مأسسة التيارات داخل “حزب العدالة والتنمية”: أهميتها وشروطها

21 سبتمبر 2020 15:12
محطة المؤتمر الوطني الثامن لحزب العدالة والتنمية وتحديات المرحلة

هوية بريس – محمد زاوي

1-في سبيل التأسيس لوعي جدلي داخل “حزب العدالة والتنمية”

بالرغم من أصالة “مفهوم التناقض” في القرآن والسنة النبوية وسيرة الرسول العظيم، فإن أغلب الإسلاميين ينبذونه لا شعوريا ويتجاهلونه بعد إقرار محتشِم. هناك معركة حامية الوطيس بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين العدل والظلم… إلخ. ينظر الإسلاميون إلى أنفسهم على أنهم الخير والحق والعدل، دون اعتبار فعلي للشر والباطل والظلم فيهم. دعك أيها القارئ من إقرارٍ بالحقيقة هنا وهناك، حيث تظهر الحقائق على وزن الفضائح، وحيث تأبى الطبيعة البشرية إلا أن تفصح عن نفسها ممزِّقةً كل قناع، وحيث تأبى الطبقة إلا أن تنتج فكرها وسلوكها في غياب الوعي المادي الجدلي بها… إلخ؛ دعك من كل ذلك، فالنفسانية العميقة للإسلاميين غير ذلك، وامتدادات “استعلاء الإيمان” (فكرة لسيد قطب، وهذا عنون أحد فصول كتابه “معالم في الطريق”) لم تفارقهم إلى اليوم.

وهكذا، بقي الإسلاميون رهيني خطأين منهجيين:

– الانغلاق على الذات، مهما حاول الإسلاميون تجاوز هذا الانغلاق بصياغتهم لمبدأ “التعاون مع الغير على الخير”، وقبله الحكمة المأثورة عن حسن البنا: “نتعاون فيما اتفقنا عليها، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”. وإلى يومنا هذا، ما يزال تحليل الإسلاميين هجينا، لا إلى الرأسماليين ولا إلى الاشتراكيين، لا إلى العولميين ولا إلى الوطنيين، لا إلى الشعبوية ولا إلى الشعبية، لا إلى المجتمع بمنطقه ولا إلى الدولة بمنطقها… إلخ؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والحل لتجاوز هذه الورطة ولجمع هذا الشتات المتناثر هي “وسطية الإسلاميين” (وليست “وسطية القرآن”)، حيث تصبح كل المناهج المعاصرة صِفرا، وحيث يُستغنى عن “قواعد التاريخ” و”قوانين الطبيعة والنفس والمجتمع” بعبارات مسكوكة لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا.

– نبذ إمكان التناقض في الذات نفسها، وهذا خطأٌ ناتجٌ عن سابقه. لا يتصور الإسلاميون أنفسهم كتجلّ من تجليات الطبقات الوسطى في المجتمعات العربية، فلا يستحضرون ما تتميز به هذه الطبقة عن غيرها من الطبقات في خضم تنظيرهم وممارستهم (مميزات الطبقة الوسطى في غياب الوعي بها: التلوّن، الهجونة في التصورات والبرامج والتنظيم والتخطيط، الاستقرار الذي لا ينتج قابلية لتبني المنطق الجدلي). لا يتصورون علاقتيْ التناسب العكسي والتناسب الاطرادي بين واقعهم ووعيهم الطبقيين، فلا هم يعون واقعم الطبقي لتجاوزه، ولا هم ينصرفون إلى ما يطلبه واقعهم الطبقي دون مراوغة. ونظرا لعدم استحضارهم كلَّ ما ذُكِر، فإنهم يسعون إلى إخفاء تناقضات الطبقة الوسطى وغموض تصوراتها وهجونة مناهجها بالإيديولوجيا الإسلامية، كما أنهم يسعون إلى نفي كل وعي يرِد على هذه الطبقة من خارجها (وعي البروليتاريا مثلا) بنفس الإيديولوجيا. لا مجال إذن للتيارات داخل الحركة الإسلامية، لأن الوعي بجذورها التاريخية غائب، ولأن الإسلاميين ينبذون “التنازع” بتأويل “رجعي” للنص الديني.

لم يكن حزب العدالة والتنمية ليشذ عن الواقع أعلاه، وذلك بالرغم من المجهودات التي قام بها عبد الإله بنكيران منذ ثمانينات القرن الماضي، والمتمثلة فيما يلي:

– إدماج الحركة الإسلامية في المجتمع، وذلك هو المدخل العملي لوعيها بواقعها الطبقي.

– مراجعة علاقتها بالدولة، إلى أن أصبح كوادرها وقياداتها جزءا منها (الدولة)، وذلك هو المدخل العملي للوعي بالتوافق الطبقي بين البورجوازية الكبيرة وباقي الطبقات، وفوقيا بين إدارة الدولة والأحزاب السياسية الوطنية.

– اعتبار نضال الحزب جزءا من نضال ديمقراطي سابق عليه، وهو النضال الذي دشنه “حزب الاستقلال”، وأكمله “الاتحاديون” و”اليسار الجديد” بوعي أكثر نضجا وتقدمية.

