د.امحمد جبرون وشاهد ماشافشي حاجة

18 أبريل 2024 22:51

هوية بريس – د.عبد الحميد بنعلي

كتب أستاذ التاريخ د.امحمد جبرون مقالا يدافع فيه عن رأيه الذي عبر به لموقع (لكم) والمتمثل إجمالا في أن التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة لا تعني بالضرورة منابذتها للشريعة الإسلامية، بل هي أقرب لروح الشريعة منها لمصادمتها!، وقال: إن عبارة الفقهاء: لا اجتهاد مع النص ليست سليمة وفيها خلل الخ.

والكلام المكتوب هنا في صفحة أستاذ التاريخ فيه مغالطات وأخطاء كثيرة يدركها المتخصص في الشريعة من أول قراءة وأول نظرة، وذلك من وجوه:

1- ادعاء جبرون أن أحكام الشريعة ليست حكرا على أحد، بل كل مسلم نبيه عنده قدر من العقل يستطيع أن يدلي برأيه فيها، وأن خلاف ذلك فيه مشابهة للنصارى الذين جعلوا الدين حكرا على رجال الدين.

قلت: وهذا جهل شنيع، وقول مريع، ورأي لا واقع له، فالدين مؤسس على العلم، والعلم يدرك بالتعلم لا بمجرد العقل والنباهة، ولو كان العقل بمجرده كافيا في إدراك حكم الشرع لما وجدت حاجة لبعث الأنبياء والرسل، ولا لإنزال الكتب، ولا لبناء المعاهد والمدارس والجامعات، ولا لإنتاج هذا الكم الضخم من العلوم والمعارف الشرعية التي تحتوي أكثر من خمسين علما!، ولا أمر العامة بالرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن الدين. ولما فضل الله أهل العلم على من سواهم، ولما أخذ الميثاق عليهم أن يبذلوه ولا يكتموه.

وأساس هذه الزلة هو اعتقاد جبرون ومن على شاكلته: أن الدين ليس علما، بل هو دين يشترك فيه كل مسلم موحد كما قال الجهلوت العشاب في إحدى هرطقاته.

وقد فرحوا بهذه الجهالة وتداولوها وظنوها شيئا، وما هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

ويأبى الله ورسوله والمؤمنون والواقع أن لا يوصف بالعالم حقا إلا عالم الشريعة، وأن لا ينال الشرف والمنزلة السنية إلا حملة الشريعة، وأن لا يَخلُدَ في العالمين -على كر الدهور ومر العصور- إلا أصحاب العمائم الفقهاء، فهم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون.
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ
على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء.

2- وقد حاول د.جبرون، أن يزيل عن نفسه هذه التهمة بكونه ليس جاهلا بالشريعة، وأنه ألف في ذلك كتبا تحتوي على مئات الصفحات!

وهذا عذر أقبح من ذنب، فالإنسان إنما يكون عالما بالشريعة حين يكون له بذلك سند متصل، أي حين ينال هذا العلم كابرا عن كابر، وحين يتخصص في ذلك من المهد إلى اللحد، وحين يستفيض علمه في الناس، وتستقيم مع ذلك عدالته وديانته.

أما حيث يكون خاليا من كل ذلك فلا يكون عالما إلا في الخيال الافتراضي، ومجرد (قدرته) على حبك العبارات، وصوغ الجمل وفهمه لكلام العلماء لا يجعله مؤهلا ليساهم في النقاش العلمي، بل لا يزال مع ثقافته العامة عاميا يجب عليه أن يسمع لأهل العلم ويصدر عن رأيهم، وتظل عباداته باطلة وتصرفاته لاغية حتى تكون جائزة عند العلماء العدول الأمناء على الشريعة.

3- يقول امحمد جبرون: “ميزة الإسلام وفضله على غيره أنه دين بسيط، عقلاني، واضح لم يحتج معه العرب والمسلمون الأوائل لا إلى أصوليين ولا إلى محدثين ولا إلى علماء القرآن وعاشوا على ذلك مدة تتجاوز القرنيين”.

قلت: هذه مغالطة أخرى تدلك على أن الإنسان حين (يحشر أنفه) فيما ليس أهلا له يقع في هذه الورطات، وقد قال أبو الحسن الماوردي: (من تعاطى ما ليس من شأنه افتضح).

وهذه النكتة من هذا الكاتب ليست خطأ بقدر ما هي كذبة كبرى وجهل فادح بحقائق العلوم الشرعية، وبالتاريخ مع أنه متخصص فيه!، فحين يقول: إن المسلمين ولمدة قرنين من الزمان بل أكثر لم يكونوا بحاجة لهذه العلوم الشرعية فماذا يمكن أن تسمي هذا بغير ما سميناه؟!

إنه لا يعي أن الصحابة كان فيهم فقهاء وقراء وقضاة وكان أكثرهم عاميا لا يُستفتى في الدين مع صحبته، وهكذا كان التابعون وتابعوهم فيهم العلماء وفيهم العوام، وكان الخلفاء الراشدون يستوزرون أهل العلم منهم خاصة، وكان عامة مجلس عمر من القراء.

