كلمة موجزة للشيخ الزمزمي وأمثاله

15 يوليو 2013 17:17

من الأدواء الشائعة التي بدأ جسد الأمة يتآكل منها مرض الجرأة على الفتيا في دين الله عز وجل لكل من هب ودب، فتساهل الناس في أمر دينهم، وانتهكوا حرمات الشريعة، ونالوا من قدسية دينهم أعظم النيل، فلم يعد للقرآن والسنة مهابة في قلوب أولئك القوم، فكان من السهولة التلفظ بكلمة حرام وحلال ويجوز ولا يجوز وكفى بهذا الداء تغييرا لأحكام الله وتبديلا لشرائعه، ونزع المهابة الوعظ القرآني، والزجر النبوي من صدور قوم ابتلوا بهذا الداء..

 روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا}، وكم رأى الغيور نُزَّالاً في حلائب العلم ومتطفلين في ساحات المعرفة، وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير، ديدنهم الجرأة على الفتوى، ودأبهم التجاسر على التحليل والتحريم، متشبعين بما لم يعطوا، يتكلمون بما يعلمون وما لا يعلمون، ويجملون ويفصلون، ويهرفون ويسفسطون، وهم من أجهل الناس في أحكام الشريعة.

وهذه ظاهرة عمت وطمت؛ حيث تجرأ كثير من الناس في مجتمعاتنا سواء في مجالسهم أو وسائل إعلامهم أو ندواتهم أو مؤتمراتهم أو على بعض الصفحات الإلكترونية على القول على الله بلا علم، بحجة المناقشة والحوار والرأي الآخر وحرية التعبير إثارة فتاوى لا معنى لها، وهم في الوقت نفسه يفتقدون أي علم شرعي يؤهلهم لذلك.

لقد كثرت الفتاوى من حولنا، ودخل حلبتها كل من يريد سواء عن علم أو بجهل، وتعدد المفتون، حتى ليمكننا أن نسمي العصر الذي نعيش فيه الآن بعصر مهرجان الفتاوى. وأصبح للناس مواسم للفتاوى: ففي رمضان، تكثر الفتاوى عن الصوم والزكاة وزكاة رمضان، وفي أشهر الحج تكثر الفتاوى عن مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة، وفي بقية شهور العام تكون أسئلة الصلاة والطهارة هي المادة الرئيسية للفتاوى، وعند آحاد الناس من تخصص في موضوع واحد فحسب لا يتعداه حتى اشتهر به ونسب إليه “مفتي الجنس والإباحية”؛ يفتي فتاوى إباحية وجنسية ليست عليها أثارة من علم على الإطلاق وإنما هي رخص بلا ضوابط ، مما يدل على ضحالة علم هذا الصنف بالعلوم الشرعية.

إذا سمعت أحدهم يتكلم، فكأنما يتنزل عليه وحي؛ من جَزْمه وجرأته في قوله، وعدم تورعه في كلامه، ولربما نسب ما يراه إلى الإسلام، ترى أحدهم يجيب في عظيم المسائل مما لو عرض على عمر لجمع له أهل بدر، وكم يتملكك العجب، وأنت تسمع عبارات التعظيم لذواتهم، والتعالي في نفوسهم! شعارهم: العلماء رجال ونحن رجال. وقاموسهم: رأينا كذا، ترجيحنا، اختيارنا، والذي نراه، ونحن نرى، والراجح عندنا.

يقولون هذا عندنا غير راجح — ومن أنتم حتى يكون لكم عند 

وقل لمن يدعي في العلم فلسفةً — علمت شيئاً وغابت عنك أشياء

ولكن غاب عنهم خطورة هذه الظاهرة وأنها أشد من الشرك بالله.

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 33].

قال الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في «إعلام الموقعين» (1/38): «فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو: الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه؛ وهو: الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما؛ وهو: الشرك به -سبحانه-، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله؛ وهو: القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه».

فإن قال قائل: كيف يكون القول على الله بغير علم أشد ضرراً من الشرك بالله؟

 

فالجواب:

أ- أن أصل قاعدة الضلال في العالم ومنشأ الشرك؛ هو: القول على الله بغير علم.

ب- ضرر الشرك قد يكون واقعاً على المشرك نفسه، ولا يتعدى إلى غيره ما لم يكن داعية، وأما ضرر القول على الله بغير علم يتعدى للآخرين.

دخل الإمام مالك -رحمه الله- على شيخه ربيعة الرأي؛ فوجده يبكي فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة نزلت بك! قال: لا، ولكن استفتي من لا علم عنده! ووقع في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق!

