النّظرية الملكاتية وإصلاح التّعليم بالمغرب

02 يناير 2022 19:46

هوية بريس – ذ.عمر خويا

تقديم:

  نحن نتفاءل خيرا بمصطلح (الملكات) لدلالة جذرها اللّغويّ على القوّة والتمكّن والصّحّة والحيازة، ونزداد تفاؤلا بنظرية الملكات لكونها نظريّا نابتة من بيئتنا ومرجعيّتنا الإسلامية، وأصيلة في تراثنا الثّريّ والمتنوّع، ولا بأس بعد ذلك أن نحسّنها ونجمّلها بما نستفيده من النّظريّات التّربوية الحديثة وإن اختلفت أصولها. ف (ملك) في اللّغة «الميم واللاموالكاف أصل صحيح يدل على قوّة في الشّيء وصحّة؛ يقال: أملكعجينه: قوّى عجنه وشدّه، وَمَلَّكْتُ الشَّيْءَ: قَوَّيْتُهُ []. ثم قيل مَلَكَالْإِنْسَانُ الشَّيْءَ يَمْلِكُهُ مَلْكًا، وَالِاسْمُ الْمِلْكُ لأنّ يده فيه قويّة صحيحة. فَالْمِلْكُ: مَا مُلِكَ من مَالٍ. وَالْمَلَكُ: الماء يكون مع المسافر، لأنه إذا كان معهملك أمره».

   وتلك الدّلالات اللغوية حاضرة في المعنى الاصطلاحي للملكة، يقول الجرجاني: «الملَكة هي صفة راسخة في النّفس، وتحقيقه أنّه تحصلللنّفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية،وتسمّى: حالة ما دامت سريعة الزّوال، فإذا تكرّرت ومارستها النّفسحتّى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزّوال فتصيرمَلَكَة،وبالقياس إلى ذلك الفعل: عادةً وخلقًا»، فممارسة الفعل الصّحيح حتّى يتمكّن في النّفس وتحوزه هو الذي يصيّره عادة وسجيّة، وهو يستلزم قوّة في الإرادة واستعدادا في البدن. والأفعال الصّحيحة الحسنة لها في النّفس أصول وقابلية واستعداد لذلك فهي تستريح بممارستها لانسجامها مع الفطرة. وإنّي أرى أن يسع مفهوم الملكة الأصلَ الفطريّ الغريزيّ كما يسع الفعل الرّاسخ في النّفس بالتّدريب، وهذا الكلام المنقول عن الجاحظ يدعم هذا المذهب، يقول في مسألة عنوانها: “تنوّع الملكات وقوّتها وضرورة ظهورها”: « قد زعم أناس أنّ كلّ إنسان فيه آلةلمرفق من المرافق، وأداة لمنفعة من المنافع، ولا بدّ لتلك الطّبيعة من حركةوإن أبطأت، ولا بدّ لذلك الكامن من ظهور، فإن أمكنه ذلك بعثه، وإلّاسرى إليه كما يسري السّمّ في البدن، ونمى كما ينمي العرق، كما أنّالبزور البرّيّة والحبّة الوحشيّة الكامنة في أرحام الأرضين، لا بدّ لها منحركة عند زمان الحركة، ومن التّفتّق والانتشار في إبّان الانتشار[]ولذلك صار طلب الحساب أخفّ على بعضهم، وطلب الطّبّ أحبّ إلىبعضهم. وكذلك النّزاع إلى الهندسة، وشغف أهل النّجوم بالنّجوم. وكذلكأيضا ربّما تحرّك له بعد الكبرة، وصرف رغبته إليه بعد الكهولة، على قدرقوّة العرق في بدنه، وعلى قدر الشّواغل له وما يعترض عليه، فتجد واحدايلهج بطلب الغناء واللحون، وآخر يلهج بشهوة القتال، حتى يكتتب معالجند، وآخر يختار أن يكون ورّاقا، وآخر يختار طلب الملك، وتجدحرصهم على قدر العلل الباطنة المحرّكة لهم، ثمّ لا تدري كيف عرضلهذا هذا السّبب دون الآخر إلّا بجملة من القول، ولا تجد المختار لبعضهذه الصناعات على بعض يعلم لم اختار ذلك في جملة ولا تفسير، إذكان لم يجر منه على عرق ولا اختاره على إرث ».  والأمر سيّان سواء كانت الملكة طبعا يكتسب بالمجاهدة والمكابدة وتدريب النّفس من أجل التّحليق بها في سماء الفعل والإنجاز والإبداع، أو كانت في أصلها استعدادا لا تخلو منه كلّ نفس بشرية سويّة وإن اختلفت مشاربه، لكنّه يبرز بشكل أو بآخر ليعلن اختلاف الطّبائع وتعدّد المواهب وتنوّع الميولات؛ فالمكتسب فرع والغريزيّ جذر وأصل، والأوّل يطبعه التّنوّع والتّعدّد والتّكامل، والثّاني موسوم بالوحدة والتّشابه لأنّه استعداد فطري. وتأتي النّظرية الملكاتية لتجمع بينهما من أجل أن تبني في المتعلّم نفسا لا تبغي عن التّجديد والإسهام في الإقلاع الحضاري بديلا.