وفي هذين القرنين خلق الله مئات المحدثين والفقهاء والنحاة والقراء، وكان منهم الأئمة الأربعة فجميعهم إنما كان في هذين القرنين، وإلى هؤلاء كان وما زال يرجع المسلمون في فتاويهم وأقضيتهم ومسائلهم، وعامة الأقطار الإسلامية تعتمد مذهبا من مذاهب هؤلاء الصفوة، ولم يكونوا مستغنين عنهم إلا في عقل د جبرون !

4- قال جبرون لموقع لكم (إن قول الفقهاء لا اجتهاد مع النص) كلام فيه خلل وغير سديد الخ

وهذا الكلام سببه جهل صاحبه بأصول الفقه وعلوم الشريعة، وإلا فهذه قاعدة مجمع عليها، وقد دل عليها نص القرآن القاطع وهو قوله تعالى {وما كان لمومن ولا مومنة اذا قضى الله ورسوله أمرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}.

5- حاول د.جبرون أن يوهم القارئ أنه على علم بما يكتب، وأنه فقيه وإن لم يتخصص في الفقه، فذكر أن الأحكام الشرعية القطعية يدخلها التغيير والتبديل دون أن يسمى ذلك خروجا عن الشريعة، ثم راح يستمسك بما يستمسك به عامة الداعين لتغيير الشريعة من داخل الشريعة، فذكر:

أ- قضية النسخ في الأحكام، وأن الأحكام المنسوخة هي في النهاية أحكام قطعية، وقد تم تبديلها بأحكام قطعية أخرى!!

وهذا إشكال وشبهة وليس حجة أو دليلا يصلح مثله لهذه الفرية، وسبيل الإشكال أن يطرح على أهل العلم ليجيبوك بما ينزل على قلبك بردا وسلاما.
وذلك أن النسخ له خاصيتان كلتاهما منتف الآن، الأولى: أنه خاص بالله سبحانه، فهو الذي ينسخ ما يشاء من الأحكام طبقا للحكمة المقتضية ذلك، سواء كان نسخا مباشرا أو بواسطة النبي ﷺ، قال ربنا سبحانه {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}.

الخاصية الثانية: أن النسخ خاص بزمن الوحي، فلا نسخ بعد ذلك ولا تبديل، وإذا أجمع العلماء على أن هذا الحكم منسوخ فهو إجماع منهم على الدليل الناسخ، لا أن النسخ حصل بإجماعهم.

أما نسخ البشر لحكم الله، فهو عين التحريف وعين التبديل الموجب للعنته وغضبه، ولذلك لعن الله اليهود حينما نسخوا من أحكام التوراة ما نسخوا كما يهدي لذلك قول الحق سبحانه {ومن الذين هادوا سماعون للكذب ‌سماعون ‌لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} الآيات.

ب- (انقراض) جملة من أحكام الشريعة مثل أحكام الرضاعة والمؤلفة قلوبهم وملك اليمين الخ

وهذا شيء يؤكد ما قدمناه من أن الإنسان حين يتعاطى ما ليس من شأنه يأتي بالغرائب، فهذه أحكام شرعية ثابتة سارية إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، ولم تنقرض إلا في عقل هذا الكاتب.

نعم بعضها توقف مجاله ولكنها كأحكام ما تزال مبثوثة معلومة يعرفها صغار طلبة الشريعة كأحكام الرقيق والعبيد، فحتى إذا ما عاد سببه وقام داعيه وتواطأ الناس على ذلك وألغيت الاتفاقات المجرمة للاستعباد عادت هذه الأحكام إلى الوجود رغم أنف جبرون ومن وافقهم.

أما الرضاعة فأحكامها قطعية سارية، والتحريم بها ثابت بيقين، وكذلك المؤلفة قلوبهم (وعندي فيهم رسالة ضافية) وأحكامهم ما تزال موجودة إلى هذه الساعة، وما زالت الدول الإسلامية تقوم بالتأليف على الإسلام، حتى المغرب مشارك في ذلك بجملة من المعونات يقدمها عند اقتضاء الحال ذلك وهي مخرجة على هذا الأصل. ولكن جبرون لا يفقه ما يقول.

والهجرة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، وكلما قام سببها وجب على المسلم أن يفر بدينه من الفتن، {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}.

ج- اجتهاد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما فيه نصوص قطعية!!

وهذه فرية كبرى وكذبة عظمى تجمع لصاحبها بين الإفك والبهتان، ونحن مأمورون إذ نسمع هذا الزور أن نقول ما أرشدنا الله إليه {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين}.

وحاشا لله أن يكون هذا الصحابي الجليل مبدلا لشرع مبرم، وهو الأمين المحدث الملهم، بل غاية ما فعله أنه طبق الشرع كما أراد الله لا كما يفهمه البشر.

