آلياتها لهو ” مفتاح الوصول ” وأهم معيار من معايير تحقق الكفاية المهنية .
4. بغض النظر عما يمكن أن تسفر عنه زيارة المفتش من ملاحظات وعما قد يتضمنه التقرير المنجز من توجيهات لفائدة الأستاذ، فإن هذا الأخير عادة ما يستعد جيدا لتلك اللحظة ويوفر لها بكل ما أوتي من جهد ونباهة “عوامل النجاح” الرمزي قبل كل شيء، لذلك يعمل على تحقيق كل ما من شأنه أن يجعله في مستوى التصدي المهني المتبصر لهذا “الحدث البيداغوجي” ، ولا يخفى أن ذلك شكل من أشكال التعلم والتكوين الذاتي برفقة موجه خبير… وأما عدم إجراء الزيارة / التفتيش على المدرس المبتدئ فقد يكون سببا في أن يدب فيه الفتور واليأس وربما يشتغل وينفذ على ، غير هدى ولا بصيرة ، بأسلوب قد لا يجدي رغم الجهد المبذول .
5. جرت العادة أن المدرسين يستعدون ، في الظروف العادية ، استعدادا ملحوظا لزيارة المفتش ،أما حين يتعلق الأمر باجتياز امتحان الكفاءة أو التأهيل فهم يقبلون على ذلك بحماسة ملحوظة رغبة في تحقيق رهان النجاح والاستحقاق ومضاهاة الأقران والزملاء.
6. جل السادة الأساتذة يتفاعلون مع أول زيارة للمفتش التربوي ويرون فيها فرصة لوضع تجربتهم الناشئة تحت مجهر التقويم وينتظرون بشغف توجيهات المفتش /المؤطر. ولعل إنجاز الزيارة الأولى للمفتش التربوي لفائدة الأستاذ تشكل على المستوى الوجداني وعلى مستوى مساره المهني نقطة تحول كبرى فارقة بين ما قبل وما بعد .
7. معلوم أن الزيارات الصفية التي يقوم بها المفتش للفصول الدراسية من المهام النمطية التي يضطلع بها وقد يكلفه الإعداد لها الشيء الكثير ، وأكاد أجزم أنها أهم المهمات التي يقوم بها هذا الموظف ، ولذلك فهي تكتسي أيضا بالنسبة للمدرس أهمية قصوى إذ تعتبر فرصة ذهبية لمناقشة الدرس الذي تمت معاينته وفتح حوار مع المؤطر حول قضايا المهنة وإشكالاتها العملية ، وربما تكون الزيارة الوحيدة غير كافية لذا يحتاج لزيارات أخرى لاستكمال تكوينه العملي كما يحتاج إلى حضور الندوات والدروس التطبيقية وما يتبعها من نقاشات حيث تتيح، للمبتدئين خاصة ، معاينة أداء زملائهم والإنصات لآرائهم ومعرفة مواقفهم من طبيعة الممارسة التدريسية التخصصية…
8. إذا كانت الزيارات الصفية الأولى تبلور لدى كل من المفتش والمدرس انطباعا أوليا عن طبيعة العلاقة المرتقبة بين هذين الموظفين فإنها (الزيارات) ليست مطلقا ” مدخلا لفرض ما يسمى التأهيل المهني ” إذ التأهيل له مسطرته الخاصة ولجنته الموصوفة وزمانه المعلوم ودروسه المحددة سلفا…ولا شك أن المفتش وأعضاء اللجنة والإدارة التربوية في غنى عن كل أسلوب لا يحترم أخلاقيات المهنة ولا يليق بطبيعة المهمة الموكلة لهم .
9. خلال الزيارات الثلاث أو الأربع الأولى من تجربة الأستاذ تتبلور ملامح شخصيته التربوية المهنية ويتشكل أسلوبه في التنفيذ ويسعى جاهدا إلى التخلص من تأثيرات نظريات التعلم والمقاربات البيداغوجية ورواسبها النظرية السلبية …فينحو بتجربته أكثر نحو “البراغماتية البيداغوجية” حيث يعزز الجهد القليل بالمردودية الوافرة ، وهذا الطموح لا يتزايد بتوجيهات المفتش المؤطر وملاحظاته الميدانية ، فإن لم يجد المدرس من يؤطره ويحسن توجيهه فقد يصعب عليه ، لاحقا ، التخلص من اختلالات مهنية إن هي ترسخت عليلة ومعيبة خاصة في ظل ندرة المفتشين .
10. يعتبر المفتش التربوي امتدادا طبيعيا لتجربة مدرس راكم خبرة مقدرة في مهمته التدريسية ، لذلك فإن بعض الأنظمة التربوية لا تنظم مباريات لدخول مراكز تكوين المفتشين وإنما يتم اختيارهم من بين المدرسين وفق معايير محددة ومعلومة من قبيل التجربة والخبرة والكفاءة المهنية…إن المفتش ، في جوهره ، مدرس يمتلك تجربة ناضجة ومتبصرة ويشتغل بحس بيداغوجي والمدرس من الجهة الأخرى مفتش غلب عليه المنزع العملي التطبيقي ، لذلك تشكل اللقاءات التربوية التي يتابعها المدرسون الجدد مع مفتشيهم ، تشكل بوتقة تنصهر فيها خلاصة أهم ما في التنظيرات البيداغوجية بالجانب العملي التنفيذي ذي الأثر والوقع الملموس.