مظاهر التّردّي في واقعنا التعليمي المغربي:

   لا يخفى على أحد ما لقطاع التّربية والتّعليم من أثر في نهضة الأمم وركودها؛ فهو المعين الذي يمدّ الأنظمة بما يلزمها من أطر في تدبير أمورها، يقول علاّل الفاسي رحمه الله: « وأمّا طلب العلم لأجل العلم كما يريده كثير من رجال التّربية فهو مقصد صحيح؛ لأنّ العلم يدركه الشّيطان كما يدركه الملك، ويكون آلة لفعل الخير كما يكون آلة لفعل الشّرّ» وهو المفتاح الذي تُزال به أقفال العقول والقلوب فيتمهّد الطريق للرّقيّ وسيادة الأمم، وهو المؤشّر الذي يُكشف به مدى تحضّر الشّعوب وتخلّفها، ومتى امتلكت أمّة زمامه سهُل عليها بناء مجتمع المعرفة الذي به يتيسّر التّدبير الجيّد لما وراءه من قطاعات، فتستقلّ الدّولة بقرارها ويُسمع صوتها بين الدّول والشّعوب. والمغرب واحد من شعوب العالم النّامي، تتقاذفه أمواج العالم المتغيّر فيحسن حاله أحيانا قليلة حيث يرتفع مؤشّر النموّ لديه، وأحيانا كثيرة تقذفه في أتون الأزمات فيتخبّط في البحث عن حلّ لها هنا وهناك لأنّه تابع في كثير من شؤونه لغيره. وتعدّ منظومة التّربية والتّعليم اليوم التجلّي الأبرز لهشاشة البنية التي يسير عليها قطار التّنمية في البلد؛ فالقطاع غارق في لجج الأزمات منذ الاستقلال، والمدبّرون لشؤونه ما فتئوا يضعون بين أيدينا ما حضرهم وحضّروه من وصفات ولا يجدون لمرضه دواء، حتّى إنّه غدا حقل تجارب بامتياز لكثرتها وتقارب زمانها. وهذا واقع مجمع عليه، تشهد به التّقويمات التي أجريت له من المتخصّصين وغير المتخصّصين من داخل البلد ومن خارجه.

   لقد رامت السّياسات المتعاقبة في المغرب على تقويم نظامنا التّعليميّ ووضع أسس لإصلاح طال انتظاره؛ أُسّست لجن ومجالس وطنية، وعُقدت ندوات ومناظرات على أعلى المستويات، وانتُدب من يظنّ أنّهم أكفاء في التّنظير، منذ إعلان استقلال المغرب سنة 1956م إلى اليوم، لكنّ الفشل كان حليف كلّ المبادرات، والإحباط كان نصيب كلّ المغاربة، فشكّل ملفّ التّعليم عقدة يتوجّس من تسلّمه المسؤولون والأحزاب. ولنا أن نسرد باقتضاب المحطّات الكبرى لإصلاح المنظومة منذ الاستقلال إلى اليوم، وغايتنا منه هو ذكر أهمّ ما كانت تبتغيه كلّ محطّة ورصد بعض ما وقع فيها من اختلال، لعلّنا بذلك نكشف بعض جذور الأزمة، ونمهّد الطّريق للقول بجدوى توفير الشّروط المناسبة لتنزيل النّظرية الملكاتية بديلا لتقويم هذا الواقع التّربويّ المثقل بالأزمات والإخفاقات.

