أنواع القرّاء.. أيّهُم أنت؟

06 نوفمبر 2017 20:01
دة. صفية الودغيري تكتب: النموذج المعرفي للقراءة

هوية بريس – شريف محمد جابر

أيّها القارئ الكريم المشمّر عن أستار عقلك وقلبك لقراءة ما جادتْ به القريحة. أمّا بعد، فهذا خالصُ نُصحي إليك وموفور حدَبي عليك في شأن القراءة والقرّاء. فقد نظرتُ في حال القرّاء في عصرنا هذا، فوجدتهم على أربعة أنواع: نوعان مذمومان، ونوعان محمودان. وإنّي في مقالتي هذه أحذّرك وأعيذك أن تكون من صنف المذمومين، وأدفعك وأرغّبك في سلوك طريق المحمودين.

القارئ الجوجسبوكي
لحظتان فارقتان في تاريخ القراءة والقرّاء، كانت إحداهما نكبة القرّاء، والأخرى نكستهم! ففي الثاني عشر من جمادى الأولى عام 1419 من الهجرة أطلق سُرَيْجِيُّ البُريْن ولاريُّ البايج موقع “جوجل” في شبكة الإنترنت. فهذه نكبة القرّاء. وفي الحادي عشر من ذي القعدة عام 1424 من الهجرة أطلق مارقُ الزُقْرُبَيْرق موقع الفيس بوك في فضاء العالم الافتراضي. فهذه نكسة القرّاء. كانت مفاعيلُ هاتين اللحظتين – رغم نفعهما الكبير – تضاهي بما حملتْهُ في طيّاتها لحظةَ إلقاء هولاكو آلافَ الكتب في نهر دجلة حين اجتاح العراق؛ وذلك أنّها دمّرتْ بالتدريج مساحات القراءة التي كانت العقول تعمُرُ فيها الكتبَ والمكتبات، فساهم الوصول السهل المريح في انحسار عمليات البحث المطوّلة في الكتب، وساهمتْ سياسة النشر الحرّ اليومي لكلّ ما يخطر ببال كلّ أحد في قراءة نصوص بدائية في معظمها، مليئة بالرديء من القول، قصيرة لا تتجاوز بضعة أسطر.
لقد كان لهذا الفعل التاريخي أثره السيّء على أدمغة القرّاء، وهو أثرٌ شبيهٌ بأثر قفزات التكنولوجيا الرشيقة التي جعلت الإنسان يكفّ عن الركض وعن بناء عضلاته في معترك الحياة الطبيعي، ليجلس كالجارية في خدرها أمام التلفاز والحاسوب، فتضمر عضلاته ويزداد شحمه! وبنفس الطريقة، ضمرتْ عضلات العقول – إنْ جاز التعبير – ومَرَدَتْ على الشرود عن الكتاب في دروب جوجل وفيس بوك، فكيف كان الأمر؟

لقد صِرنا نرى مَن يعتبر منشورا من بضعة أسطر “مقالا”، وربّما اعتبر المقالة القصيرة دراسة! وذلك لقصور همّته واعتياده على سطر أو سطرين يقرؤهما بسرعة، ولإدمانه على الصور ومقاطع الفيديو. فلم يعد للنصوص الطويلة في ذهنه جاذبية أو حضور، وهو يعاني أثناء قراءتها كما يعاني طفل في الصفّ الأول من قراءة نصّ لطلاب الثانوية!

والمطلوب تخصيص مساحة من الحياة تُنبذ فيها هذه المسالك الرديّة، ويُرجع فيها إلى الكتاب.. الكتاب الذي أدفأ عقول البشرية لآلاف السنين، ثم نبذناه – بعد أن دفع بنا إلى العصر الرقمي – في رفوف المكتبات المنسيّة، مغلّفا بالغبار.. حزينًا هناك!

القارئ الذبابة
هذا نوعٌ أربأ بك أيها القارئ أن تكون منه، فهو متشبّع بأخلاق الذبابة وببعض صفاتها الوراثية؛ لأنّه يتناول الكتب بقراءة خاطفة باحثا عن الزلّات والأخطاء وكأنّه يتعاطاها، تمامًا كما تبحث الذبابة في الجسد عن الجروح والدمامل، وفي البرّية عن الجثث والمزابل، عافانا الله وإياكم! ولقد اتّسعتْ عينُ هذا القارئ المسكين لتصبح كعين الذبابة مركّبة، ترى 250 صورة في الثانية، أي أسرع أربع مرّات من سرعة رؤية عين الإنسان الطبيعي بحسب ويكيبيديا العربية. ولهذا فهو قادر على جَرْدِ الكتاب في دقائق معدودة، وحصيلته منه زلات الكاتب وأخطاؤه لينشرها مسرورًا بما في جُعبته من عيوب!

