صناعة الفرعون

19 مايو 2014 18:07
صناعة الفرعون

صناعة الفرعون

ذة. لطيفة أسير

هوية بريس – الإثنين 19 ماي 2014

كأمة عربية إسلامية بات نعتنا بالتخلف والجهل والغباء والتبعية والغوغائية أمراً محسوما، ولن نجادل في الأمر كثيرا لأن واقعنا المرير خير دليل على ذلك، ولا يماري في الأمر إلا من عُمِّي على بصره وبصيرته.

لكن الشيء الوحيد الذي لم تستطع الدول الغربية بعدُ مجاراتنا فيه هو صناعة القادة الوهميين أو بعبارة أخرى صناعة الفراعنة، فهي صناعة عربية بامتياز، لا يفقه طبيعة موادها الأولية غيرنا، ولا يملك سبيلا لتسويقها والترويج لها سوانا، صناعة لا تبور على مر العصور.

كل شيء فيها جائز إلا المساس بقدسية الفرعون، لا عيب أن تُراق الدماء أو تُقيد الحريات أو تنتهك الأعراض، أو تكمم الأفواه، أو يَختنق العباد ويحترقوا من ضنك العيش. ما يهم في هذا النوع من الصناعات ضمان جودة عالية للمنتج الفريد والمحافظة على استمراريته عقودا من الزمن، ولا عبرة بالكفاءة لأنها سلعة غير رائجة في بلداننا، وقد شاهدنا في الجزائر ذاك الإصرار المستميت على ترشيح بوتفليقة رغم وضعه الصحي المُزري.

وكم شعرتُ بالمرارة وأنا أشاهد قناة فرنسية تبث تقريرا ساخرا عن هذا الترشيح، وتتهكم من الشعب الذي ارتضى رئيسا بهذا الوضع.

لكن المخزي والمثير للغيظ والجالب للقهر أن نرى كثيرا من سفهائنا رغم ما بلغوه من العلم والمعرفة، يرتقون بهؤلاء الأشخاص إلى درجة التقديس والتأليه. ويُلبسونهم لبوس المنقذ من الضلال. وصمة عار كبرى حين يُنعت قاتل الأبرياء وباسط عصا الاستبداد ” بالقوي الأمين ” ووقاحة وجرأة على الله حين يُلصق بهذا الخسيس لقب  “الحفيظ العليم “، وخلل في الفهم حين ينعته بعض علماء الأزهر “بالرسول الجديد” الذي بعثه الله للمصريين خاصة، وقد أجاد الصحفي أحمد طه في تلخيص هذا التقديس اللامشروط من مؤيدي السيسي حين قال:

“فالسيسي في نظرهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، زلات لسانه أغنيات، أحلامه رؤى، تسريباته حكمة، وانقلابه ثورة، وعلى أكتافه تلمع نياشين تتويجا لحروب لم يخضها، تنقطع عنهم الكهرباء فيكفيهم أنه نور عيونهم، من أجله ترقص نساء في الشوارع بتصفيق من أزواجهن على نغمات “تسلم الأيادي”، هَوَس معجبي السيسي تجاوز الإعجاب إلى التقديس، تخطى الإلهام إلى النبوة، تحول من قائد عسكري إلى مُخَلِّص”.

حُق للغرب أن يسخروا منا لأننا نأتي بما لم يأتِ به البشر الأسوياء، وحُق لهم أن يحجروا على ممتلكاتنا وأراضينا لأننا لا نحسن التصرف فيها، وحُق لهم أن يهدروا دماءنا لأنهم يعلمون أنْ لا اعتبار لها عند من وليناهم زمام أمورنا.

نحن من نصنع هذه النماذج الفرعونية ونصفق لها ونشد من عضدها ونُعلي من شأنها حتى إذا قويت شوكتها ساست العباد كما العبيد. وخانت العهود وتخطت كل الحدود، فلِم النحيب والتذمر من ظلمها ؟ ولم التأفف والتضجر من سياساتها ؟

ولله در الشهيد سيد قطب حين قال: “فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير، وذلتها، وطاعتها، وانقيادها، وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة، ولا سلطاناً، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد لها أعناقها فيجر، وتحني لها رؤوسها فيستعلي ! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى، وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم، فالطاغية -وهو فرد- لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها، وكرامتها، وعزتها، وحريتها”.

لكن ألا يدور في خلدنا -ونحن نعيش بمنأى عن شرع الله- أن تكون هذه القيادات الفرعونية إنما هي تأديب لنا نحن العصاة المذنبون، الظالمون لأنفسهم. ألم يقل ربنا في كتابه العزيز: “وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا” (الأنعام:129).

يقول حَبْر الأمة ابن عباس رضي الله عنه: “إذا رضي الله عن قوم ولَّى أمرهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم”.

ويقول الشيخ متولي الشعراوي رحمة الله عليه: ” إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه، إنه -سبحانه- بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم. إنه -سبحانه- يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضا.  والتاريخ أرانا ذلك، فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة.  فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب البندقية إليه.

فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهراً عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال: “الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه”. اهـ

ويقول أحد الشعراء:

وما من يد إلا يد الله فوقها — ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

فليتنا نتَّعظ ونعتبر، ونُحَكِّم شرع ربنا بيننا، بدل الاحتكام للأهواء التي هوَتْ بنا في مكانٍ سحيق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M