   وقبل الحديث عن هذه المحطّات نستحضر شيئا ممّا يميّز خرّيجي التّعليم المغربي إبّان الاستعمار، حيث أفرز لنا كما يقول الجابري نمطين من أبناء الوطن الواحد؛ الأوّل هو النّخبة العصرية التي تعلّمت في المدارس العصرية التي أنشأها الاستعمار، الوطنية منها والأوروبية، وتميّزت بانبهارها بالنّموذج الغربيّ في الحياة وميولها إليه، لكن يكبّلها التّناقض الصّارخ المتجلّي في هذا النّموذج، حيث الحضارة والرّقيّ من جهة، والاستعمار ونهب خيرات الشّعوب واستعباد أهلها من جهة أخرى. فيدفعها هذا إلى التّفكّر مليّا قبل الإقبال عليه، ثمّ إعادة النّظر في الموروث الإسلامي بما فيه المغربي، هناك تبدّت حضارة مزدهرة ذات يوم. والنّمط الثّاني هم خرّيجو التّعليم التّقليدي ذي الصّبغة المغربية العربية الإسلامية، والقائم على الأساليب القديمة في التّدريس لأنّه مشدود إلى التّراث، لكنّه لم يكن مفصولا كلّيا عن حاضره الموسوم بالاحتلال والتّبعية للمحتلّ، ولا منقطع التفكير في مستقبله حيث الحفاظ على مقومّاته الوطنية يمثّل تحدّيا كبيرا. ويمثّل هذا التّباين في الثّقافة والفكر بين النّمطين سبب الخلاف والتّصادم بينهما منذ الاستقلال إلى اليوم، وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة هيكلة القطاعات الحيوية في الدّولة والعمل على تطويرها، ومنها قطاع التّعليم.

   لقد تولّت النّخبة العصرية التي تربّت في أحضان الثّقافة الفرنسية دفّة القيادة. وحرصا منها على ضمان وحدة الدّولة والمجتمع، ارتأت أن تعتمد مبدأ التّوفيق بين مبادئها الميّالة إلى التأسّي بالنّموذج الغربي وبين مبادئ النّمط التّقليدي المتمسّكة بمقوّمات الوطن وجذوره. في هذا السّياق برزت المبادئ الأربع (التّعميم التّوحيد التّعريب مغربة الأطر) وهي اختيارات أقرّتها ” اللّجنة الرّسمية لإصلاح التّعليم” (1957م) في نهجها لإصلاح وضع أملته الأوضاع الاجتماعية في مغرب ما بعد الاستقلال، حيث كان إقبال جميع فئات المجتمع على تعليم أبنائها المحرومين زمن الاحتلال كبيرا، بالعمل على تمكينهم من العلم الذي هو وسيلة التّرقّي والاندماج في المجتمع الحديث. لكنّ أجرأة تلك المبادئ بالشّكل السّليم لم تحدث لأنّ إقرارها لم يكن وليد تخطيط محكم وعميق في صياغتها وكيفية أجرأتها. وبقيت المبادئ الأخرى التي صاغتها اللّجن المتوالية، كالمجّانية والتّعميم، عرجاء من حيث التّنزيل وفقيرة من حيث النّتائج. وتوالت المعالجات الجزئية للأوضاع التّعليمية لكنّها لم تخرج كثيرا عن النّهج المسطّر ومبادئه منذ فجر الاستقلال، إلى أن آذن واقع تراكم أزمات القطاع، فضلا عن السّياق المجتمعي (السّخط الشّعبي من الوضع التّعليمي المزري) والدّولي (تقرير البنك الدّولي سنة 1995م عن وضعية التّعليم بالمغرب)، بانبثاق لجنة أوكلت إليها مهمّة التّدقيق في تشخيص الوضع القائم والاشتغال على مشروع مندمج للإصلاح، يكون عبارة عن ميثاق وطني يضبط العملية ويقدّم حلولا عملية لاختلالاتها.