وإنّي أعيذك أيها القارئ أن تكون كالقارئ الذبابة هذا، فهو يقضي عمره يتغذّى على زلات الكتّاب وهفواتهم، فلا يحصد من العلم والمعرفة إلا ما يشغل قلبه بأخطاء الآخرين، حتى يصبح قلبُه أسود من الذبابة!

القارئ النحلة
وهو الذي ينوّع في قراءاته، فيكون كالنحلة التي تتخيّر رحيقها من الأزهار المختلفة، فتنتج عسلا صافيا غنيّا بالعناصر الغذائية. أمّا ذاك الذي يتشرنقُ في كتابات تيّاره أو جماعته أو تخصّصه فهو كالنحل التجاري الذي يسلبه صاحبُه العسل، ثم يغذّيه عند غياب الزهر بالماء والسكّر، وليس هذا كالعسل الأول!

ما يَغفل عنه محبّو القراءة ضرورة التنويع في القراءات؛ فتجدُ المحبّ للأدب متقوقعًا على الشعر والروايات، ولهذا تجده سبّاقًا إلى العاطفة، لا يكاد يقدر على الكتابة بتعقّل ورويّة. وتجدُ المدمنَ على الكتب الفكرية والفلسفية جافّا كرمال الصحراء لا ينبت فيها الكلأ! وتجدُ الداعية المواظب على كتب الرقائق والمواعظ عاجزا عن الإبحار في كتب الفقه والأصول، والذي يبحر فيها جميعًا تجده ضحلَ الثقافة في المجالات الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي يحتاجها كل إنسان يروم النهوض لأمّته؛ فكيف يستحثّ داعيةٌ الناسَ على النهوض من كبوتهم وما زال يرسفُ في جهل عميق بمعارف العصر؟!

ومن فوائد القراءة بأسلوب النحلة أنّ المختصّ في مجال معيّن ينتفع بالاطلاع على مجال آخر غريب عن تخصصه؛ فتلتمع في عقله الأفكار، ويسلك مسالك غير تقليدية في التفكير. وهذا سرّ من عجائب الله في خلقه وفي العلوم التي علّمها الإنسان، ففيما بينها اعتلاقٌ وثيق يُفضي بالحصيف إلى نزع فتيل ألغام معرفية وإلى تفكيك معضلات فكرية، وبالجملة إلى إضافة معارف جديدة تنتفع بها البشرية.

القارئ الحارث الهمّام
رويَ في الأثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: “وأصدقُ الأسماء حارثٌ وهمّام”. ولئن كان هذا في الأسماء، فقد نظرتُ فوجدتُ أنّه ماضٍ في القرّاء أيضا؛ فإنّ أصدقهم القارئ الحارث الهمّام. فأمّا الحارث فهو في اللغة: الكاسب. ويقال كما في “لسان العرب”: احترثَ المال أي كسبه. والمرأة حرثُ الرجل أي يكون ولده منها. وقد حَرث واحتَرَثَ مثل زَرَعَ وازدَرَعَ. وحَرَثَ أيضا إذا تفقّه وفتّش. والحرثُ: الثواب والنصيب. فإذا نظرتَ في هذه المعاني المتقاربة للفظ الحرْثِ الذي اشتُقّ منه اسم الحارث؛ علمتَ أنّ القارئ الحارث هو الذي يحرث النصوص فيكتسب منها معرفة ويحصد علمًا. وإذا لم تكن القراءة ليُراكم الإنسانُ المعرفة النافعة فلأيّ شيءٍ تكون؟ وهل ثمّة أصدق من امرئ يقصد إلى الكتاب ليجتني العلم ويبني به صرحه المعرفيّ؟

وأمّا الهمّام فتقول -كما في “لسان العرب”- أهمّني الأمر: إذا أقلقك وحَزَنَك. وهَمَّه السُّقْمُ يَهُمُّه هَمًّا: أَذابَه وأَذْهَبَ لَحمه. والمُهِمَّاتُ من الأُمور: الشدائدُ المُحْرِقةُ. فالقارئ الهمّام هو الذي يكاد قلقُ الأسئلة يحرقه ويذيبه، فيفزع إلى الكتاب ليروي ظمأ عقله! وهو الذي يتعامل مع القراءة بجدّية بالغة، ولا يقرأ للترف أو ليُقال: فلان قارئ ومثقّف. بل يقرأ ليكسب من المعرفة ما يُعينه أولا على التقرّب إلى ربّه، ويقرأ ثانيًا ليمتلك من المعارف ما يُقيم به حياته، ويقرأ ثالثا لينفع أمّته وليساهم -ولو بجُهد متواضع- في بناء نهضتها، وفي إخراجها من الثلاثي الكارثي الذي يخيّم عليها: الضعفُ والتخلّفُ والتبعيّة، إلى الثلاثي المنشود: القوّة والتقدّم والريادة.

فهلّا سألت نفسك الآنَ أيّها القارئ: أيّ القرّاء أنت؟

(المصدر: “مدونات الجزيرة).

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M