تقرير اشماعو مؤسس جريدة الوداد في سلا.. حزب الخلافة (ج.الأخير)

08 أغسطس 2013 01:48

هوية بريس – ذ. إدريس كرم

في آخر 1943 كنت أوقفت جريدة “الوداد” ورفضت كل أمر عسكري بالعودة إلى إصدارها، واحتملت تضحيتي فيها منذ ذلك العهد إلى الآن، بقيت طيلة تسع سنين، أكتوي بنار حرب دروس بيني وبين الاستعمار، فهو يضرب علي الحصار وعلى أصحابي، ومن يأخذ وجهتي من الفرنسيين أيضا، فلما شعر بصمودنا في وجهه وتوفرنا على الوسائل والبراهين والحجج، وتأسيسنا لحزب الخلافة، وما يرمي إليه من وحدة الشمال الإفريقي، وتحضير برنامج عملي معقول ينبني على واقعية حالة فقرنا في الإطارات والاختصاصيين، وما وضعنا لذلك من مراحل.

أقول فما شعر حتى قام بتدبير مؤامرة، عجيبة غريبة، لم تصدقها عقولنا، لو لم نشاهد أحد رجالنا ضحيتها يطرد من القصر، وهو المنتصر الكتاني، وكان ذلك في سنة 1954 وامتد الكفاح بيننا وبين الاستعمار في الداخل والخارج، حتى قبلنا نصيحة محمود عزام المصري سنة 1950، فغيرنا اسم حزب الخلافة، إلى الحزب الاشتراكي الإسلامي المغربي.

 وكان وجه تسميتنا الجديدة، هو ما لاح لنا من رسوخ قدم الاستعمار، ولو مع تغيير الوضعية التي تطلبها الحركتان السلبية والإيجابية، لا لأن الأمة الخالية من الإطارات والفنيين والاختصاصيين، ستبقى ضحية الاستعمار سنين عديدة، لا لاستغلال رؤوس أمواله ورجاله فحسب، بل حتى الأمة المتقدمة أكثر، ستبقى ضحية الصناعات الثقيلة التي تقتسم العالم، لذلك اعتزمنا أن نجتث أقدامه من أسفل، باشتراكية إسلامية، نمد فيها اليد مباشرة إلى الشعب الفرنسي، بلا واسطة أصحاب رؤوس الأموال، ولا تدخلاتهم.

وعندما أسسنا الحزب الاشتراكي الإسلامي المغربي، ولاحت لنا طريق العمل واضحة، اعتزمت إعادة إصدار جريدة “الوداد” وتعرضت مرة أخرى لمعاكسة الإدارة، وقد قدمت إلى قاضي البحث، مع السيد عبد الرحيم بوعبيد في آن واحد.

ابتدأ نشاطي السياسي سنة 1950 بعدما خرجت من ذلك الحصار المضروب علي طيلة تسع سنين، كنت خلالها ضحية الاستعمار في شتى الميادين، دون أن أستطيع المقاومة.

 إن جميع من عرفت فيهم الوفاء، لم يستطيعوا أن يضعوا أنفسهم في خدمة دين- على الأقل – لا تصلهم به صلة، فالإسلام عندهم – على الأقل- دين كجميع الأديان لا دخل له في الدنيا، وشخصية واحدة ظلت لي وفية ولجميع المغاربة على السواء -لا أسميها- هي التي وجهت لي خصيصا أحد تلاميذها المعجبين بها، وهو ضابط برتبة كولونيل، جاء يبحث عني، وينصب نفسه لخدمتي، سواء في المغرب أو في فرنسا، إني آسف، لقد ذهب مغاضبا هو ورفيقه الضابط برتبة كمكندار، كما فعل شيخهما من قبل، ذهبا -دون شيخهما بعد فشلهما- إلى الهند الصينية حيث لقيا  أجلهما.

 إني أعرف الآن غالب الخيوط التي يحيكها الاستعمار، لقد اقتنع المارشال “جوان” بأن جلالة السلطان محمد بن يوسف هو الكل في الكل، وأن معه لا مع غيره أيا كان تحل المشاكل، كان ذلك قبل 18 نونبر بقليل، وقد وزعت المناشير السافلة للتنقيص وصرف الناس عن الاحتفال بعيد العرش.