   ظهر “الميثاق الوطني للتّربية والتّكوين” بصياغة لجنة خاصّة تشكّلت بقرار ملكي سنة 1999م، وتمخّضت جهودها عن مشروع إصلاحي في مجال التّربية والتّكوين، صيغ في وثيقة أساسية هي “الميثاق الوطني للتّربية والتّكوين” ووثيقة مفصّلة في كيفية الأجرأة هي “الكتاب الأبيض”. وحُدّدت لتنزيل بنوده فترة زمنية تمتدّ من 2000م إلى 2010م. وكانت غايته بناء مدرسة مغربية ناجحة، يتكوّن فيها المتعلّم متشبّعا بمبادئ عقيدته الإسلامية ووفيّا لثوابته الوطنية، ومندمجا في عالم يتسارع تطوّره ومسهما في رقيّ بلده. ولم تمهل تقارير “المجلس الأعلى للتّعليم” الوعود الحالمة للميثاق كي تتحقّق، إذ خرج في تقييمه للإصلاح ما بين سنتي 2000 و2013م بخلاصة مفادها أنّه « بالرّغم من التّقدّم الحاصل الذي يعبّر عن إرادة تطبيق توصيات الميثاق، مازالت هناك اختلالات قائمة في عملية التّطبيق؛ فإشكالية التّعليم الإلزامي، والنّسبة المرتفعة للهدر المدرسي، وضعف مكتسبات التّلاميذ، والنّقص في تكوين المدرّسين، والولوج المحدود للتّعلّم بواسطة التّكنولوجيا الجديدة، وتعثّر الحكامة، وضعف مردودية البحث، تشكّل جميعها أساس قصور نظام التّربية والتّكوين ». وتعدّ هذه الاختلالات شاهدا على فشل المشروع الإصلاحي لرأب الصّدوع المتزايدة في المنظومة التّربوية، ودافعا لبلورة مخطّط صيغ على عجل من أجل تنفيذه على عجل درءا لما يخنق القطاع من كساد وسوء تدبير.

   سارع المتنفّذون في الشّأن التّعليمي إلى صياغة “البرنامج الاستعجالي” ووعدوا باستكمال تنزيل توصياته في غضون أربع سنوات (2009 2012م)، حيث يكون العمل فيها منصبّا على تسريع وتيرة تنزيل الميثاق الوطني للتّربية والتّكوين وتحقيق أهدافه الموعود بها إبّان العشرية المشرفة على الانتهاء (2000 2010م)، لكن قبل أن يحين الموعد النّهائي بشّر المتتبّعون للشّأن التّعليميّ بالفشل، فكانت المبادرة إلى إخراج هذا المخطّط بناء على تقرير تقييمي للوضع، أصدره المجلس الأعلى للتّعليم سنة 2008م. وسجل المجلس الأعلى للحسابات عدّة اختلالات في تقييمه للبرنامج، منها: قصر المدة المخصّصة للتّنفيذ بشكل مخلّ، وحضور الطّابع الارتجالي في التّدبير (نموذج: التّخلّي عن بيداغوجيا الإدماج بعد إقرارها وصرف ميزانية مهمّة لاعتمادها) وغياب الفعّالية والحكامة خاصة في تدبير الموارد المالية المهمة المرصودة لهذا المخطّط، وهذا ما يعكس ضبابية في الرؤية عند التّنظير ونقصا حادّافي التّنسيق بين مكوّناته (الوزارة الأكاديميات الجهوية المديريات..) لغياب المعطيات ممّا أدّى إلى غياب الجرأة على اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وأثار هذا الوضع المقلق الجهات المسؤولة حيث وصف الملك في خطابه (20 غشت 2013م) حالة التّعليم بالمغرب بالأكثر سوءا ممّا كانت عليه قبل عشرين سنة، وأكّدت الهيئة الوطنية للتّقييم لدى المجلس الأعلى للتّربية والتّكوين والبحث العلمي في تقريرها سنة 2014م عن تطبيق “الميثاق الوطني للتّربية والتّكوين” وجود اختلالات مزمنة تعني فشل هذا المشروع الإصلاحي الكبير؛ على إثره انبرى المختصّون لتقديم وصفة جديدة للإصلاح التّربوي لعلّها تشفي الغليل وتعيد للقطاع بريقه المفقود منذ عقود.

