عن الكتب والمكتبات أتحدّثُ (ج3)

08 نوفمبر 2016 20:27
يومياتُ مُثقّف مقهور.. نصوص ساخرة

هوية بريس – ربيع السملالي

– أقسمتُ ألاّ أهدي كتابًا لأهل قبيلتي بعد كتابي (أفكار على ضفاف الانكسار) الذي لم يقرأوه منذ سنتين، جعلوه في مكان يعلوه غبارُ الإهمال، وتستبدّ به الأرَضَة، وتعلوه كآبة كلون غلافه لا تريم..

– كنتُ قديمًا أجوع لأشتريَ كتابًا، وبعدما تزوّجتُ صرتُ أبيع كتبًا كيلا يجوعَ أبنائي، وآخر كتابٍ دفعتني الفاقةُ لبيعه: لسان الميزان للحافظ ابنِ حَجَر..

– تسوّر لص قبل سنوات علينا محرابَ العلم، وأخذ كلّ شيء إلاّ الكتب.. يا له من غبيّ. آه عفوًا.. لو كان يعرفُ الكتبَ لما دخل بيوتًا آمنةً للسّرقة..

– قبلَ زواجي رأيتُ فتاة جيّدة الصّنع فأعجبتني، فذهبت لخطبتها، فقالت لي والدتها: هل عندك سيارة؟ قلتُ: لا. قالت: هل عندك شقّة باسمك؟ قلت: لا..قالت: وماذا عندك إذًا؟ فقلت: عندي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب الأغاني للأصبهاني، وكتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي، وموسوعة الأعلام للزِرِكْلي… والمجموعة الكاملة لروايات نجيب محفوظ… وكتاب البِغال للجاحظ…

– الكتب كثيرة.. كثيرة جدّا.. وكلّ يوم تدفع مطبعات العالم مئات الكتب بل الملايين، يكفيك أن تدخل إلى أيّ مكتبة من مكتبات المدن الكبرى لتقفَ حائرًا منبهرا أمام هذه العناوين المزركشة التي تملأ الرّفوف، وتكون كما وقع للصّياد المسكين (خِرَاش) حين خرج ذات صباح للصّيد فوجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..وجد من الظّباء الكثيرة ما جعله يقف متجمّدًا كتمثال من شمع لا يحرّك ساكنا…فسجّل لنا الشّاعر قصّته بهذا البيت النّفيس:

تكاثرت الظّباءُ على خِراش….فما يدري خِراشُ ما يصيدُ!

لذلك خُذ من الكتب ما تحتاج إليه بعد سؤال أهل العلم والأدب الرّاسخين فيهما وأهل الاختصاص، ولا تكن كحاطب ليل لا همّ له إلاّ الجمع دون تمحيص، فالعمر قصير والعلم لا يمكنك الإحاطة به، وكذلك الأدب، وكلّ فنّ من الفنون..وأزيدك بيانًا فكثرة الكتب لم تكن في يوم من الأيّام غاية من غايات أهل العلم والفضل، بل هي وسائل يجب أن تقتني منها بمقدار في غير إسراف، فالإسراف والمبالغة والفوضى في جمع الكتب أشياء قد تحول بينك وبين المطالعة الرّشيدة المثمرة، فعشرة كتب من كلّ فن في خزانة صغيرة مقروءة مضبوطة أفضل من آلاف الكتب المرصوصة في رفوف لا يعرف منها صاحبُها إلا ما تعرفه جدّتي عن هذه (التكنولوجيا) الحديثة!..

– قال أحدُهم: أن تؤلّفَ كتابًا، أن يقتنيه غريبٌ، في مدينةٍ غريبة، أن يقرأه ليلاً، أن يختلِجَ قلبُه لسطر يشبه حياته، ذلك هو مجد الكِتابة..

– إذا سألني سائلٌ: ما هي أهمّ إنجازاتك لهذه السّنة؟

سأجيب: أهمّها قراءتي لأغلب أعمال النّاقد الفحل عبد الفتاح كيليطو، وأعمال الرّوائي الفرنسي الرّائع غيوم ميسو، وقراءة زوربا اليوناني..وطبع كتابي الثّاني نبضات قلم..

– نحن لا نقتني الكتبَ لنتزيّن بها، ولا لنفخر بها على غيرنا..بل نقتنيها لنرفع عن أنفسنا هذا الوصف: ( إنّه كان ظلومًا جهولا ).

– زرت قبل أيام سوق الكتب المستعملة فلم أشتر كتابا، فقط اكتفيت بشم رائحة الورق الأصفر، ورؤية وجوه الكتبيين الكالحة من أثر الرّكود..

– كم هو صعب على النّفس ألا يقرأ لك ذووك وأقرب النّاس إليك، بينما أناس في المشارق والمغارب يعرفون عن قلمك وفكرك كلّ التّفاصيل.