ت- القول على الله بغير علم افتراء على الله، وكذب عليه؛ وتأسيس لدين غير دينه، وطمس لمعالم منهجه، ولذلك كله جاء تأكيد هذا الأمر في عدة آيات:

1- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل: 116].

ليس كل من لبس في عصرنا جلبابا، أو كور عمامةً، أو نال شهادةً، أو أمّ مسجداً أو ألف مؤلفاً، أو عمل مدرساً، أو أبلغ في موعظة؛ يُعد شيخ الإسلام ومفتي الأنام، يحكم في العقائد والرقاب والأخلاق والأموال والأعراض، وكأن الأمر شربة ماء! أما علم هؤلاء أن الجرأة على الفتوى جرأة على النار، وأن التجاسر عليها اقتحام لجراثيم جهنم، عياذاً بالله عياذاً، بل لقد وصل الحال ببعض العامة إلى أن يفتي بعضهم بعضاً، والله عز وجل يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: “هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال”،

لقد أصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعالم مأهول، حتى ساموا باعة البقول عدداً، وتكلم كثير من الرويبضة، واستطالوا على منازل العلماء ومقامات العظماء والفقهاء، وعمد بعضهم إلى أمور من الثوابت والمبادئ، وجعلوها عرضة للتغيير والتبديل، بحجة التنوير والتطوير، ولربما تحذلقوا بتغير الفتوى بتغير الزمان.

ووجد من يتنصل عن الفتوى بأمور جاء تحريمها، مما علم من الدين بالضرورة، وكثر التحايل على أمور الشريعة، فاستحلت كثير من المحرمات بأدنى الحيل، وطالب بعض مثقفي العصر من أفراخ التغريب وتلامذة الغرب، بالترخص بل بالتفلت من الأحكام الشرعية، فطالب بعضهم بإعادة النظر في حرمة الربا أو بعض صوره، وآخرون بالتعجل المذموم والتجاسر المحموم على حجاب المرأة المسلمة وقضاياها، وهكذا في سيل من التلاعب المرذول بأمور الشريعة، وتجرأ بعض حملة الأقلام، بل وبعض وسائل الإعلام وقنواته؛ المسموعة والمقروءة والمرئية، إلى إثارة قضايا كلية من الدين مع قلة البضاعة العلمية الأصيلة الرصينة، باحثين عن الإثارة، زاعمين استقطاب القراء والمشاهدين، فالويل كل الويل لكل من ارتقى هذا المرتقى الصعب على حساب الدين وتعاليمه، فأضل فئاماً من الأمة ممن سيحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25].

ألا فليعلم هؤلاء أنهم بكلامهم في الشريعة إنما يوقعون عن ربّ العالمين سبحانه، وأن الفتاوى نار تضطرم، وكم سمعنا ونسمع من فتاوى فجة لا زمام لها ولا خطام، تبنى على التجري لا على التحري.

ولذا فإن الواجب أن يقوم بهذا العمل الأصلاء دون الدُخلاء، والمتأهلون لا المتطفلون والمتعالمون؛ حفظاً لدين الأمة، وتوحيداً لكلمتها، وضبطاً لمسالكها ومناهجها؛ لتكون مبنية على الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة، وبذلك تسلم الأمة من غوائل المحن وبواعث الفتن، وتوجد العواصم بإذن الله من قواصم الجريمة الشنعاء، ألا وهي القول على الله بغير علم، والله المسئول أن يعصمنا من الزلل، ويحفظنا من الشرور والخطل، وأن يرزقنا نافع العلم وصالح العمل، فهذا هو عظيم الرجاء وكبير الأمل.

ورحم الله الإمام الشعبي حينما سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقال له أصحابه: إنا نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول: لا أدري، فقال رحمه الله: لكن ملائكة الرحمن لم يستحيوا إذ سئلوا عما لا علم لهم به، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].

ختاماعلى المفتين التخلي عن حبّ الظهور فإنها مهلكة، والتجرد لله تعالى فيما يصدر عنهم من فتاوى، ومعرفة أنهم بمثابة موقعين عن الله تعالى إلى خلقه، فليخشوا الله وليتقوه، وليعلموا أنهم موقفون بين يديه سبحانه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فليقدروا لهذا اليوم قدره.

وأن يعملوا على نشر العلم الشرعي بين أفراد الأمة، وتشجيع الناس على تلقي هذه العلوم، وتبصير الناس بأهميتها، حتى لا تقع الناس فريسة لمن يتلاعبون بالدين ونصوصه وأحكامه والله المستعان.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M