مأساتنا مع الزبد قبل ذهابه جفاء
هوية بريس – ذ. محمد بوقنطار
لا شك أن المسلم اليوم وهو يعيش قريبا من هذه القتامة أو في غمرتها، يتنفس دخانها ويعاني من لوثة شوائب ريحها، مطالب بواجب الإبقاء على أمله قائما بغية الخروج من ربقة هذا الجو الموبوء، وهو الأمل الذي لم يكن حتى في أحلك الظروف وأقساها ليلحق تعليقا لا تحقيقا بالركب الأسطوري لرمزية لقاء الغول والعنقاء ومصافحة مهدي السرداب ومجالسة غوث الصوفية.
ذلك أن الإيمان بكون أن هذه القتامة ومعها دخانها هما نتيجة مباشرة للالتقاء الصفين، في المعركة التي خاضها ويخوضها وسيخوضها الحق ضد الباطل، لابد أن يذهب بالمؤمن في ظل ما يتبناه من تسليم وقوة اعتقاد، مذهب ما قرره الله من حكم حاسم يقيني في طرفي هذه المعركة معركة الابتلاء والتمكين مصداقا لقوله جل جلاله: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
ولا ريب أنه تسليم وإيمان كثيرا ما ضرب صفحا عن ما صاحب ويصاحب مكث الزبد بيننا إلى حين ذهابه جفاء، من فترة يستوعبها دخان تلك القتامة ويخنق أنفاس أهلها، فيغمر الكثرة منا في مأساة وكوارث لها غنمها وغرمها وسباياها من حظ الأجيال التي تعيش عتمة الاختلاط بين كثير الظلام وقليل النور، وظهور الباطل وضمور الحق، جراء ما تشهده حياة الأمة وتاريخها من انفلات سلوكي وضلال عقدي، مستشر في جسدها المتراص متسلل إلى محاريبها الداخلية بمصادفة ومصادقة مأمول عدو من نفسها، استعمله واستأمنه عدوها المفصول عن ماهيتها والخارج عن هويتها، فكان أن التقت النوايا مع المقاصد الفاسدة على أمر قد قدر.
ولسنا في حاجة إلى التنبيه على النتائج، بله سلك مسلك تفصيل المفاسد التي أحدثها هذا التسلل الماكر من هضم وهدم وإماتة وحرق لمسافات ضوئية زمنية من حاضر تاريخ الأمة ومستشرف سيرورتها، وسنوات عجاف استنزف العدو في أيامها النحسات اليابس والأخضر من خيرات الأمة ومدخراتها المادية والمعنوية…
وجدير بالذكر التنصيص على حقيقة أن الغرب بات يعلم منذ أول وهلة حصل بيننا وبينه فعل التماس، أن قوة هذه الأمة وتمكينها رهين بقوة وصدق انتمائها إلى دينها -وليس أي دين بطبيعة الحال- وإنّما المقصود إسلام الوحي المنزه عن عبث الابتداع والإحداث، ولذلك لم يكن رحيل الغرب بعد استيطانه واستعماره لجغرافية المسلمين لعقود من الزمن، هو رحيل عجّلت به محصلة الإشباع والتخمة مما ناله من المدخرات الظاهرة والباطنة من ثروات الأمة أو قصعتها بالتعبير النبوي الدقيق كما هو التصور القائم، أو حتى توهم هروبه من ضربات المقاومة المحلية.
وإنما الواقع أنه لم يرحل إلا بعد أن أحس باعتقاد فائق الترتيب راسخ الاحتمال يحكي في غير ريب أنه خلّف وراءه جيلا من بني الجلدة يمكن أن ينوب عنه بإحسان وإخلاص في تحقيق أهدافه وتلبية حاجاته دون أدنى الخسائر وبأقل التكلفة، مع أخذ الضمانات المستوفية لنصاب القبول من أبنائه بالرضاعة على بقاء تنفذه قائما مستمرا متسترا ومتقنعا بأقنعة الفكر والثقافة والتعليم والإغاثة والصون والرعاية، وكلها أمور تؤسس لاستعمار غير سافر، بل أشكال حضارية لطيفة تمرر الهلاك بطعم الحياة، والضنك والقَدَرة بذوق طيب التمدن ورفاه الحداثة.