– زرتُ مكتبة جديدة بمدينتنا تكثر فيها الأضواء وكتب الطّبخ وتفسير الأحلام وتكبير الأرداف ودع القلق وابدأ الحياة، فرأتني صاحبة المكتبة، وهي سيّدة في الأربعين تلبس لباسًا شبه محتشم، يتقّدمها صدر كبير، ولها عينان مفتوحتان مثل نافذة تطلّ على سماء مليئة بالضّباب..، رأتني بلباسي البالي، وحذائي المُقشّر متأبّطًا جريدة تاريخها يعودُ للتّسعينيات من القرن الماضي، وجدتها عند بائع زريعة متجوّل فاشتريتها منه بدرهم من أجل موضوع فيها يتحدّثُ عن غلاء الأسعار في مدينة وادي زم..فقالت لي بصوت يشبه أصوات الإناث اللواتي تجاوزن سنّ اليأس، هل من خدمة سيّدي الفاضل، فرمقتها بعينين تائهتين، ثمّ قلت هل عندكم كتاب مائة عام من العزلة، وكتاب زوربا اليوناني؟ فحدجتني بعينيها المثقلتين بالكحل الإفريقي وكأنّني سألتها عن الزّائدة الدّودية، ثمّ فتحت فمها الذي يبدو كمغارة في جبل ضائع في مدينة مهجورة، لا يوجد عندنا هذا النّوع من الكتب..اسأل عنها في حوانيت الورّاقين..أصحاب الكتب المستعملة التي توجد بقرب بائعي الوجبات السّريعة في الطّريق المؤدّية إلى محطّة الحافلات..فشكرتها بلطف ورشقتها بابتسامة وديعة..لم ترقها، فأشاحت عنّي بوجهها المختبئ وراء جحافل الأصباغ والمساحيق الدّسمة الرّخيصة التي كادت تجعل منها قِردة أرستقراطية..

-الخميس الماضي ذهبتُ إلى البريد للسّؤال عن نُسخ كتابي #نبضات_قلم هل وصل من أرض الكِنانة المسلمة (مصر)، فقال لي الموظّفُ: دخل إلى المغرب، لكنه لم يدخل بعد لمدينة بني ملال، لكن عندنا كتاب آخر جاءك من البلد الشقيق الجزائر، فانطلت أسارير وجهي المتجهّم وابتسمت كطفل يرى وجهه في غدير لأوّل مرّة! فقلت له: هات أرى جُعلتُ فِداك!.. فجاءني بكارتونة ثقيلة فمزّقتها بعصبية فوجدت العلاّمة ابن باديس بآثاره يتربّع بشموخ.. فهجم السّرور عليّ حتّى كدت أقبّل جميع الموظّفين هناك والموظّفات ههههههه ثم أخذته وركبت سيارة أجرة سرقتني إلى بيتي، فأنفقت ساعة أقلّب الفهارس منتشيًا بغزارة المادّة التي بين دِفاف هذا الكتاب..

-علّمتني الكتب أنَّ الإنسان مخلوقٌ ضعيف قد تسعده ابتسامة صادقة يجود بها وجه ينبض بالحياة، وقد تبكيه كلمة عابرة من فم ينفثُ القذَارةَ ولا يبالي.

– علّمتني الكتب أنّ كلّ عملٍ نقوم به بلا حبّ – سواء في الدّين أو الدّنيا- يبوء بفشل ذريع.

– علّمتني الكتب أنّ حماسَ الإنسان وتسرّعَه في الحكم على الآخرين يبدأ في التّلاشي مع تقادم الزّمن والإدمان على مُعاقرة الكتب ومخالطة الناس.

– علّمتني الكتب أن أحترم من يكبرني سنّا حتى ولو كان جاهلاً، ورأي الشيخ العامّي أحبّ إليّ من فلسفة شابّ مغرور يضع قبل اسمه دالاً يتيمة زهوًا وافتخارًا.

– علّمتني الكتب أنّ الانشغال بالنّاس والمبالغة في التّجسس عليهم والكلام في أعراضهم، ابتلاءٌ عظيم يُصاب به أهلُ البِطالة من أربابُ القلوب المريضة.

– علّمتني الكتب أن كلّ حُلم يمكن تحقيقه بشرطين: هِمّة عالية وصبر جميل.

– علّمتني الكتب أنّ كلّ شيء بقضاءٍ وقدر، وأنّ الإنسان قد يحزن ويُسرفُ في الحزن من أجل حلم لم يتحقّق له، ولكنّه لا يعلم أنّ الخير كلّ الخير في عدم تحقّقه..

– علّمتني الكتب أنّ كثرة الكتب في المنزل لا تجعل من الإنسان عالمًا ولا متعلّما ما لم تكن الرّغبة قويّة، والهِمّة عالية، والشّغفُ موجودًا.

– علّمتني الكتب أن ليس بوسع الإنسان أن يَكون رائعًا في مجتمع يعجّ بالنّفاق، والحسد، وليس بمقدوره أن يعيشَ بسلام في بِيئة دينها الرّسمي الجهل والغرور وحبّ الظّهور.

– علّمتني الكتب أنّ بالمال يمكنك أن تكون منتصبَ القامة كشجر الصّفصاف، وأنّ الفقر يصنع الرّجال ولكن لا يصنع العيش الكريم.

– علّمتني الكتب أنّ اللهَ قادر على أن يخرج من صُلب الأوغاد أبطالا تعتزّ الأمّة بهم وبإنجازاتهم.. والعكس كذلك..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M