شريف عبد العزيز يكتب: الموت لأهل السنّة، الموت لليمن
هوية بريس – شريف عبد العزيز*
السبت 08 نونبر 2014
لو أراد الباحث أن يلخص جميع مشكلات وأزمات الوطن العربي والعالم الإسلامي والمنطقة الإقليمية؛ اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا ودينيا، فلن يجد أفضل من بلاد اليمن، التي تعد اليوم النموذج الأمثل للفوضى الطليقة في مرحلة ما بعد الثورات العربية في الشرق الأوسط.
يأتي هذا بعدما كان اليمن مضرب الأمثال في حضارته التي استدعت أن يطلق عليه اليونانيون القدامى “اليمن السعيد”، بالنظر إلى إبداعات الإنسان اليمني في كافة جوانب الحياة، والتي عبرت عنها المدرجات الزراعية ونظم الري والسدود والجسور، والقلاع والحصون والمدن التاريخية، والقوانين والتشريعات الحاكمة سياسيا واجتماعيا، كقانون الجنسية الذي وضعه المعينيون في الألف الثالث قبل الميلاد، وغيرها من القوانين والأعراف الناظمة للحياة، يأتي ذلك بعدما كانت الإيمان يمان، والحكمة يمانية كما قال الرسول الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه.
الحالة اليمنية قد تبدو مثالية لتأثير العوامل الخارجية، بحيث يصلح أن تختصر جميع مشاكلها وأزماتها التاريخية في العامل الخارجي فحسب، فالموقع الجغرافي لليمن يضعها في قلب منطقة شديدة الحساسية لمصالح القوى الكبرى والإقليمية، ولذلك واجهت اليمن عمليات “تدويل” واسعة لصراعاتها الداخلية، كالاستقطاب العربي والدولي الذي تلا الثورة اليمنية عام 1962م، وتكرر الأمر نفسه في حرب الانفصال عام 1994م، ثم في ثورة الشباب سنة 2011، غير أن أم المشاكل اليمنية والتي يجري اليوم استحضار تاريخها القاتم بكل قوة، هي مشكلة الطائفية السياسية والتي بدأت في اليمن قبل أكثر من عشرة قرون مع قدوم الفكر المهداوي إلى اليمن.
تاريخيا، وُلدت بذرة الطائفية السياسية في اليمن بقدوم مؤسس المذهب الزيدي الإمام الهادي يحيى بن الحسين من الحجاز إلى اليمن عام 284هـ، معلنا وممارسا لنظريته السياسية في حكم اليمن، كحق إلهي لأسرته وسلالته من بعده حتى قيام الساعة.
تُعتبر الزيدية الهادوية فكرة سياسية واضحة المعالم والأهداف -مغلفة بغطاء ديني- فقد ولدت كنظرية سياسية يسعى أصحابها إلى الحكم والسلطة، ليس كاستحقاق سياسي بحسب شروط الزمان والمكان وظروفهما، وإنما كحق إلهي مقدس بنص ديني خفي غير جلي، بأن الإمامة حق إلهي حصري في سلالة بعينها ولا يجوز منازعتها فيها.
لا يمكننا اليوم فهم وتفسير الظاهرة الحوثية وتفاعلاتها بمعزل عن جذور هذه الفكرة الأم، أي “الهادوية” الزيدية وسياقاتها التاريخية التي تفسر لنا بوضوح، حقيقة هذه الجماعة كامتداد للفكرة الأم، الفكرة المؤسسة “للزيدية” بطبعتها “الهادوية” التي تجلت بتاريخ طويل من الصراعات والحروب التي تطفح بها كتب تاريخ المذهب ومؤسسيه، وحتى كتب فقه المذهب وأحكامه وأصوله التي تعُد الإمامة “السياسية” أصل الأصول.
فقد ارتكز حكم الأئمة الزيدية على نظرية للتقسيم الاجتماعي الطبقي السلالي والفئوي التي تصدّر الأئمة الزيدية قائمتها، كسلالة منتقاة من بين البشر، ومن ثم من بين أبناء الزيدية المنتقين من بين أبناء اليمن عامة الذين كان ينظر إليهم ككفار تأويل -أي يتأولون الإسلام تأويلا غير صحيح- أو ككفار بالإلزام، لا وظيفة لهم سوى دفع الإتاوات المختلفة لخزينة سلطة الأئمة ودويلاتهم.