   جاءت “الرّؤية الاستراتيجية (2015 2030)” تحمل شعار “من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء” وتأمل تجاوز النّواقص التي شابت المشاريع الإصلاحية التي سبقتها؛ فسطّرت لنفسها مبادئ أبرزها: احترام الثّوابت الدينية والوطنية، والانفتاح الإيجابي على الحضارات الأخرى بترسيخ قيم الحوار والتّسامح والالتزام بحقوق الإنسان، وجعلت المدرسة قاطرة تحقيق هذه المبادئ إذ تقوم على تملّك ناصية الكفايات اللّغوية والمعرفية (بما فيها الرّقمية) والتّواصلية (القدرة على الاندماج في الفعّال في المجتمع). والنّاظر المتفحّص في تفاصيل هذا المشروع يجد تشابها كبيرا بينه وبين ما سبقه من مشاريع حصل الفشل في تنزيلها، فهي رؤى كلّها برّاقة لكنّها حالمة، لأنّها أوّلا تبلورت بشكل أحادي من قبل نخب ليس بينها وبين القاعدة الشّعبية وحاجاتها الحقيقية كبير ارتباط، ثانيا أنّ تطبيقها يستلزم إمكانات مالية وبشرية وتدبيرية تفوق ما هو موجود في الواقع ويصعب توفيره في المستقبل في ظل هذا الوضع. ثالثا وأخيرا أنّ الجهات الوصيّة لا تملك الجرأة في اتّخاذ القرار المناسب في الزّمن المناسب، لأنّ هذا المعطى حاضر منذ فجر الاستقلال حيث يخفي هذا العجز المتواصل صراعا داخليا بين النّخب المسيّرة العصرية والأصيلة، وبالتّالي غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح، لأنّه أصبح في أيديهم لعبة تسخّر التّعليم لأجل مصالحهم الاقتصادية فقط، أمّا ثقافة المجتمع ورقيّه فهو الهاجس الذي يُخاف حصوله لأنّه سيعيد تشكيل بنية الدّولة على أساس العدالة الاجتماعية.  

    والغريب في مبادرات الإصلاح التي توالت على قطاع التّربية والتّكوين والتّعليم بالمغرب أنّها تُستجدى في جوهرها من الآخر من غير بذل الجهد الكافي من أجل تكييفها وملاءمتها مع الواقع، فتأتي بالنّصّ وتحاول تنزيله دون أن تفقه الواقع وتحدّياته، لذلك تُخرِّج مدرستنا أجيالا ضعيفة التّكوين، مغتربة وقابلة للتّبعية للغير، تفتقد في ذواتها قيما تحميها وتبني فيها الثّقة بأنّ لها مقوّمات الرّقيّ يمكن استنباتها من تربة البلد وتراثه؛ يقول علاّل الفاسي معبّرا عن هذه الفكرة: «إنّ قضيّة التّعليم قضيّة حياة أو موت؛ لأنّ كلّ ما نريده للأمّة من رفاهية وأمن وحرّية لا يمكن أن يتمّ إلاّ إذا أعدّته لنفسها بنفسها». وأحسب أنّ التّنظير للنّظرية الملكاتية بهذه الطريقة يمثّل لبنة في هذا البناء المرجوّ، والذي نعدّه إذا ما استكمل وتوافرت الإرادة السّياسية لتطبيقه هو المنقذ من الفشل المتكرّر لتجربة الإصلاح في المغرب.