11. المفتش هو الوجه الآخر للمدرس ، فلا أتصور مدرسا ليس في حاجة دائمة لمفتش/مؤطر ينقل له الخبرات ويطلعه على جوهر تجارب زملائه المدرسين كما لا يخطر على بال عاقل استغناء المفتش التربوي عن المدرسين إذ هم من يمدونه بالمادة الخام لعمله وصنعته ، فهم على صلة يومية بما يجري في قلب المؤسسة التربوية وعلى دراية بما يعترض فعليا تنزيل المنهاج الدراسي من عوائق وإكراهات.
12. من الحاجيات التكوينية ـ ذات الطابع الاستعجالي للمدرسين الجدد ـ تمكينهم من الموجهات العملية اللازمة ولو في حدها الأدنى لمواجهة المطالب التدبيرية للفصل الدراسي في الشق المتصل بالممارسة التدريسية ( مثل الأنماط البيداغوجية التخصصية ومنهجيات التدريس وأساليب التقويم …) خاصة وأن منهم من تسند إليه مسؤولية تدريس المستويات الإشهادية وما يحتمه ذلك من الجاهزية المطلوبة قبل المحطة الاستحقاقية الدورية أو النهائية (الامتحان الموحد المحلي والموحد الجهوي).
13. بالملاحظة والاستقراء يطرح بإلحاح الخريجون الجدد أسئلة أكثر من أن تحصى ، وهي أسئلة ذات أبعاد تنظيمية تشريعية وعملية أساسا (المذكرات التخصصية ، الأطر المرجعية للامتحانات ، الكتب المدرسية المتعددة ، فروض المراقبة المستمرة ، قضايا المجالس التعليمية…) وما تزال الأسئلة تتكاثر كل حين بشكل يسعى لاستكمال الحاجيات التكوينية لهذه الفئة ولتغطية النقص الذي أثر على التكوينات بسبب ظروف الجائحة وضيق زمن التكوينات كما لاحظ ذلك المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في تقريره الموضوعاتي 2021 عن مهنة الأستاذ(ة)في المغرب على ضوء المقارنة الدولية…ولأن هذه الفئة تدرك حقا أهمية الزيارات الصفية فإنها لا تتردد في استقبال المفتش التربوي لإنجاز الزيارة الصفية إلا نادرا جدا وإن كانوا يضربون عن تقديم الدروس لمتعلميهم.
14. مع اقتراب موعد الامتحان الموحد الجهوي ، أتصور أن هذه الأسئلة تصبح ذات طابع أكثر إلحاحا وهي أسئلة ولا شك تنبع من حرص شديد لهذه الفئة وغيرهم لتهيئ تلاميذهم لاجتياز الموحد بما يضمن تحقيق النتائج المرجوة ويرفع من المردودية الداخلية للمؤسسة التربوية التي يشتغلون فيها . ولاشك أن تدبير ما تبقى من الموسم الدراسي بنجاح يحتاج لمساندة ميدانية من لدن المفتش التربوي عبر زياراته التي تكون ضرورية في كثير من الحالات .
15. التكوين الأساس واستكمال التكوين في سياق وضعيات مهنية ميدانية نابعة من إفرازات الفصل الدراسي ، يكتسي طابع الأولية المهنية والأولوية المنهجية في استراتيجية اكساب المدرس خريج المركز القدرات التدريسية والارتقاء بأدائه المهني.
16. إن العمليات الجوهرية تجري أطوارها داخل الفصل الدراسي ؛ يضع جوانبها التنظيمية ثالوث مدير المؤسسة و” يهندس ” لها الاستاذ وينفذها ، والمفتش يضفي عليها الشرعية البيداغوجية ويتولى توجيه مساراتها ويرسم لها معالم التحقق الفعلي. ولا شك أن أي تقصير من أطراف الثالوث المذكور ينعكس سلبا على ” جوهر العملية ” ويؤثر على مستوى التحصيل والاكتساب لدى المتعلمين.
17. الدخول في إضرابات متقطعة يعني تضييق سعة الوعاء الزمني الخاص بتنفيذ المنهاج الدراسي وقد يزداد ضيقا مع كل إضراب جديد (أعني بالإضراب مقاطعة تقديم الدروس داخل الفصل الدراسي ) فنكون والحالة هذه أمام خيار يتراوح بين عدم إنجاز جزء من المنهاج أو إنجازه تحت الضغط وكما تيسر أو استدراك الساعات الفائتة أو التمديد في أمد السنة الدراسية لفسح المجال لإتمام فقرات المنهاج الدراسي.
الخلاصة : لمقاطعة إنجاز الدروس جزئيا ومرحليا مع عدم قبول زيارات المفتش التربوي…آثارا سلبية على كل الأطراف ذات الصلة المباشرة بالعملية : ارتباك في التحصيل الدراسي وتأخر في إنجاز البرنامج السنوي وتفويت فرصة الاستفادة من المفتش / المؤطر التربوي توجيها ودعما…

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. إن هذه الأشكال النضالية(مقاطعة الحصص وزيارات المؤطرين) أشكال سلبية تضر بالمسار التربوي والتنموي للبلاد نتيجة ضعف التكوين وبطئه، لذلك بنلغي ابداع أشكال بديلة ذات أثر إيجالي، وهنا استحضر معلومة لست متأكدا من صحتها، وهي أن العمال في اليابان ينهجون أسلوبا إضرابيا طريفا وهو إضافة دقائق من العمل لكي يورطوا رب المعمل في الكمية الزائدة من البضاعة المنتجة…

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M