إن الكولونيل  يتعجب من تعجب المارشال، الذي قام وقعد بما يجب من الإجلال لجلالة الملك، بمناسبة هذا اليوم، فإذا بجلالة الملك، يعجب من التناقض الواقع بين نظهر المارشال، وبين ما هو قائم من المناشير، والدعايات، وسخرت من سذاجة الكولونيل، ومن حماسته للأمر الذي أعطي له، بمتابعة الفاعلين في الوقت الحالي، وأشفقت في نفس الوقت على الكولونيل، الذي سار في طريق لا رجعة له منه، كما سار عليه الآخرون من قبل، إن الذين يندفعون بسرعة يتخطون في الحين.

 لكن هناك شخصية طالما شبهتها بالمرحوم سعيد حجي خلقا وخلقا، استطاع أن يصمد وإن في زاوية، ويتفهم الأمور عن كثب، جعلته عضدي الأيمن في هذه المعركة الهائلة، إلا أن فكرة الحزب الاشتراكي -مع حرصه الشديد على نجاحه فيها- بقيت بعيدة عن وجهة الإدارة، فأي فرق بين فكرتنا وفكرة المعارضة السلبية؟ إنهم الآن يختلفون عن العهد السابق -عهد الاعتراف بالاستقلال- مع الذين لم يضربوهم من الخلف.

إن “فالا” ومن وراءه أسفروا عن وجوههم، واختطوا خطتهم، فهو لا يقبل أية مهاودة، إنه يقول لا مشكلة في الغرب، إن لدينا الكوم والسنغال. فمن للحزب الاشتراكي الإسلامي المغربي؟

إن شبيه سعيد صاحب الزاوية يفعل كثيرا ويتكلم قليلا، لقد اقتنع بعد تلك الليالي الطويلة التي يسفر صباحها ولا ينتهي حديثها، قد عرفته طريق الحق، فهو يكثر من الرخص إلى باريس، لقد تخلا “فالا” عن متابعة جريدة “الوداد” ومتابعتي في النشرات التي وزعتها، كما تخلى عن متابعة عبد الرحيم بوعبيد، فمن أين له بهذه الرحمة؟


 إن أحد أعوان “فالا” يتوسل في الاتصال بي  من طريق أحد المغاربة، لم تجمعني به صلة، إنه مغامر معروف يشتكي غبنا وظلما من الإدارة، وهو يرجو إنصافا، إن الملايين التي ستعوض له هي رهن إشارة مشروع “الوداد”.

   إن عون “فالا” بعرض عروضا سياسية هائلة دون تحفظ، إن جلالة الملك هو الذي سيؤلف حكومة مغربية -لا مخزنا- تتولى المفاوضة، إن العيون تمتد إلى اشخاص لا شأن لهم، إنني أصبحت الآن لا أمثل إلا نفسي، إن الحزب الاشتراكي على الرف جانبا، لأن الشخصيات الجديدة لا تريد أن تكون متحزبة.

  إن البرنامج الجديد يتلخص في تأسيس مشروع جريدة يومية هائلة، تكون للجميع منبرا حرا، هدفها الوحيد، السير وراء جلالة محمد بن يوسف، وبذلك أمضي الاتفاق، ليفرغ فيما بعد في شكله القانوني.

    لقد عرفت من طريقي الخاصة -صدفة- وأنا بوجدة في زيارة مجاملة لـ”برونيل” رئيس ناحيتها، أن تدبيرا هائلا يحضر في  الخفاء، إنه على كل حال مشروع شخصي، ولكل وجهته، لقد أنهيت الحديث مع “برنيل” على أن لا يتعرض أحدنا لصاحبه، وبرهانا على ذلك شاركت بنفسي، ومعي أصحابي من الحزب الاشتراكي بوجدة، في الحفلة الأولى التي أقيمت لحزب الشعب، المؤسس بفاس بزعامة “الزمراني”.

    إن الذين يعملون في الخفاء بفاس، يعولون على جرأة “برونيل” وبهلوانيته، إنه على كل حال يستطيع أن ينفع، بقدر ما يستطيع أن يضر.