فالمؤلفة قلوبهم: سهم وضع في الأساس لمن يُخشى كلَبه على الإسلام، وفي زمن عمر كان هذا المعنى منتفيا فوجب إيقاف هذا السهم إذن، ولهذا قال لأبي سفيان (إن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك، وإنما تأخذ من هذا المال كرجل من المسلمين) وهذا هو الفقه، وليس من تبديل الشرع حبة خردل بل لو أعطاهم مع عزة الإسلام لكان قد خالف الشرع.

وزعم جبرون أن عمر منع المسلمين من الزواج بالكتابيات وهذا غلط، إنما منع المجاهدين الغزاة الذين كانوا في أرض الروم من التزوج بنسائهم، وهذا ليس فيه تبديل ولا تحريم، إنما فيه تقييد المباح إلى وقت يناسبه؛ لمصلحة راجحة، وهي دفع التجسس والانشغال عن العدو بنسائه.

وأما قتل الجماعة بالواحد فليس مخالفا للقرآن بل هو مطابق له أيما مطابقة، فقوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} عام يشمل الواحد والاثنين والجماعة كما تفيده أل الاستغراقية، وهو حكم ثبت بإجماع الصحابة، والإجماع حجة قاطعة.

وأما فتواه بأن الطلاق المجموع تحرم به المرأة فليس من اجتهاده ولا من مفرداته، بل هذا حكم حكي عليه الإجماع وإن كان لا يصح وذهب إليه عامة فقهاء الأمصار، وثبت بنص السنة القاطعة وليس هذا موضع بسط هذه الأحكام.

وأما وقفه لسواد العراق فاستند فيه إلى فعل النبي ﷺ بأرض مكة فإنه أبقاها بيد أصحابها ولم يقسمها على الفاتحين، وكذلك فعل بأرض خيبر قسم نصفها وأبقى النصف الاخر لنوائب المسلمين، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في هذا الموضع (( وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم رادا لفعل عمر؛ لأن كل واحد منهما اتبع آية محكمة، قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. وقال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} (35). الآية. فكان كل واحد من الأمرين جائزا، والنظر في ذلك إلى الإمام، فما رأى من ذلك فعله)).

د- فتوى ابن عرضون في الكد والسعاية، وهذا ليس فيه مخالفة للشريعة بل تحقيق لها، وذلك حيث تساهم المرأة في تنمية ثروة الأسرة بأعمال لا تتعلق بأعمال المنزل الواجبة عليها، وتشترط أجرة على ذلك أو يجري باشتراطها عرف، فهذا رزقها ومالها فكيف يدخل في قسم التركات؟ بل تنفرد به بمقدار عملها، ثم يقسم الباقي بينها وبين الورثة.

ولكن جبرون ومن ينادي بتعديل المدونة يريدون تنزيل هذه الفتوى على كل نساء الدنيا حتى اللائي لم يشتغلن خارج المنزل ولا أتين بأعمال غير واجبة عليهن، وهذا كذب صريح على ابن عرضون لم يقل به وحاشاه أن يقوله.

6- وأطم الطوام التي سودها جبرون في هذه المقالة البئيسة: هو زعمه بأن جملة أحكام الشريعة كانت معروفة لدى الجاهلية فهي على ذلك (ثمرة عقلية) والإسلام تبناها وعدل فيها، ما يعني أنها قابلة للتغيير بما يحقق فيها عدالة أمتن وأقوى!!

وهذا رمي في عماية، وكلام يشبه ما كنت أسمعه في طفولتي من الحلاقين وهم يتحدثون عن الشريعة حين يرون علي سمت أهلها، وكذلك ما كنت أسمعه في حلق المقاهي من مداخلات الشيبان وهم يلعبون النرد والبارتشي!!

وما يغيظني أكثر هو أن هذا موضوع تاريخي، ويفترض بالباحث المتخصص في التاريخ أن يكون مسؤولا عما يقول وأن لا يعرض نفسه للسخرية والهزء، وإلا فالجاهلية سميت بذلك لجهالة ما كان عليه أهلها، قال عبد الله بن عباس: «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} إلى قوله {قد ضلوا وما كانوا مهتدين}».

نعم هناك بضعة أحكام يسيرة كانت معروفة عند العرب، ولم تكن ثمرة عقلية كما ظن جبرون، بل كانت من بقايا دين إبراهيم الخليل عليه السلام، أي أن منتهاها وحي منزل من الله سبحانه وليس عقلا جاهليا موغلا في البداوة والتخلف.

7- وكأني بالدكتور جبرون وهو يصارع نفسه اللوامة على ما سودته يداه من الإفك والبهتان، فكتب يقول (هل يعني هذا أن الإسلام ناقص ويحتاج إلى استدراك، أبدا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل على العكس نحن مأمورون بنصوص القرآن والسنة بالاجتهاد في التنزيل والتأقلم وليس الجمود والتكاسل).

لا يا سيدي، هذا يعني أنك تدعو الى تحريف الشرع وتبديله وتراه ناقصا غير ملائم للعصر، ولا يعفيك من ذلك مثل هذا الاعتذار والاستدراك البارد المخالف للحقيقة، ومَثلك في ذلك مَثل من يكفر بالله ثم يقول: أعوذ بالله من الكفر.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M