كم تمنيت لو كان ثمة وزارة للأوقاف والشؤون العلمانية…

14 يناير 2024 09:02

هوية بريس – محمد بوقنطار

 [email protected]

يحق تحت طائلة التمتع بالحقوق والحريات الفردية للملحد واللاديني والعلماني أن يخوض بمفرده، أو مع الخائضين، أو بمعية الغاوين، الكلام في أي شيء والتنبس بما يشعر به والتلفظ وإخراج ما يعتقده متى ما شاء، وكيفما شاء، وأينما شاء حلولا أو ارتحالا، في غير تلميح ولا إشارة ولا خوف ولا تقية، حتى وإن سبّ الذات الإلهية، أو تجاسر على شخص نبي الإسلام لا على عيسى الصليبيين طبعا فذلك رجم بعيد، أو تطاول على القرآن، أو شكّك في المعلوم من الدين بالضرورة، أو مسّ بحرمة إمارة المؤمنين، أو دعا إلى المجاهرة بمعصية والمكاشفة بكبيرة من الكبائر، أو ساند ونافح ودافع عن المثلية جنسا ونوعا، حالة وعينا، جمعا وأشتاتا…

لقد تجاوز الرجل الحداثي في ركزه ومشيه في مناكب الأرض كل الحدود، وبات يؤصل للانعتاق من كل أمر، ويتحرر من سطوة أي آمر، يقوده هواه بغير بوصلة تحدِّد الوجهة وتضبط سيره نحو صوب معلوم المآلات، فحتى عندما يكون في مواجهة ما لا يقوى على إنكاره فإنه يلجأ إلى تأويله ومن ثم إفراغه من محتواه وإلغاء حكمته وثمرته، ولذلك فنفس الرجل الحداثي المشبعة بالأوزار اللبرالية تسوقه رغبا إلى حيث يحقق نزواته وحاجات غريزته المريضة، في انتصار ومغالبة وإقصاء لكل المؤثرات سواء العقلية أو النقلية أو الفطرية وخاصة منها الدينية، فإن ضميره الحداثي لا يتوانى في نسف واجتثات جذورها وكل مؤثراتها التي تشاغبه وتعاند طبعه السُّدَّوي ذا النظرة المادية الصرفة التي تدين بالمحسوس المُشاهد، ولا تعترف بالغيب، إذ الإيمان بالغيب بالنسبة إلى سيرته فعلا واعتقادا هو كمحاولتك وضع وإقرار لبنة في حائط ما فتئ ينهار ويَنْقَضُ على بدء متجدّد في استمرار…

لقد أثبتت سوابق الرجل العلماني في هذا الصدد، كما تعدّد خرجاته في مقابل صمت المسؤولين عن نزقه صمت من في القبور،  أنه عموما بات في منأى عن منطق المساءلة، يصول ويجول، يقعقع ويفرقع، يكر ولا يفر، يفعل ويقول ما يطيب له ويحلو، وقد صار لا يخشى في هوى شيطانه ومهوى لؤمه اللبرالي لومة لائم، فهو لا يحب ولا يرضى أن يضعف في دواخله وضميره النقدي معطى توكيد الذات أو أن يُسقِط من مقصورة الأنا سمو  الإحساس المشبع بأنفاس الريادة والقيادة، أو يُتهم بخوف أو نفاق، فالكل متاح ومتسنى، وكأنه الكلأ المستباح لكل غاصب وناصب…

ولنأخذ على سبيل المثال التعاطي المحموم للفصيل النسوي الحداثي مع مدونة الأسرة، بل مع الأنفاس الشرعية المستمسك بها على مضض ومقاومة ضمن نصوص هذه المدونة  على أدق تعبير وأصدق رؤية، ذلك أن هذا الفصيل ما فتئ يطارد ملحظ الشرع في بغض وجفوة ومناكدة وليس هذا من باب الرجم بالغيب أو قذف المحصنات بما يستوجب الحد على جنس القاذف ونوعه، وإنما هي قراءة لجُلٍّ من كلٍّ مستغرق في خضمه الخطابي البئيس الذي بات معروف الرسم، معلوم الاسم، راجح الحسم، ولنضرب على هذا مثالا من مستبحر الأمثلة التي راكمها الطيف النسائي في هذا الصدد، حيث جاء سياق مقال نشرته جريدة هسبريس الإلكترونية بعنوان:

نسوانيات” يطالبن بـ”عَلمنة مدونة الأسرة” وتفعيل المساواة بين الجنسين

مشبعا حد التخمة بما يكشف ويفضح هذه الرؤية الحائفة، وهذا التعاطي المدخون من طرف العديد من فاعلات ومكونات النسيج النسوي في طبعته الحداثية المتطرفة، وقد افتتح صاحب المقال منشوره ــ الذي غطى من خلاله تفاصيل ما عرفه “مؤتمر النسوية” الذي نظمته عدد من قياديات الحركة النسائية ذات “التوجه التقدمي” بالرباط ــ بما يعطي منذ البداية ويؤسس لهذا الفصام النكد بين هؤلاء النسوة الحاضرات وأنفاس الإسلام المحتضرة بين ضيق وقَدرة بنود مدونة الأسرة في حُلتها الجديدة المتجدّدة إذ جاء في المقدمة:

دعواتٌ إلى “عَلمنة” مدونة الأسرة، التي تجري جلسات الاستماع إلى مختلف الأطراف المعنية بها من طرف الهيئة المكلفة بمراجعتها، تم التعبير عنها من طرف عدد من قياديات الحركة النسائية ذات “التوجه التقدمي” خلال “مؤتمر النسوية” المنظم اليوم السبت بالرباط.

الدعوة إلى “علمنة” المدونة جاء على لسان أكثر من متدخلة خلال هذا المؤتمر، وتم التعبير عنه أيضا من طرف القاعة، حين قالت إحدى المتدخلات الرئيسيات في الجلسة المخصصة لمناقشة موضوع الإرث إن “هوية المغاربة إسلامية”، فردّ عدد من الحضور بتعبيرات رافضة لهذه العبارة.

وهكذا ففي الجلسة المخصصة لمناقشة التحوّلات التي عرفها المجتمع المغربي، ذهبت “ياسمين الشامي”، روائية وناشطة جمعوية، إلى الدعوة إلى “التفريق بين مدونة الأسرة التي تنظم العلاقات الأسرية، وبين الشريعة وكل ما له علاقة بالمقدس…”.

وأضافت “حين نتحدث، مثلا، عن الطاعة، فإن هذا المفهوم لا يكرس فقط هيمنة الذكر على المرأة، بل إن النساء ينتابهن شعور بأنهن يتخلين عن جزء من هويتهن”، مشيرة إلى أن “التمسك بالمعتقدات حاضر في المجتمع، وفي علاقة المرأة بالرجل، وعلينا إعادة النظر في طريقة تشبثنا بموروثنا الديني””.

والحقيقة أن حضور “التوجه العلماني” اكتسى طابع القوة والغلبة إذ وجدنا أن كل مداخلات المشاركات في “مؤتمر النسوية” جاءت ناضحة بالعداء لاهجة بالجفاء، ففي السياق نفسه وخدمة لعين المراد عبّرت ممثلة “اتحاد العمل النسائي” بإشارتها إلى عدد من المفاهيم الشرعية الواردة في المدونة، من قبيل: “المتعة” و”الولاية”، معتبرة أن هذه المصطلحات فيها نوع من الانتقاص من قيمة المرأة”، و”تَعتبر المرأة شيئا جامدا”

بينما توقفت “ربيعة الناصري”، وهي أستاذة جامعية وعضو سابق بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان كما عرّف هويتها الناشر، عند تعديل مدونة الأحوال الشخصية، مبرزة في مداخلتها على أن الانتقال إلى مدونة الأسرة الحالية عام 2004 شكّل منعطفا مهما، مستدركة بقولها: “لكن التغيير الذي أحدثه المشرّع كان محتشما ولم يتحلّ بالجرأة ليذهب بالإصلاح إلى مدى أبعد”

كما اعتبرت السيدة “الناصري” في جراءة أن نصّ مدونة الأسرة ظل وفيا ل”براديغم” قوامة الرجل على المرأة، والأسرة الأبوية الممتدة، ذاهبة إلى القول بأن نظام الإرث المنصوص عليه في المدونة “فيه تمييز لصالح الذكور”. وعطفت باستعراض عدد من المسائل كالتعصيب، وحظر التوارث بين المسلمين وغير المسلمين، وعدم تمكين الطفل المولود من علاقة جنسية غير شرعية من الإرث.