  أصبحت أصدر جريدة “الوداد” بطنجة مرة في الأسبوع، في انتظار إصدارها يوميا من الرباط، إنني في تجربة عسيرة، إن خطتي لم ترض الجميع على ما يظهر، لقد كانت آخر جلسة مع عون “فالا” شديدة علي، لقد عاد في كل ما أنعم به، بل لقد فرض على أحد أصحابي الذين لا يحتملهم المقام بعيدا عني، إن كان يرغب في السلامة، إن هذا الرفيق عدو لذوذ لـ”عبد الحي”، ها هو بهلواني وجدة يمهد الطريق لـ”عبد الحي” بمؤتمر إقليمي للطرقيين، إن عبد الحي أخذ يظهر على مسرح السياسة، لقد ذهب إلى باريس في صورة تحدي.

لم أدر ما أصنع بعد وصول رسالة مضمونة من مدير شركة “الوداد” عبد الرحمان الحجوي، تفصلني عن الجريدة التي أنا صاحبها، لأن رأسمال الشركة ارتفع عن المستوى، إنها حيلة سافرة لفصلي نهائيا عن هؤلاء، لقد كنت محتفظا بالحزب الاشتراكي، ليبقى مفروضا في الميدان، مهما كلف الأمر.

لقد كان في المعركة وجهان، وجه هؤلاء الدخلاء الذين أتى بهم الاستعماريون ليمثلوا أدوارا هزلية لا يعلمون خطورتها عليهم، ولا على بلدهم، ووجه حقيقي هو الذي يجعلنا نقيسه بالمقاومة السلبية أو الإيجابية، ومقدار ما تنتجانه للبلاد.


 ولكن الاستعماريين جعلوا هذا الوجه الهزلي يطغى على الجميع، في هذه المعركة الهائلة التي ستصبح معركة دموية لا محالة.

 فهل سأبقى مكتوف الأيدي وعندي إمكانيات لا تتوفر لغيري؟ إن معي عددا  عديدا من أعضاء الحزب الاشتراكي في جميع أنحاء البلاد، وعندي سوابق  خير في كثير ممن تشملهم الحركة الهزلية.

  لقد كانت مظلمتي واضحة عند الجميع، حتى عند “فالا” فلم أشأ أن أنهي هذه الفرصة بتعويض شخصي، وكان الحزب الاشتراكي قد فرض وجوده رسميا لما وافق على التبري -باسم الأمة فيمن تبروا- من الذين ضربوا فرنسا من الخلف، بتعاملهم مع المحور، معاونة للذين يناهضون الاستعمار، الذي يختفي وراء هذه الثلمة، ليقيم العراقيل، بين الشعبين، المغربي والفرنسي.

إن رأسمال المغرب في الحرب العالمية الهائلة، هو صحة القصد في تلك المشاركة الغالية الثمن والغالية الفرصة، فهل أضيعها وأنا الممثل الوحيد لصحة ذلك القصد من الشعب المغربي، على صفحات جريدة “الوداد” في وقت لا يتطرق ولن يتطرق إليه شك؟ إنها سلاحي البتار في وجه كل معاند، إن الذين مدوا إلي مساعدة ما، من الفرنسيين ضد إخوانهم الاستعماريين، لم يكن لهم من حول ولا قوة، إلا من ذلك الموقف.

 فهل أبخل بهذا السلاح البتار على الحزب الاشتراكي الإسلامي المغربي؟ ونحن مقبلون على معركة هائلة مع الاستعمار؟ طغت هزليتها  على جدية موقفنا السلبي، والإيجابي الذين لا يتهيئان، وسوف لا يتهيئان، ككل زوجين اثنين في هذه الحياة ينتجان؟

فلتبق جريدة “الوداد” في محنتها، تؤدي مهمة في الخفاء، وليعتمد الحزب الاشتراكي تارة على جريدة “الوداد” التي هي جريدتي إسميا، وأخرى علي مباشرة، أنا صاحب السيف البتار عند الأكابر، حتى يفصل فيما بينهم على المكلفين في الأنحاء البعيدة، مهما كانت الصلة بين الحزب والجريدة أو لم تكن.