إن قضيتنا اليوم والأمس القريب قبله لها متعلق بمحركات الأفكار ومن يقف وراء حركتها الدؤوب، ممن ومما يعد المسؤول الأول بعد إذن الله الكوني على ما نعيشه من ترد وتقهقر وتسفل أخلاقي لا يكاد يبقي ولا يذر، ابتلع في جوفه أجيالا من عابري السبيل، وآخرين من المتبصرين من الذين استنابهم الغرب وبثهم بيننا، بل ساهم بشكل أو بآخر في تقوية مواقعهم في سلم نسيجنا الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، ودفعهم إلى الواجهة ينتقلون من منبر إلى آخر، ويعربدون عربدة لم يكونوا ليأملوا من خلالها حصول الانفكاك المطلق أو البينونة الكبرى بين المسلمين وإسلامهم العظيم، فلعل هذا أمر رفعت أقلامه وجفت صحفه، وتبينت استحالة مشروع استئصال شأفة عراه من وجدان أبناء الأمة.
إذ يبقى المأمول من ركزهم هو النجاح في جعل هذا الدين كيانا هلاميا تحت مزاعم التنوير ودعاوى الإصلاح، وتخرص إعادة الهيكلة والقراءة التجديدية للتراث الإسلامي، والتي كان ولا يزال دورها هو محاولة صب هذا الكيان الهلامي، وتعبئته في قوالب توافق هوى الغرب وتوصيات مراكزه الدراسية المتخصصة، كما تناسب معايير تدابير مصالحه الإقليمية المتغوّلة في حسابات أجندته السياسية، بحيث تكون فيه الغلبة والظهور والصولة والسواد إلى نماذجه المحلية المحدثة ليس في دائرة التعود وإنما في صلب التعبد، بينما ينزوي الحق وأهله في ركن المغلوبية والغربة والضعف والهوان على الناس، يتقلبون دفاعا عنه بين النزاع والقراع، وبين التثريب والتخريب أناء الليل وأطراف النهار.
ولا جرم أن السير إلى هذا المأمول لم يكن ولن يكون سيرا ارتجاليا تطبعه السذاجة وتحكم حركته إلى الأمام الغباوة، وإنما هو سير كان وسيبقى يقظا محترزا متحسبا، وذكيا ماكرا في حساب خطواته وعدّ أنفاسه، واستشراف نتائج ومآلات نهايات وجهته بين رجحان الربح ومرجوحية الخسران.
ولذلك تجد أن الغرب ومعه الراكبين مطايا مدنيته يوطئون بين يدي صراعهم، وفزعهم بقوة وثبات موقف إلى مشاريع التجديد والإصلاح والهيكلة بعربون زعم مفاده أن الخلاف مع الإسلام والمسلمين، هو ليس من جهة مع جنس المسلمين، وإنما هو مع نوع قليل منهم يشكل نشازا في نِظمة ذلك التماس المؤشَر عليه سابقا، كما أنه من جهة أخرى خلاف ليس مع ذات النص وجنس الوحي، وإنما هو خلاف جاء ليصارع فهما متطرفا، ويدافع اعتسافا جارحا قادحا في وسطية الإسلام عابثا باطراد مَئِنة ملحظ التسامح فيه وبه ومنه.
وهل كانت هذه التوطئة لتغني وتحجب حقيقة خداع وحقد هؤلاء المهزومين المجروحين، تلك الحقيقة التي وقف سلفنا على جراحاتها ورحم الله الإمام ابن القيم إذ قال مصورا لهذا النموذج التلفيقي: «فسبحان الله، كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم ترد، وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها».
والمأساة أن تجد أن هذه التوطئة أحدثت خللا عميقا وشرخا ولّد وأنتج صورا من الزيغ والضلال، بلغ أحيانا كثيرة دركة الخروج من الإسلام بالكلية، باسم أنسنة التراث، والحاجة إلى نزع القدسية عن الوحي بدعوى تاريخيته، وبدعوى الاستجابة إلى ضغوط الواقع المعاصر والرضوخ لمزاجه الحداثي الجارف.
ولعلها المأساة التي كان استهلالها الأول يوم اطمأنت الأمة إلى الوافد الصقيعي، ويوم استمرأت تتبع سَنَنَ الغرب وتقفي أثره المفضي أو الذي أفضى إلى دخولها جحر الضب، واجترارها وعودا سرابية على بدء متكرر مستمر.
ويا ليتها اليوم والأمس قبله اعتبرت بذلك الحمل الوديع الذي دعاه في يوم من أيام دهره ذئب مضياف معربا عن أدب ضيافته بقوله: هل تريد أن تشرف منزلنا بزيارة عزيزة؟
فأجابه الحمل حائلا وقاطعا بينه وبين كبير أمنيته: كم كان فخري بزيارتك عظيما لو لم يكن منزلك في معدتك…