هل تُصلَح المدونة إذا الملح فسد؟

17 أبريل 2024 21:31

هوية بريس عبد العزيز  غياتي

قال الإمامٌ مالك بن أنس كما نقل عنه القاضي عياض في “الشفا” رحمهما الله: “لن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلَح به أولها”، ومن نافلة القول التذكير إنّ كلّ الرسالات السماوية جاءت لإعمار الأرض والبلاد وإصلاح حال العباد ونشر الأخلاق بينهم، لتحقيق حدّ أدنى من العيش الكريم مؤطر بتوزيع عادل للثروة مقابل توزيع منصف لتكاليف بناء المجتمع، وبذلك تحدّث خاتم النبيئين صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

وقد وردت مشتقات فعل “صلح” في أربع وثلاثين آية من كتاب الله الذي هو أسمى دستور حياة عرفته البشرية، والتشريعات المدنية كذلك تروم ولو بشكل جزئي التحسيس بأهمية الأخلاق في الحياة العامة وتحرص على احترامها عبر التنصيص عليها في الدساتير وخلق مؤسسات دستورية مهمتها الذود عن حماها، أما كلمة “فسد” فقد ذكرت في تسع وثلاثين آية، وكلمة “فساد” في أحد عشرة أية من القرآن الكريم، وفساد عقيدة وقناعة الفرد يوازيه فساد القوانين التي هي عقيدة الدولة مثل مسخ مدونة الأسرة أو سحب قانون الإثراء غير المشروع أو تقنين الدعارة تحت مسمى رفع التجريم عن الزنا بالتراضي، وتقنين بيع الخمور والتبغ والحشيش، أما فساد الجوارح والأخلاق فيؤدي بالضرورة إلى فساد الحياة الاجتماعية، وخير ميزان يربط بين النقيضين هو القاعدة الفقهية: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح”، حيث يعتبر مثلا منع التجارة في المحرمات من خمر ومخدرات وخنزير أولى من إباحتها على الرغم من الأرباح والمنافع الاقتصادية التي يمكن أن تجلبها للفرد والمجتمع.

إنّ محاكمة بعض الصحفيين بالقانون الجنائي بدل قانون الصحافة، ومتابعة المدونين ومحاكمتهم وسجنهم بتهمة التشهير حين يتعلق الأمر بملفات الفساد، وسحب قانون الإثراء غير المشروع الموروث عن الحكومة السابقة، والحديث عن منع الجمعيات من تقديم شكايات ضد المسؤول المنتخب أو المعين بشبهة تبديد المال العام، وإشهار سيف التشهير في وجه كلّ من نبس ببنت شفة تمس فلانا أو علانا؛ ليس لها عنوان غير تحرير يد الفساد من أي قيد أو عائق محتمل، وبالتالي تقريب الفساد من المواطن وهو في أبهى صوره، ولنضع هذه البضاعة كلها في (عين الشواري) ولنبحث بما نملأ به (العين) الأخرى.

أمّا حزمة تعديل القوانين مثل تقنين الإجهاض، وإلغاء تجريم العلاقات الرضائية وتجريم الزواج قبل سن الثامنة عشر سنة، والتجريم القانوني لتعدد الزوجات، واستبدال نظام الإرث الإسلامي من المدونة بنظام إرث وضعي مختلف، واستبدال عقد الزواج الشرعي الإسلامي الموثق عند عدلين والموقع من قبل قاض شرعي على سنة الله ورسوله بعقد إداري بين طرفين ينجز عند كاتب عمومي ويوقع لدى مصلحة تثبيت الإمضاءات، لا عنوان يجمعها قبل وضعها في (العين) الأخرى لموازنة (الشواري) غير تجفيف القوانين التي تسري على شعب مسلم من كلّ ما من شأنه أن ينسب إلى التشريع الإسلامي، واستبدالها بقوانين مستوردة من وراء البحر.

فإلى أين ستسير بغلتنا إن حملنا عليها ما سبق، وتركنا لها حرية المسير؟ وأيّ طريق ستختار غير طريق البحث عن المزيد من نفس السلعة؟  فبمنطق  التطور والاستدراج ستحتطب رفع التجريم والحرج عن السكر العلني لتباع الخمور في المقاهي والمتاجر إلى جانب المشروبات الغازية والمواد الغذائية، وسوف نشهد تقنين الدعارة وتنظيمها من حيث الممارسة والتغطية الاجتماعية والصحية، والتطبيع مع الشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه، وتوسيع مفهوم الأسرة إلى أسرة مكونة من امرأتين أو من رجلين يؤثثانها باقتناء أطفال من دور الحضانة، أو من امرأة ورجل بدون أيّ رابط شرعي بحجة انتظار توطيد العلاقة بينهما بعد عدة سنوات أو بعد إنتاج بضعة أولاد قبل توثيق العلاقة، وقد نشهد تطوير الكائن البشري إلى شيء لا هو رجل ولا هو امرأة بل إلى هلام ليس بذكر ولا أنثى. وللتمكين لهذا النوع من الفساد لابدّ من توفير مناخ فاسد يقف على رِجلين؛ قمع حرية التعبير عن الرأي المخالف بكل الوسائل الممكنة، وإرساء ترسانة من المشرعين دخلوا الملعب في حالة شرود عامّة ومهمتهم تسجيل الأهداف وتمرير القوانين في حالة شرود عامّة.

فهل من سبيل إلى الرشاد  فنستنير طريق الإصلاح والتغيير والتعديل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَم سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِم شَيءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَم سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيه وِزْرُهَا، وَوِزرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بعدِه، من غير أن ينقُص مِن أَوزَارِهَم شيء”، أم سنجاري بعض فساد المجتمع بإفساد أكبر للقوانين، بنية حسنة أو مبيتة لحاجة في نفس أو جيب يعقوب، وتلك حلقة مفرغة تُعلم بدايتها ولا يعلم إلا الله آخرها، ويصدق علينا قول سفيان الثوري: يا رجال العلم يا ملح البلد ****من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M