لقد أعطيت تفويضي لرؤساء المراكز في الحزب، ليسلموا الورقة الرسمية المضبوطة للعضوية، لكل من طلبها منهم في جميع الأنحاء، لقد أصبح الحزب الاشتراكي، الملجأ الوحيد الذي يلجا إليه كل ملتجئ، إنه رحمة لا نقمة فيها، لقد عرف الناس أولئك الصنائع، وانهاروا قبل الأوان، وبقي الحزب الاشتراكي حتى خرجت أفواجه المقاومة، مع من خرجوا من السجون بعد الإستقلال

 كان شبيه “سعيد” يطالعني من زاويته، كلما عاد من باريس، بما يطالعني، وأنا أشعر بثقل ما يتحمل ويحاذر أن يظهر على سحنته ما تحمله نفسه من مرارة، لقد كان هدفي واضحا مما  أذيع رسميا من أن جلالة ملك المغرب كان يتعامل مع المحور، وكان هو وحده الشخص الوحيد الذي كان يقابل هلعي ببرودة، ثم لا يلبث أن يردد الخبر المذاع بصيغة التحفظ، ولم يخطر في بالي أن تعمد حكومة دولة  إلى مثل ذلك الخبر الخطير، بهتانا وزورا.

إن “ابرونيل” رئيس ناحية وجدة يرتمي في أحضاني خائفا وجلا: “قاسوا برأسه الواد” كما يقول العامة، فمن أكون أنا عند “ابرونيل” حتى يضع نفسه رهن إشارتي على أن لا يأخذونه إلى الدار البيضاء؟ إنه مريض، يحس إعياء، لقد أدى ثمن  طواعيتي له، -اضطرارا- بمشاركتي أنا ورفاقي في الحزب يوم أراد أن يعرض على حزب “الزمراني”؛ إنه يسترضيني بمتابعة “الزمراني” في المحاكم بعد طرده من وجدة، لما نهبه من أصحابها من صوف وأموال، فهل يحسبني “ابرونيل” أعد “الزمراني” منافسا، سعى هو لدى غيره أن يحظى بالعناية دوني فهو يستغفرني.


إن كل ما قام به “ابرونيل” في وجدة عاد عليه بالخيبة والفشل، وعلى الذين عمل لحسابهم في فاس فصاروا يلعنونه بالجهر والعلن، فأي شيء جرى يا ترى؟

إنني اقتحمت على المؤتمرين الطرقيين دار عبد الحي الكتاني، فرأيت رجال طرق وجدة يسعون في الخفاء لعرقلة ما يريده عبد الحي من المؤتمرين، إن جميع المؤتمرين أصبحوا صفا واحدا ضد كل رغبة بالخروج عن المؤتمر، فيما وضع من أجله من شؤون زواياهم.

لقد نال “برونيل” رغبته، فهو في الرباط غيره في وجدة، لقد ترك وجدة وناحيتها قنابل ومتفجرات جاهزة، كان حاملوا ورقة الحزب الاشتراكي، يعرفون أنى ومتى  يفجرونها، لقد ذهب محمد بن يوسف إلى المنفى.

 لقد عرفت فيما عرفت -من بعد- أن أحد المقاومين -بطبيعتهم- يسكن بتاوريرت، لم يرتض حكما حكمت عليه المحكمة تبعا لولده، فأبى إلا أن يستأنف، وأبى المراقب إلا أن ينفيه إلى بلده الأصلي “قلعية” بالريف إذا هو استأنف، ونفذ المقاوم، ونفذ المراقب، فأوصلته القوة إلى الحدود، وعاد منها يطرق جميع الأبواب بنفسه، وبواسطة المحامي “الحمياني” دون جدوى، وزارني في حالة من القنوط، وجربت “ابرونيل” ببطاقة مني حملها له المقاوم، فنفذ له ما أراد في الحين والساعة،  وعاد إلي يطلب الانخراط هو ومن في معيته، فكانوا أول تشكيلة لجيش التحرير، عرفت كيف تستعمل ورقة الحزب الاشتراكي وتفي بوعدها في الانتقام، إنه “محمد بن الحاج القلعي”.

 لم أذكر هذه الحادثة لذاتها، فإني لست بصدد ذلك، إذ لم أعمل قط مع أحد مباشرة في ميدان الفداء، وأي فائدة من ذلك، والطريق واضح أمام الجميع، ونحن نضمن لهم وسائل الوقاية، ونجتهد في ذلك من جميع الوجوه، حتى يكونوا أحرارا، إن الفداء لا يطلب  جزاء، فأحرى به ألا يحتاج إلى ملقن، لقد جاءني خبر أن أحد الرؤساء الذين يوزعون بطائق الحزب ا لاشتراكي بتفويضي في الدار البيضاء، ألقي عليه القبض لتشكيله شعبة الفداء بفاس، وأن السلطة بفاس قبلت تدخل الرفاق هناك، لتخفيف ظروفه، فحكم عليه بسنتين، وبقي أخوه ومن معه يعملون حتى قتله الإرهاب الفرنسي.