بيداغوجيا الملكات مدخلا لإصلاح التعليم بالمغرب:

    أعيى اعتماد النّظريّات التّربوية النابتة من الغرب النّظام التّعليمي المغربيّ بما أحدث تنزيلها من فشل متلاحق ولا منتهي إلى اليوم، وتعدّت أسبابه إلى ذاتية متعلّقة بالنّظريّة المعتمدة لغربتها وضعف الاشتغال على تكييفها مع الواقع الجديد، أو بذات المعنيّ بالتّنزيل من أعلى الهرم التّربويّ إلى قاعدته (الارتجالية، التّسرّع سوء التّخطيط، ضعف التّدبير والتّكوين والتّنسيق، ضعف الوازع بسبب الفشل في التّدبير..)، وأسباب موضوعية راجعة إلى الاختلالات الكبيرة المعشّشة في القطاع (الموارد البشرية ونقص تكوينها، والموارد المالية وسوء تدبيرها، والبنية المادية وضعف التّخطيط لها..)، وبين النوعين تداخل كبير؛ لهذا بدأت الدّعوات تتعالى للعودة إلى التّراث الإسلامي لصياغة نظريّات منه، لأنّه تراثنا وماضينا الذي نستطيع من خلال تجديد النّظر فيه وفق منطق الواقع الذي نعيشه، فنكتشف الأصول التي أقام عليها القدماء تربيتهم وتعليمهم الذي كان رائدا في زمانهم، فنشكّلها في قالب جديد يراعي ما استجدّ في حقل التّربية من معطيات وطرائق. فالإنتاجات والتّجارب التّربوية التّعليمية في تراثنا تعتمد الوحي مرجعا لها وإطارا، فتؤسّس الفعل التّربويّ على الإخلاص لله تعالى لأنّه جزء من وظيفة الإنسان في الوجود وهي العبادة، وتحلّيه بحسن الخلق وتدفعه دفعا للاجتهاد والإبداع؛ وهذه قيم من شأنها أن تضمن لأيّ فعل مثله ثمارا طيّبة ينتفع بها الجميع.

   لننظر مثلا إلى التّجربة التّربوية الأصيلة بالمدرسة النّظامية ببغداد في القرن الخامس الهجري، إبّان حكم السّلاجقة زمن الخليفة العباسيأبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله، والتي خطّط لها وسهر على حسن تدبير أمورها نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطّوسي (ت485)، الذي «كان بابه مجمع الفضلاء وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيرا، ينقّب عن أحوال كلّ منهم (المدرّسين) فمن تفرّس فيه صلاحية الولاية ولاّه.. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتّب له ما يكفيه حتّى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربّما سيّره إلى إقليم خال من العلم ليحلّي به عاطله ويحيي به حقّه ويميت به باطله»، والذي رام من خلال إنشائها تحقيق الرّقيّ العلمي والثّقافي بالدّولة، ثمّ تثبيت المذهب السّنّي الأشعريّ عقيدة والشّافعيّ فقها، ومحاربة الفكر الشّيعي والباطني الذي تجذّر زمن حكم البويهيين لبغداد. واختار للمدرسة مديرا هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشّيرازي (ت 473) الذي قال عنه الذّهبي:«صنّف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهدا، ورعا، متواضعا، ظريفا، كريما، جوادا، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة ».

