حاجتنا فعلا إلى تسديد التبليغ عن الله ورسوله
هوية بريس – ذ.محمد بوقنطار
وأنا أستمع لمضمون الخطبة الموحدة في سياق تنفيذ خطة تسديد التبليغ، أطفق في البداية متهما نفسي وإيمانها، والذي من سيرته أنه يَخْلَقُ ويخبو لهيب حرارته في الجوف، منطلقا في صراعي مع وازعي بمسلمة أن المسلم في سيره إلى ربه لابد له أن يجمع الإحسان مع المخافة في دائرة سوء الظن بنفسه وضرورة اتهامها كل وقت وحين، ومبعث هذا الإحساس ومعطوف عراكه النفسي، أنك لا تكاد ترى في نسيج تلك الخطبة الموحدة ما ينقض غزلها من محدثات وبدع وموضوعات، وإنّما سطورها يسافر إليك ملفوظها في بياض لا سواد يقدح في صفائه، أو نشاز يخدش في عرضها الشرعي، فالسياق سليم المحبور قد بلغ في نسيجه المحبوك ملمح البرهان وسوق الأدلة وتزكية الفقرات برقائق وأمثال مبلغ القبول، ولكن…
ثمة شيء يجعل السرد باردا لا ينفذ إلى الوجدان، ولا يتسلّل نوره ليهز عرش الجنان، ولا يشد وقعه النواصي والأذهان، حتى لكأن بينك وبين دفق الكلمات المسجوعات في لحن منغوم العبارات برزخ لا يبغيان، ولطالما هجم علي سؤال يحاسبني طارحه عن حصيلة المغنم الذي أحقق به مكسب المكفرات بين الجمعتين، بعد انصرام هنيهات شهودي مشهد فريضة الجمعة، فلا أكاد أظفر في الجعبة بما يدفع عني دركة اللغو وجزاء من لغا فلا جمعة له، نسأل الله أن يغفر الزلة ويتجاوز عن الكبوة آمين…
ولم يكن هذا تقصيرا من السيد الخطيب زاده الله من فضله، وتلك شهادة من كتمها فهو آثم القلب مجرح العدالة، سيما والمرء يرى كيف يتجشم الخطيب عناء التحوّل من مهمة الخطابة إلى وظيفة تشخيص الإلقاء بالوكالة المفوضة، وقد قيل قديما في سياق الذوق والتجربة: “ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة“.
إن تسديد التبليغ نراه ضرورة ملحة، في زمن تداعت على قصعة الأمة سخائم الكفر والإلحاد والإتراف، وعلا فيه صوت التفاهة، واستأسد في مناخه سفلة القوم، وتصدّر الأصاغر، وتقدم إلى الواجهة الذين لا وزن لهم بمنطق العقل وحكمة النقل، وتطاول الهمل الرعاع على حمى الدين، وتسوّر فيه البغاة محراب التديّن، ورمى فيه المارقون موروث السنة ونقلتها الأكابر بسهم الريب والنسف والتشكيك، بل انكبحت وانحبست كلمات النهي عن المنكر في جوف ودواخل المصلحين الصادقين في انتمائهم إلى وطنهم، وإلى أمتهم الموصولة بالله، مخافة التسريح والفصل، فلم تعد تسمع منهم إلى همس الاسترجاع والحوقلة، وأطلق لسانهم في طرح سلسلة التوحيد وذلك المراد المحمود، ولكنه طرح أسس لعرى هدفه وجاء ولبث منفكا عن لازمه ومقتضاه، وقد دعا نبيّنا عليه الصلاة والسلام، ومكث يدعو قومه إلى توحيد الله ثلاث عشرة سنة وتلك دعوة المرسلين من قبله صلوات ربي عليهم أجمعين، ثم هاجر بالتوحيد ليدعو إليه وإلى لازمه في دولة المدينة وزمن التمكين، و الشوكة للمسلمين.
ذلك أن من لازم التوحيد وتسديد تبليغه عدم السكوت على إتراف المترفين، وعدم مهادنة الذين يسعون في خراب وهلاك الأوطان، ومدافعة بغي البغاة، ودفع شبه المشكّكين، والتصدي عبر آليتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل قاطع طريق قد تأبط شرّه وأناخ رجسه أمام كل شعيرة من شعائر الإسلام، وفضح سيرة المتربصين الكائدين لتحذرهم العامة ويتجنب الأبرياء الوقوع في شراك مكرهم والمشي في أرساف جهلهم المركب، ورفع اليد الوصية بضوابط وشروط وقواعد تحفظ أمن واستقرار الوطن عن حرية الخطباء والعلماء الهداة المهديين من ورثة تركة سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، فإنهم والله وبالله وتالله ليصلحون ولا يفسدون، ويبنون ولا يهدمون، ويؤسّسون ولا يفرطون، ويدافعون ولا يتخلفون، ويكرون ولا يفرون ولا يولون الدبر يوم الزحف…
فما أحوج مريدي الجمعة في زمن الوهن إلى خطيب فقيه فصيح غيور حكيم حريص على معشر المؤمنين قريب من واقع حاجاتهم ومطل على نقيصة محلة سكناهم، كَثَّرَ الله من أمثاله نوعا وجنسا في هذه المملكة الشريفة الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وفق الله أهلها ـ حكاما ومحكومين ـ إلى الإيمان بالله وشكره على نعمة الإسلام، وعلى نعمتي الإطعام من جوع والأمن من خوف، وقد علمنا من عدل الله وحكمته: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما“.
(كتبها مريد الجمعة محمد بوقنطار).