وظل الأمر هكذا لقرون تراوح الزيدية الإمامية أقدامها بين جبال اليمن ووديانه، وتعبث بالإنسان اليمني وتغير ملامحه ومكوناته التاريخية العريقة، بترسيخ الطبقية والتمايز بين فئات الشعب، حتى صار اليمن السعيد في غاية الكآبة والجهل والتخلف، وصار اليمنيون مضربا للأمثال في الحماقة والخفة والجهل والتخلف وتعاطي القات، حتى جاءت ثورة 26 سبتمبر 1962 ليتخلص اليمنيون من حكم الزيود والفكر الإمامي والطبقية والفرقة والتخلف والجهل وسائر موروثات الحقب التاريخية الممتدة للحكم الإمامي الزيدي.
غير أن أحداث إقليمية ودولية خطيرة من عينة ثورة الخميني سنة 1979، وأحداث سبتمبر 2001، واحتلال العراق سنة 2003، وأخيرا ثورة الشباب سنة 2011، كانت كفيلة بإعادة البعث في الفكر الزيدي ممثلا في الحركة الحوثية التي بدأت بدعوى التجديد الحوثي التي قام بها بدر الدين الحوثي الذي يعتبر المرجعية العليا للحركة الحوثية، وقد بدأها في أعقاب ثورة الخميني بدعوى مواجهة الفكر الوهابي الذي بدأ يغزو اليمن بدعم من السعودية.
وقد أقام الحوثي في إيران عدة سنوات عاد بعدها محملا بأفكار الاثنى عشرية الجعفرية ليصطدم مع الجميع في اليمن حتى مع علماء فرقته ومذهبه الزيدي. ثم يأتي الاحتلال الصليبي الأمريكي للعراق سنة 2003، وانتقال الكثير من شيعة العراق للإقامة في اليمن، لتعطي دفعة كبيرة للحركة الحوثية لتدخل بعدها بعام واحد مرحلة الكفاح المسلح ضد الحكومة اليمنية، ولتستمر المواجهات لست جولات متتالية حتى ينجح الحوثيون في السيطرة على صنعاء في موعد لا يخلو من مفارقة في سبتمبر 2014 قبيل الذكرى الثانية والخمسين لثورة 62 التي أطاحت بالحكم الزيدي من اليمن.
نستطيع أن نفهم كل ما يقوم الحوثيون، فهم مسكونون بهواجس الملك الضائع، موتورون بطائفية مقيتة غذتها الأحداث والمشاهد عبر مئات السنين، يوم أن كتب أحد أئمتهم وهو المتوكل على الله إسماعيل رسالة أسماها “إرشاد السامع إلى جواز نهب أموال الشوافع” لتبرير نهب أموال أهل السنّة، فهم يحاولون بكل ما أوتوا من قوة ومكر وخداع ومساندة دولية وإقليمية أن يفجروا اليمن بحرب طائفية لا تهدأ وتيرتها أبدا، وملامح الفتنة الطائفية باتت ماثلة للعيان في مجريات الصراع اليمني، فتوغل الحوثيين في معاقل الشوافع السنية كفيل بتأجيج الصراع المذهبي في بلد هش يموج في دروب الفقر والعنف والسلاح.
فقد أثار توغل الحوثيين بمحافظات إب والحديدة والبيضاء السنية ردود فعل غير متوقعة شعبيا، رجحت طغيان الملامح الطائفية على الصراع الذي تشهده البلاد.
واندلعت الأسبوع الماضي معارك عنيفة في مدينة إب وعدد من مديرياتها وفي رداع بالبيضاء، وهي معقل أهل السنة أو الشافعية في اليمن مما خلف عشرات القتلى والجرحى.