أعود فأكرر أنني لست بصدد إحصاء ما بلغني ولا ما عسى أن يبلغني، من بعد ما قام به حاملوا ورقة الانخراط في الحزب الاشتراكي، فإن ذلك بطبيعة الحال كثير، فأي فدائي لا يقبل أن يحتمي مرة أو مرات في أداء مهمته قبل أن يلفظ نفسه الأخيرة، وإنما المهم هو أن السلطة قد عيل صبرها من تفاحش أمر هؤلاء، وما ذنبي أنا وقد أتيت عملا مشروعا من قبله، اجتهدت هي أن تقننه وتضيقه حتى لا يندس في الحزب من ليس منه -على زعمها-، ولكن كلما أوجدت  توثيقا -حسب رغبتها- وجدت  فداء، إن  الأمر طبيعي ليس فيه تدليس ولا خداع، فمن يستطيع أن يشق على  قلوب الناس؟ ومع ذلك قابلني رئيس ناحية الرباط “موان” مقابلة شاذة، وأعطاني أمرا بلزوم منزلي، ووقفت الشرطة ليل نهار على باب منزلي تمنع كل من يريد الاتصال بي، وألقت القبض على أخصائي، من الشعبيين بسلا، بتهمة القيام بمظاهرة كانوا يحملون  فيها صورة صاحب الجلالة الملك المنفي.

الحقيقة في نظري أن ندع هذا الأمر جانبا: إنه ليس لأحد أن يدعي أنه أسس الفداء والمقاومة، إنهما كما قلت، عمل البركان الذي تململ من تحتنا، إذا لم نهيئ له مصارف تنفذ منها قوة ضغطها لمصالح تنفع، انفجر وأطاح بنا وبأعمالنا، إنه الشعب يعرف طريقه متى أهمل،

أما أنا  فقد كنت طوال حياتي حريصا على محاسبة نفسي قبل أن يحاسبني غيري، وها أنا أهتم كل الاهتمام، هل حقيقة أن جلالة محمد الخامس كان يتعامل مع المحور؟ وأن ذلك كشف في وزارة الخارجية الألمانية عندما احتل الحلفاء برلين؟ إن ذلك يهمني كثيرا، فإن صح فيا ضيعة الأمل، وإن لم يصح فالنصر لنا ولآمالنا، في الشمال الإفريقي، وفي العالم الإسلامي أجمع.

 لقد أبى “ابرونيل” أن نضع المغرب بجانب تونس، عندما أعطى لتونس استقلالا  ناقصا، وأبيت إلا أن أضع المغرب في المقدمة، ولكن بدون منطق، فإن تونس أكثر منا تقدما، والشعور الذي أعول عليه هو عند “ابرونيل” قد انطوى على انكشاف التعامل مع المحور، فأية حيرة هذه ؟

إن الناس من حزبي يطالبون بعودة محمد بن يوسف، إنه الحل الوحيد، وإن “ابرونيل” يستمع على بياناتهم، فيما كلف به من سماع، ويعدهم بجواب المقيم “كيوم” على طريقتي، إنني واجم أفكر في  التراث الخالد، تراثنا العالمي من الحرب.

إن الوعي والشعور في أمتنا المغربية كامن كمون الثروات الهائلة في المنابع المهمة، إن معرفة ذلك وتقديره ليس من خصائص الجميع، فنحن أمة قلما يعطيها المؤرخون  خصائصها الحقيقية، وإني أتلمس حديثا نبويا أخرجه مسلم في تخصيص الأمة القائمة على الحق أهي أمة المغرب؟ أما في عصرنا هذا وفي معرض عالمي تمتحن فيه القيم على مرآى ومسمع من الجميع، فإن كتاب العالم قد أعطوا لأبناء مغربنا في الحرب العالمية معبرين عن شعوب أوربا، الجائزة الأولى للقيم الأخلاقية الذاتية، إننا لسنا كأبطال ممتازين في الحرب فقط كأي همج لا شعور لهم، تسخرهم الأعراض والحاجة، بل إننا أنبل خلقا وأعلى  شيما في  الحرب من أجل الحرية.

