المرء مع من أحب.. فمن أحب الصالحين رُفع ومن أحب الطالحين وُضع

16 نوفمبر 2025 15:51

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

المرء مع من أحب.. فمن أحب الصالحين رُفع ومن أحب الطالحين وُضع

في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟“.

أي: ما حكم من تعلـق قلبه بالصالحين، ورغب في منازلهم، غير أن عمله لم يرق إلى مستوى أعمالهم، ولا بلغ مبلغهم في الطاعة والعبادة؟

فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بجواب موجز جامع بليغ فتح أبواب الرجاء، وملأ نفوس الصحابة سرورا واستبشارا، فقال عليه الصلاةوالسلام: «المرءُ مع من أحب».

والمتأمل للقول النبوي الشريف يجد أنه خرج في صورة قاعدة كلية، تقرر حكما ووعدا غيبيا ثابتا، مداره على عمل قلبي جليل، هو المحبة.

غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا هو:

ما المراد بالمحبة التي رتب عليها الشرع هذا الوعد العظيم؟

إن المقصود بالمحبة ليس ذلك الحب الجـبلي الفطري الذي لا كسب للإنسان فيه، وهو ما جُبل عليه من مودة الأم مثلا أو الأب، أو الزوجة… فهذا لون من الحب لا يمدح صاحبه ولا يذم شرعا، لأنه غير ناشئ عن اختيار أو تفضيل بناء على أسس شرعية ، بل عن طبيعة مغروسة في النفوس. ولهذا أذن الشرع للمسلم أن يتزوج الكتابية، وقد يحبها حبا جبليا، كما يحب أمه إن كانت كتابية، من غير أن يترتب على هذا الحب ثواب ولا عقاب؛ لكونه غير مبني على اعتقاد أو قبول لدينها أو لشعائرها.
وقد يدخل في هذا النوع من الحب المحبة العادية، والمراد بها أن سبب المحبة أمر عادي مباح شرعا كمن يحب لاعب كرة قدم لطريقة لعبه وإتقانه للعبة لا لشيء آخر.

أما المحبة التي قصدها الحديث فهي محبة مكتسبة، يختارها القلب عن بصيرة، وتتشكل على أساس حقائق شرعية محمودة يتحقق بها المحبوب. فهي محبة للعمل قبل أن تكون للذات، ومحبة للقيم قبل الأشخاص. فالمؤمن قد يحب رجلا لأنه كريم جواد، أو آخر لأنه كثير الصوم قائم بالليل، فيكون الحب في حقيقته متوجها إلى الكرم والصوم والقيام، لا إلى الذوات من حيث هي.

وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث النبوي يقرر أن المحبة في هذا المقام محبة دينية مكتسبة، لا محبة جبلية أو عادية؛ فتلك المحبة هي التي يثنى على صاحبها، ويرجى له أن يحشر مع من أحب، وإن قصّر عملُه عن عملهم، ما دام صادقا في ولائه ومحبة ما هم عليه من طاعة.

وبناء عليه، فمن أحب أهل الذكر لذكرهم، وأهل القرآن لتلاوتهم، وأهل الصلاح لصلاحهم، فإنما أحب الحسنة التي قاموا بها، والعمل الذي اصطفاهم الله له. فإن عجز عن اللحاق بعملهم، أدرك منزلتهم بنيته ومحبته.

وهكذا تظهر حكمة هذا الحديث، الذي فتح باب الأمل أمام من ضعف عمله وقوي حبه، فصار بإخلاص قلبه وصدق مودته في ركاب الصالحين، يسير معهم وإن قصر به جهده عن أعمالهم.

والقاعدة -كما تقرر- أنها عامة مطردة، فوجب التحقق والتخوف؛ فكما يلتحق المحب بالصالحين إذا أحبهم لصلاحهم، فكذلك يلتحق بالطالحين إذا أحبهم لطلاحهم؛ إذ إن مناط الحكم واحد: نوع المحبة التي اختارها القلب.

فالمرء -في الآخرة- حيث وضع قلبه في الدنيا؛ فمن أحب أهل المعاصي لأجل معاصيهم، وأهل المجون لمجونهم، وأهل الظلم لظلمهم، فقد أحب أعمالا مذمومة شرعا، فيكون معهم وإن لم يعمل جميع أعمالهم.

ولنضرب مثالا؛ رجل يعجب بأهل الفجور والفواحش، ويتتبع أخبارهم، ويميل إليهم، ويحبهم لأجل ما هم عليه من انحلال ومجون، لا لصفات إنسانية عارضة.

فهذا الحب ليس جبليا، بل هو محبة مكتسبة لا تنشأ إلا عن تفضيل قلبي لما هم عليه، وهو يغضب الله. فمثل هذا وإن لم يفعل جميع ما يفعلون يخشى عليه أن يحشر معهم يوم القيامة، لأنه أحب الفاعل لفعله والمرء مع من أحب.

خلاصة القاعدة

إن حديث: «المرء مع من أحب» ليس وعدا باللحاق بالصالحين فحسب، بل هو في الوقت نفسه تحذير من أن القلب قد يختار بمحبة الفساد أن يدرج صاحبه في زمرة الطالحين، فالقلب هو القائد، والمصير يسير خلفه.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
9°
19°
الإثنين
21°
الثلاثاء
17°
الأربعاء
16°
الخميس

كاريكاتير

حديث الصورة