الصيام: العادة القاتلة

01 مايو 2017 22:30
الصيام: العادة القاتلة

هوية بريس – حمزة المطلع

لقد دأب الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان على تقفي أثر هذا الشهر، واستقباله بحفاوة إيمانية بالغة   ويسعون من خلاله إلى إخضاع أنفسهم لعملية تحول كبيرة على مستوى النفس والجسد، فيكسرون عادة البحث عن اللذة ، ويكبحون جماح رغباتهم الدنية، فالصيام هو عملية تهذيب للنفس والجسد قصد تهيئتهما  للتواصل القلبي مع الله عز وجل والوقوف ببابه.

 وعامة المسلمين للأسف، يكونون على الموعد مع الشهر الكريم لكن  بمنطق مخالف تماما لما ذكرناه سلفا، منطق استهلاكي صرف، يخاطب فينا الجانب الحيواني فقط بل ويتعداه إلى محاولة إقبار كل ما هو روحاني في هذا الشهر المبارك.

الكل يستعد لرمضان، شركات الإنتاج وشركات الإعلانات، والإعلام العام والخاص، والشوارع والمحافل العامة وكل شيء يتآمر ضد هذا الصائم الذي ينبغي احتواءه وتحويله لدابة مستهلكة تمشي على بطنها.

فالإنسان في هذا الشهر وبفعل كل هذه المؤثرات يتحول إلى كائن مستهلك، لا يستطيع الصمود أمام إغراء السوق فيما يخص المنتجات “الرمضانية” فكل إشارة على قرب الشهر لا بد أن تكون مرفوقة بمنتج جديد وتخفيض جديد. هذا المنطق السوقي انغرز في عقيدتنا وسلوكنا ، وبتنا نستعد للصيام بشراء أطعمة من كل صنف ولون بل وتجد النساء يفاخرن ويتسابقن في إعداد موائد ملكية زاخرة، ينتهي أكثر من نصفها في القمامة، ليذهب الرجل للمسجد وهو يتجشأ في كل لحظة، ويؤدي الصلاة يتثاقل مفرط دون وعي أو استشعار لشاعرية لحظة الوقوف المهيبة أمام الله.

ثم أن الإعلام العربي لا يغفل أبدا عن هذا الجانب ويسعى لإرضاء جميع الأذواق ولسد جميع الثغرات ، فهناك برامج يومية خاصة بالمطبخ، تحث النساء على ملء الموائد بوصفات رمضانية خاصة وحصربة، وفي آخر اليوم برامج طبية تعلمك كيفية التخلص من وزنك الزائد. وفي هذه الحالة يصح جدا ان نسميه مرضان وليس رمضان على حد تعبير الدكتور علي أبو الحسن.

وشركات الإنتاج طبعا لا تهتم  بالبطون فقط بل حتى العقول ، وكما يقول جلال عامر “لقد تحول رمضان من ثلاثين يوما الى ثلاثين حلقة”، إنتاج إعلامي كثيف بمستويات مختلفة ويهم جميع الشرائح

والكارثة الكبرى أن المحتوى في غالب الأحيان يكون مائعا، لا علاقة له بروحانية الشهر، فإذا كان الله يكبل الشياطين ويرميها في البحر فالإعلام يصنع لنا شياطين جديدة تستهدف عقولنا وقلوبنا فننساق خلف اللذة، وحلقة بعد حلقة ، ثم فراغ بعد فراغ ولا ينتهي الشهر إلا وقد دخل الإنسان في دوامة من الحلقات المفرغة.

والإعلام ليس سوداويا لهذه الدرجة فمن الضروري ان يعطي للدين حقه، فبمناسبة الشهر الكريم لابد من تنظيم مسابقة في تجويد القرآن، وانهاء اليوم بابتهالات ربانية هادئة، وكـنه الهدوء الذي يسبق عاصفة الميوعة، وبعض الدروس هنا وهناك مع الأناشيد الدينية وهكذا ندخل في نمطية قاتلة تخاطب كل الزوايا الإنسانية لأنها تحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء لتنتج لنا بعدها كائنا مضطربا ومنتشيا.

ولا نستغرب أن هناك فئة مهمة من الناس ينقلب الوقت لديهم رأسا على عقب، فتجد الصائم منهم يقضي اليوم كله في النوم العميق، ويستفيق بشكل متأخر ليؤدي الصلوات مجتمعة ويستعد لوجبة الفطور الماراثونية والدسمة، ثم ينصرف  إلى المسجد ليصلي مثل كل الناس، وبعدها مباشرة يتحول إلى كائن ليلي يطارد الفتيات في الشارع ويقضي ليالي حمراء مع رفاق ورفيقات الدرب، أو يقضي الوقت في السهرات العمومية التي تنظمها الدولة وتحرص على تنظيمها في كل ليلة وفي كل مدينة،  ويظل هكذا حتى الصباح، فالمدن لا تنام في رمضان.

والمفروض في الصيام انه عملية تهدئة للنفس وطمأنة للروح والوجدان، لكننا نجد العكس تماما في واقعنا، ففي الخارج الأجواء مكهربة ومضطربة، والكل قلق ومتشنج ومتوتر والكل يرجع الحالة  العصبية والمتوترة إلى الصيام، امر غريب ان ننسب سلوكياتنا الشاذة الى الصوم، ولا نكتفي بردات الفعل الشاذة تلك بل يتعدى تعبيرنا عن غضبنا أحيانا إلى حمل السلاح والتهديد به وليست قليلة هي أخبار القتل التي نراها في التلفاز ونسمعها من خلال الراديو. وهي ظاهرة تسمى عندنا في المغرب بـ”الترمضينة”.

يتحول على إثرها الصائم إلى كائن عدواني يمكن أن يؤذي كل من يقترب منه، فهو يستطيع أن يقترف كل شيء إلا أن يفطر.

تحول الصيام إذا من عبادة شعائرية عظيمة إلى عادة قاتلة، تسمم جسد الإنسان وعقله، وتخدر روحه، وتصيره كائنا مفككا مبعثرا وهائما وترميه في هوة لا قرار لها.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M