   وكان نظام التّدريس بها قائما على التّدرّج وتعدّد الطّرائق كما حكى عنه صاحب كتاب “نظام الملك كبير الوزراء في الأمّة الإسلامية” حيث قال: « وكان تسلسل المنهج وتطبيقه تربويّا سليما إلى حدّ كبير، فقد دلّتنا التّراتيب التّعلمية التي وصلتنا على أنّ مناهج الدّروس التي يسير بموجبها الطّلبة تتدرّج من السّهل إلى الصّعب، ومن البسيط إلى المركّب؛ إذ تبتدئ بالعلوم النّقلية التي تعتمد على اللّسان ومقوّماته، ثمّ تنتقل بالطّالب إلى العلوم العقلية التي تعتمد على التّفكير». ولنا بعد هذا العرض أن نحلّل سلامة هذا المنهج بتوظيف مصطلحات تربوية حديثة فنقول بأنّه لن يتأتّى تصنيف برامج المواد المدرّسة إلى سهلة وصعبة إلاّ إذا حصل الاندماج العمودي، والقائم على حسن هيكلة الأسلاك التّعليمية بحيث يمهر الطّالب في الضّروري من العلوم قبل أن يتخصّص في مجال معين (اللّغة الفقه أصول الفقه العقيدة الكلام..) ، وكذا الاندماج الأفقي المتمثّل في تنظيم الموادّ الدّراسية وتحقيق تناسقها بحسن توزيعها على سنوات الدّراسة عموما وعلى كلّ سنة دراسية بعد ذلك، بذلك يتحقّق التّدرّج في بناء المفاهيم وفي استيعاب الموادّ المعرفية وتكاملها. أمّا الاندماج المنهاجي فالمراد به عند محمّد الدّريج هو «مراعاة العلاقة التّفاعلية بين ما تقدّمه المدرسة من برامج ومحتويات وما يسعى المجتمع إلى تحقيقه من أهداف وغايات وملكات، باعتبار المدرسة محرّكا أساسيا للتّقدّم الاجتماعي وعاملا رئيسا من عوامل التّنمية»، وهذه العلاقة قائمة بين الطّرفين في المدرسة النّظامية، والشّاهد عليه هو البحث في تراجم المتخرّجين من المدرسة حتّى يُعرف مآلهم بعد تخرّجهم، ويكفينا دليلا ما قاله المدير الأشهر للمدرسة أبو إسحاق الشّيرازي: «ما دخلت قرية أو بلدة في خراسان إلاّ وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو صاحبي».

   أمّا الأصالة فهي حاضرة في كلّ أمور المدرسة حيث المبدع لها وزير تملأه الغيرة على دينه ووطنه وعقيدته التي هي عقيدة عامّة الشّعب، وأساتذته من خيرة علماء الأمّة، يشهد بكفاءتهم العلمية والخلقية واللّغوية من هم أعلى منهم مرتبة في العلم؛ فهذا أبو حامد الغزالي عرضه الوزير على الامتحان ف«ناظر الأقران بحضرته، فظهر اسمه وشاع امره، فولاّه النظام تدريس مدرسته ببغداد، ورسم له بالمصير إليها، فقدمها وأعجب الكلّ مناظرته»، ثمّ بعد ذلك يدعم الطّلاّب كفاءة المدرّس أو يهدمونها بحضورهم للدّرس، لأنّ الطّلبة أحرار في اختيار أساتذتهم في المادّة المدروسة إذا تعدّدوا، ولأنّ من الحضور أحيانا أساتذة إلى جانب الطّلاّب إذ يُفسح المجال لمن أراد شهود الدّرس، ومن خلا من الكفاءة انصرفوا عنه، فيصبح الباب مشرعا لإقالته. فضلا عن ذلك فإنّ غاية المدرسة تنبئ عن أصالة القصد وشرفه وهو إصلاح ما أفسده انتشار المذهب الشّيعي زمن البويهيين، خصوصا المذهب الباطني الهدّام، وكذا تجديد الحياة في الحركة العلمية والثّقافية ببغداد وما سواها من الحواضر الإسلامية التي أنشئت فيها فروع المدرسة. وحتى بنية هيئة التّدريس بدت فيها معالم الاستقلال في التّدبير حيث تحقّقت من نظامها الثّمار المرجوّة، فهي مرتّبة من الأعلى إلى الأدنى كما يلي:

المدرّس: وهو المقدّم في التّدريس يُعيّن بالطّريقة السّالفة الذّكر، ويبقى ملازما لمنصبه إن شاء إلى وفاته ما دامت قدمه ثابتة في العطاء ولم تزلّ، وهذا ما حدث لأبي إسحاق الشّيرازي والكيا الهرّاسي مثلا.

النّائب: وهو الطّالب المكلّف بالتّدريس نائبا عن أستاذه إذا غاب أو عرضه عارض، ولا بدّ للنّائب أن يكون مؤهّلا.  

المعيد: ووظيفته مساعدة المتعلّمين على استيعابها بإعادة الدّروس ومناقشتها معهم، ويختاره الأستاذ من نجباء الطّلبة واسعي الاطّلاع، وقد يكون له معيدون كثيرون بحسب الحاجة.

الصّاحب: وهو الطّالب الذي أكمل دروسه ولازم أستاذه، وقد يحظى بفرصة اختياره معيدا أو ناسخا لمؤلّفات شيخه تحت إشرافه.