ويبدو أن الحوثيين ظنوا أن بمقدورهم السيطرة بسهولة على هذه المحافظات السنية كما جرى في العاصمة صنعاء التي سيطروا عليها يوم 21 سبتمبر الماضي، لكنهم اصطدموا برفض شعبي وقبلي مسلح. وتعتقد أوساط سياسية وجود تواطؤ رسمي مع الحوثيين يشمل الرئيس عبد ربه منصور هادي وقادة وزارة الدفاع وبتحالف مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
الصراع الدامي في محافظة إب ورداع بالبيضاء مع الحوثيين يأتي كنتيجة طبيعة لانكشاف تحالف الحوثي وصالح الساعي “لاستثمار انقلابهم العسكري المليشياوي في صنعاء” في استهداف مناطق السنة والقادة العسكريين والقبليين والأحزاب المؤيدة لثورة عام 2011.
كما يأتي ضمان سياق المخطط الحوثي الإيراني نحو خلط الأوراق وخلق حالة من الإرباك بالمحافظات السنية الصاحبة الأكثرية السكانية باليمن، وقتل الزخم الشعبي، وتفتيت بنية مشروع ثورة 2011 الرامي للتخلص من حكم المفسدين وتطعيمه بالصراع المذهبي والطائفي، وإدخال البلاد في دوامة الصراع الطائفي والمذهبي.
لقد أكدت سلوكيات الحوثيين طوال الفترة الماضية على أن الحامل الرئيسي لتحركاتها وأنشطتها التوسعية مبني أساسا على استنهاض وعودة قوة وحكم الإمامي الزيدي تنفيذا لمشيئة الله الذي منحهم الحق الإلهي في الولاية، التي تمنح لكل من يخرج بالسيف على الحاكم الظالم.
وتجسد هذا النوع من الصراع عبر استهداف الجماعة لأهل السنّة في كافة المناطق التي سيطرت عليها واحتلتها: بدءا بالسلفيين بدماج – صعدة، مديرية أرحب التابعة لمحافظة صنعاء، محافظة الجوف، وصولا إلى عمق ورأس قبيلة حاشد بعمران المحسوبين على حزب التجمع اليمني للإصلاح، الحركة الإسلامية عامة، والتي لم يكن الحوثي ليجد أكثر منها قوة وقدرة على مواجهة توسعه وتمدده فكريا وميدانيا طوال الفترة الماضية.
وكان من الواضح أن معظم تلك التوسعات الأخيرة التي ظل يقوم بها كانت تستهدف عمق وقوة الإصلاح ومشايخه القبليين، حيث كان يقوم بتفجير منازل رموزهم الكبيرة في كل منطقة يدخلها ويسيطر عليها. بل اتضح الأمر أكثر من خلال الإصرار على محو وإزالة كل ما له علاقة بالمذهب السني، من خلال تفجير المساجد ودور تعليم الحديث ومدارس تحفيظ القرآن الكريم في المناطق التي سيطر عليها الحوثيون، وشعارهم الحقيقي (الموت لأهل السنّة) (الموت لليمن).
فصول الملهاة تتكامل وتزداد مكاشفة ووضوحا بدخول طائرات الشيطان الأكبر -أمريكاـ لتقصف مواقع تنظيم القاعدة الذي يقاتل الحوثيين في محافظة البيضاء، وتقصف تجمعات القبائل السنية المعادية لتقدم الحوثيين في مناطقها، وذلك مساعدة من أمريكا لحلفائهم الحوثيين ضد أهل السنّة باليمن، على الرغم من أن شعار الحوثيين الشهير والذي ما زال يُرفع حتى الآن (الموت لأمريكا) لتكشف هذه المفارقات عن حجم الخديعة التي تجري على أرض اليمن، ولتكشف عن مدى غباء وسذاجة دول الجوار الذين دعموا هذه الجماعة المارقة المبتدعة نكاية ومكايدة في جماعة الاخوان المسلمين فحسب، بحيث أصبحت المنطقة كلها مهددة بالخطر الشامل إذا وصل الحوثيون إلى باب المندب وسيطروا عليه، وعندها لا ينفع الندم، كما لا تنفع مشاريع التدخل العسكرية المترقبة.
ــــــــــــــــــــ
* مفكرة الإسلام، وهو كاتب وباحث في التاريخ.