كما صرّحت بكون منظومة الإرث المعمول بها في المغرب، والمستمدة من الشريعة الإسلامية، تعرف أزمة، مشيرة إلى ملمح ازدواجية المواقف الذي بات يقف حجر عثرة أمام النضال الرامي أهله إلى تحديث البلاد وعصرنة العباد، مستشهدة على هذا بكون أنه في الوقت الذي ينص فيه الدستور على سموّ المواثيق الدولية، أي أن الأولوية يجب أن تكون لهذه المواثيق، تجد هي وزميلاتها أن الحاصل هو العكس، بداعي احترام الهوية الوطنية، وبذلك يتم إفراغ هذا المقتضى الدستوري من محتواه كما جاء في مداخلاتها بتصرف…

ويبقى من باب التجرد والإنصاف، أن نسأل منطلقين من التسليم ذوقا ونظرًا بأنه إن كان هذا هو الوضع الحقيقي المُعاش طولا وعرضا من لدن كل من يرفع أو ترفع شعار الحداثة وشارة الحرية، فهل كان هذا متسنى بنفس الدرجة ومُتاحًا بنفس الهامش التقديري لكل من دندنته الكلام في المعتقد والفكر والسلوك، الملتزم بعرى هذا الدين ونعني به إسلامنا العظيم؟؟؟

وإن الواقع ليشهد بالصوت والصورة والرائحة أنه إن كان هذا هو شأن الجنس الحداثي ونوعه ذكرًا وأنثى، فإن التحجير على الواسع، والتقييد على المطلق، والتكميم للثغر الناطق، سمة غالبة واستدراك له سطوته، ونفوذه، وعربدته، وقهره المستبد الجائر على: لحظات، وحركات، وسكنات، وأحلام، ومنامات، رجل الدين عالما كان، أو واعظا، أو فقيها، أو خطيبا، ومرشدا دينيا، إنك وإن تكلمت في شأن نهيق الحمير، أو شكوت من ضوضاء الشخير، أو تألمت لفقد حمل بعير، أو صدعت بحاجة مسكين أو فقير، أو قتل صغير وانتهاك عِلج حقير لحرمة شيخ طاعن في السن كبير … أو تناولت سيرة المستضعف الأسير هنالك حيث أرض الرباط ومسرى البشير النذير صلى الله عليه وسلم، لابد أن تصل عنوانك على الأثير، رسالة يستفسرك من خلالها المسؤول الوصي تحكي سطورها المبتسرة المبنى، المعتسفة المعنى، نهاية مشوار طويل الباع، وقطع سبيل دعوة وحوار لطالما شدّك إليه الحنين بين جمعة سابقة وأخرى لاحقة، يقول مُرسلها في عَجَلٍ: “لقد تبيّن أنكم قمتم بالزج بخطبة الجمعة ليومه كذا من شهره كذا من عامه الهجري كذا، الموافق ليومه وشهره من عامه الميلادي في حساسيات ضيِّقة بعيدة عن ضوابط الخطبة المتعارف عليها والمخالفة للمادة السابعة من ظهير…”

إنّها ولا شك سطور لها ثقلها ووقعها ومردوف حساباتها الضيقة، إنك وقبل أن تتلو آخر حرف من سياق ذلك النعي المحبور، يكون حتفك التكليفي قد صار في خبر كان ولم يعد، في غير مأمول رجعة ولا حق استئناف ومن ذاق عرف…

وبه وجب الإخبار وتم المراد على وفق الاتهام بمخالفة ما جاء به الكتاب البرتقالي وأعني به “دليل الإمام والخطيب والواعظ”.

وأعود في آخر هذا البوح المؤلم التفاصيل، لأبث في ذلك الروع أمل، ومأمول التمني، الذي مفاده: “يا ليت لنا وزارة أوقاف وشؤون علمانية تكمّم الأفمام الحداثية المتجاسرة، وتحد من صفاقة الألسن العلمانية، وتكبح جماح هذا المروق الحائف ورميه الزائف… على نحو وغرار ما فتئت تزاوله لعقود خلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بكل حزم وحرص ويقظة وصرامة لا نقض على أحكامها ولا إبرام.”

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M