ومن شأن هذا التّنوّع والتراتبية أن توقظ الملكات عند المتعلّمين وتصقلها، وتذكي فيهم روح المنافسة لنيل تلك الحظوة العلية.

   أمّا أكثر المعالم دلالة على أصالة المنهاج التّعليمي في المدرسة فهو أصالة الكتاب المدرسي أو البرنامج؛ فالكتاب المعتمد هو مجموع المحاضرات التي يلقيها الأستاذ العالم على طلبته، والأستاذ في الغالب الأعمّ هو شخصية معروفة بالتّأليف، لأنّ الإنتاج العلميّ هو من المعايير المعتمدة في اختيار المدرّس في عهد الوزير نظام الملك، وكان الطّلبة ينسخون ما يتلقّون، ويتبادلون النّسخ المصحّحة أو المجازة عن مؤلّفها، ثمّ يتناولونها بالمناقشة والمدارسة والتّداول، وكان من عادة الأستاذ أنّه إذا أتمّ كتابا دعا أصحابه فاحتفلوا به، من ذلك احتفال الجويني بتصنيف كتاب “نهاية المطلب في دراسة المذهب” الذي درّسه للخواصّ من تلاميذه (المتقدّمون منهم) وعقد مجلسا حضره كبار الأئمّة لأجل ختمه.

   لهذا كلّه أرى أنّ إيقاظ الحافز لحصول الملكات، باعتبار جذرها فطريا وثمارها المتنوّعة مكتسبة، يكون باعتماد بيداغوجيا الملكات. وقد ارتضيتُها مدخلا لإصلاح تعليمنا المثخن بجروح الفشل المتلاحق رغم ما تحقّق من مكتسبات وأُنفق من جهد ومال في سبيل إنقاذه؛ لأنّ الجديد في هذه النّظريّة هو الدّعوة إلى العودة بصدق إلى تراثنا الغنيّ، حيث تكمن هوّيتنا الحضارية واستقلال شخصيتنا. ولا مناص من العودة الواعية إليه حيث ندرسه وننخُله لنستفيد منه الثّوابت التي قام عليها طلب العلم ومكابدته، ولا بأس بعد ذلك أن نصطفي من النّظريّات التربويّة الحديثة ما يصلح فنكيّفه مع واقعنا الجديد وما نرجوه. ويلزمنا بعد ذلك أن نحسن توظيف ما استجدّ من وسائل مادّية تختصر علينا الكثير من الجهد في التّربية والتّكوين وتجيدهما. بهذا نأخذ بنظرية الدّكتور محمّد الدريج في الجملة، ونعتبر ما نظّر له مدخلا لإصلاح ما عجزت سنون ما بعد الاستقلال أن تقوّمه، ويبقى تفصيله لما دعا إليه أرضيةً خصبة للنّقاش العامّ والموسّع، حيث يُنظر في أمر الأجرأة وطريقتها من قبل مختصّين ناصحين أمناء وغيورين على المصلحة العامّة ومقدّمين لها، فيبذلون الوسع غير آبهين بصخب دعاة القطيعة مع التّراث والتّاريخ، المستميتين في الدّفاع عن التقاط كل ساقطة من الغرب، الحريصين على قراءة واقعنا المتميّز بمنظاره، الذين يثورون كلّما دعا داع للعودة إلى التّراث ومراجعته، يرمونه بصفات تؤلّب الخاصّة عليه فضلا عن العامّة، ويصدّونه عن أن تُسمع دعواته، كي يخلو لهم الجوّ فيبدعوا أثوابا جديدة لفشل قديم في تطبيق غير راشد لما هو مستورد من الغير. أمّا سرائرهم من وراء الإصرار على إفشال هذا القطاع الحيويّ في نهوض الأمم فالله تعالى بها عليم. ويبقى أيضا البحث في جدوى هذه النّظرية في حاجة إلى مزيد من الجهود الفردية فضلا عن الجماعية والمؤسّساتية، حتّى تنضج وتقوم على أصولها، فلا نقع في الارتجال وسوء التّخطيط وقصر النّظر كما عهدنا الوقوع فيه.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M