 إن هذا الشعور الكامن نحونا من حول أبناء أوربا جميعا وخصوصا الشعب الفرنسي، وأننا في حرب ضد المستعمرين الفرنسيين، حرب أذكاها الاستعماريون بشتى وسائلهم ليحولوا  بيننا وبين الشعب الفرنسي، الذي نطلب منه الاعتراف بنا كأمة تقف بجانبه وقفة الند للند، نتعامل وإياه على قدم المساواة، إن عجزنا على التسيير ليس من شأنه أن يحقد علينا الشعب الفرنسي، بل إن ذلك محل اغتباطه بمعاونتنا ومكافأته لنبلنا.

إن خصوم الحرية وأعداءها الحقيقيون استطاعوا أن يستغلوا اجتهاد بعضنا المخطئ، والمجتهد المخطئ له أجر واحد هو أجر الاجتهاد، فيعملون بوسائلهم اللاشعورية ليحشرونا جميعا وراء خطيئتنا التافهة ليقولوا للشعب الفرنسي، إن حريتك التي تفديها بكل نفيس وغال، يهددها عملاء الديكتاتورية في المحور أمس وعملاؤها اليوم مع روسيا الحمراء.

لقد بقيت أحاسب نفسي حسابا عسيرا طيلة هذه السنين الممتدة، منذ إعلاننا بمطالبتنا بالاستقلال إلى اليوم، فاتهمها بالتوهم والتغفل والجهل بحقائق الأمور، وكلما استهوتني فرصة فلم أجد لها طاقة، عدت إلى الاتهام والرضا بالواقع، حتى إذا كان مقتل “لمكر دبري” مدير جريدة “مروك ابريص” وانطلق أحد أخصاء حزبنا في شوارع الدار البيضاء، يحض الجماهير على السير في موكب القتيل، فينساقون في وقار وتأثر أدهش الشعب الفرنسي  في المغرب وفرنسا، وأخرجه من أوهام المستعمرين وتضليلاتهم، فجثا الاستعمار ذاهلا مخذولا، ينتظر الضربة  القاضية عليه من  يد “ديكول”.

أقول حتى إذا وقع ذلك، وجدتني دون شعور مني في دار فرنسا، مع الجماهير الشعبية، تهتف مع المقيم العام “كرانفال” بحياة “بن يوسف” وعودته، ويهتف معنا الشجر والحجر والأرض والسماء، ليس في دار فرنسا فقط، ولمكن أنى ذهبت وأينما حللت، إنه سلام عام يعم الناس جميعا، لا فرق بين المقيم وجلاديه، ولا بين الشعب المقاوم والفدائيين.

ترى ماذا حمله المقيم العام “كرانفال” في حقيبته؟ إنه الموت الزؤام للاستعمار الفرنسي والمستعمرين، إن نقطة انطلاق الشعبين، المغربي والفرنسي، قد بدأت من تصافح قلبين، قد ملأهما النبل عند جثمان “لمكر دوبري” بالدار البيضاء، فلا يقف ذلك الانطلاق إلا عند فرض عودة “بن يوسف” إلى عرشه سواء أدى “ديكول” شهادته أو لم يؤديها.

أنا لا أريد أن أقول إن النبل والعواطف هي التي تعطي الشعوب حريتها واستقلاها، وتسير شؤونها بنفسها، ولكني أريد أن أقول إن الكفاح المسلح، والغلبة بالقوة، مهما طال أمدها، وتضاعفت خسائرها -كأمتنا- إلى وضعية استجداء، ليعود المستعمرون إليها كأجراء، مساعدين بشروطهم الثقيلة، تمدد في ضائقة الأمة وعنائها.

إن شواذ المتصوفة يقولون: الكل موصل إلى الله، لا طريق أهل الشقاء ولا طريق أهل السعادة، فهل نتجاهلها في كفاحنا الطويل المرير، متأسين بأقوال المتفلسفين المرجعين علة عجزهم، إلى قلة وعي الشعب، وبعده عن إدراك مرامي التقدم والتطور، التي هي الأوهام والظنون؟ إننا إذا لسنا قادة.

أتردون أن نعيد عليكم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه الخلفاء؟ هل كانوا ينتظرون ممن أسلم من أمم الفرس والروم، أن ينزلوا إلى درجة البداوة، ليتفهموا مبادئ الحرية والمساواة أم العكس؟

إنني أرجح أن الأمة القائمة على الحق هي في المغرب، مغربنا هذا، إنني أقيسها بشعب طالما عرفته بحامل راية مبادئ حقوق الإنسان، أفلا يحمل مشعل الإسلام في يد، وراية حقوق الإنسان في أخرى لنكون وسطاء بين الشرق والغرب كما يقول جلالة محمد الخامس؟

 أيها السادات: هل ترون أن شعبنا محتاج إلى تربية وحج، وكانا سبيل الاستعمار وحجته لحرماننا من عهد الاستقلال؟ حاشاكم وحاشا كل عامل لخير هذه الأمة، إنما السبيل أن ندع جلالة محمد الخامس يتبع القول العمل، فقد أسرى أنظار العالم أجمع -أيام رحلته إلى الولايات المتحدة- ليشهد خير أمة تخرج للناس.

إنني كنت أعتبر نفسي حالما منذ وقعت عيني على محمد بن يوسف على عرش المغرب، حينما كنت  أشيد به في أول تأسيس جمعيتنا “الوداد”، وكنت أتنبأ له  بمقام الخلافة والإمامة على الشمال الإفريقي على صفحات “الوداد” في أول رحلة جلالته إلى تافيلالت، وسرت وراءه في تحمل مسؤولية التصريح بالوق بجانب فرنسا عند سقوطها، متحديا بطش ديكتاتورية “هتلر”، ولكني وجدت نفسي في يقظة عندما نهضت فرنسا من كوتها، وتغلب العالم الحر على العالم الدكتاتوري، وأصبحت محقا في استخلاص حرية أمتنا بغير طريق العنف والدماء، لو بقي المجتهدون المخطئون في الوسط دون المقدمة، وكان محمد الخامس هو القائد وحده في المعارك، والحكم الأخير في المنازعات.

 لو كان ذلك لدخل شياطين الاستعمار في القمائم التي هيأناها لهم مع الجنرال “نوكيس” سنة 1937، ولوضع محمد الخامس خاتم سليمان على أفواهها، بعد انتصار الحلفاء في الحرب، ولقام الشعب المغربي اليوم، بأداء مهمة الوساطة بين الشرق والغرب، دون تعطيل.

 أيها السادات: إنكم اليوم أطلعتم على مدة ثلاثين سنة من حياة جريدة “الوداد” التي تنتظر أن ترفعوا عن مطابعها وعمارتها يد المغتصبين، وتردوها إلي، لأردد فيها ما  قلته في أول عدد منها: “فعسى أن يكون في خطة “الوداد” ما يفيد الجمهور الحائر فيهتدي”.

 أيها الرئيس، أيها الأعضاء، إنني أضع فيكم، نفس الثقة التي وضعها فيكم جلالة الملك محمد الخامس، لتحكموا لي على التاريخ، فإني وإن كنت شخصا تافها، فقد وفقني الله.

محمد اشماعو  مدير جريدة “الوداد”.

 حرر في 17 رمضان المعظم 1377 موافق 7 أفريل 1958 “انتهى من نصه بلفظه”.

إضاءة:

ننوه إلى أن صاحب التقرير تعرض بعده لمحاولة قتل، بإطلاق الرصاص عليه من خلية تابعة لحزب الاستقلال، قادها وقتها سائق وزير الداخلية “لمحمدي” كما صرح لي مطلق الرصاص، الذي وبالسخرية الأقدار، التقيت به في الوقت الذي التقيت بصاحب التقرير، ونشرت ذلك في زمنه تحت عنوان: “مقاومون منسيون” وبعد ذلك تم اختطافه، واحتجازه في ثكنة  بمدينة “لخميسات” بيد أنه وجد بها جمعا غفيرا من المنتسبين لحزبه الذين استفادوا من انتمائهم له، فأكرموا وفادته، وهيئوا عودته معززا كما قال لي، إلى منزله  ليلة العيد، حيث خرج للمصلى  أمام اندهاش الجميع، بعدها اختطف سنة 1968 وزج به في قبو محكمة “طانطان” وبعد انقلاب الطائرة، تم العثور عليه بمستشفى الأمراض العقلية “برشيد” من قبل ابنه نائب وكيل الملك إثر زيارة  تفقدية للمستشفى، حيث وجد نفسه وجها لوجه مع والده، فتم فك احتجازه على الكيفية التي سبق لي عرضها في مقال سابق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M