– تأطير النضال الديمقراطي بالنضال الوطني، وذلك هو المدخل للوعي بالتطور التاريخي للرأسمالية كنظام اجتماعي لم يثبت على حال، ولم يجد سبيلا لحل مشاكله الداخلية –وما زال-إلا بالاستعمار، قديمِه (العسكري، ثم الاقتصادي والسياسي والثقافي) وجديدِه (الاقتصادي والسياسي والثقافي).

– جدلية بنيكران بين: الدعوة إلى حرية الرأي داخل “الحزب” في سياق، والدعوة إلى الالتزام بالقرار الحزبي في سياقات أخرى. وذلك هو المدخل للاختلاف في إطار الوحدة، وجعله غيرَ منافٍ لها. وهنا لا يجوز محاكمة حاضرٍ بماضٍ، فلكلّ منهما شرطه التاريخي الخاص به.

… إلخ.

سينتفض كثيرون بقولهم: “لقد ساهم الجميع فيما ذُكِر أعلاه، فلماذا تنسبونه لبنكيران وحده”.

ونحن نقول: “إننا لا ننكر فضل أحدٍ، ولكننا ننسب كل ما ذكِر لبنكيران لعدة اعتبارات:

– لأسبقيته في المراجعة، فبجرأته تنطلق قرائح غيره، وكثير من المؤصلين كانوا رافضين لما أبدعوا إبداع الأصوليين و”البنباويين” (نسبة لمالك بن نبي) في تأصيله وتنظيره.

– لانسجامه منذ أنْ نضج فكره وفارق مرحلة “المطيعية”. أما غيره، فإنهم يصيبون في هذه وتزل أقدامهم في أخرى، فلا يأخذون مثله بالحُسنَيات جميعها: التنظير، الممارسة العملية، السجال السياسي، النضال الديمقراطي، الوعي الوطني، التعاون، الصراع… إلخ.

– لأنه زعيم، وفي الزعيم يتكثف كل ما يتعلق بمعركة المرحلة، وكذا كل ما ينتجه غيره من فكر وممارسة تاريخيين.

… إلخ”.

لقد كانت “الحركة الإسلامية” لا جدلية منذ بدايتها، وقد كان بنكيران –وما يزال-فلتة قد تنْبِث الوعي الجدلي داخلها، وتلك هي أول خطوة لمأسسة التيارات داخل هذه “الحركة” (وبالتالي، داخل “حزب العدالة والتنمية”). لا بد إذن، من إقناع قيادات “الحركة الإسلامية” بنجاعة الوعي الجدلي. ولا بد بعد ذلك، من مأسسة التيارات داخل هذه “الحركة”.

فما هي أهمية هذه التيارات؟

وما هي شروطها؟

2-أهمية مأسسة التيارات داخل “حزب العدالة والتنمية”

يمر “حزب العدالة والتنمية” اليوم، من مرحلة جد صعبة أنتجتها عدة محطات من تاريخ “الحزب”:

– الانتقال من “الحركة” إلى “الحزب” على أساس إيديولوجي (الدعوة إلى الإسلام وتوسيع دائرة الشريعة في كل مجال من المجالات الحيوية للمجتمع)، لا على أساس الوعي السديد بالمغرب وإشكالياته التاريخية.

– إيقاف حركة التصحيح التي بدأ عبد الإله بنكيران قيادتها منذ ثمانينات القرن الماضي، وذلك تحت عدة أقنعة: “المصالحة مع الدولة” (والحقيقة أن بنكيران كان قائد هذه “المصالحة” منذ أن عرف “الإسلاميون الإصلاحيون” شيئا اسمه “المشاركة السياسية)، “أولوية الامتداد الثقافي” (فكرة مضلّلة ضمّنها يتيم في كتابه “العمل الإسلامي والاختيار الحضاري”، وكانت ذات معنى جدلي في تصور وخطاب بنكيران)، “نحن حزب أفكار وليس حزب أشخاص” (وهذا “حق أريد به باطل”، ف”حزب الأفكار” لا يتنافى مع الأدوار التاريخية للزعامة السياسية)… إلخ.

لقد انعكست هذه المرحلة التي يمر منها “الحزب” على واقعه الداخلي، فأنتجت تيارات لا تعلن عن نفسها بوضوح، تيارات غير مُمَأسَسَة، من أبرزها:

– التيار المحافظ: لأفراده مصالح يتخوفون عليها، قد تكون: مصالحَ مادية (الوزارات والدواوين والمقاعد البرلمانية)، وقد تكون مصالحَ اعتبارية (المسؤوليات الحزبية والمكانة “داخل الحزب”)، وقد تكون مصالحَ نفسية (الاطمئنان إلى ما هو كائن والثبات عليه والاعتزاز به، ويقع كل ذلك تحت كمّ هائل من الأماني والأحلام المعسولة).

– تيار الانفتاح الحداثوي: وهؤلاء هم من يشرفون على تزييف إشكالية حزب وطني ك”العدالة والتنمية”، بطرح نقاشات “الحريات الفردية” و”الديمقراطية التشاركية” و”حرية السوق”.

– تيار التغيير السياسي العولمي: وهؤلاء هم المتأثرون ب: “عولمة الثورة”، “عولمة الديمقراطية (حيث الخلط بين وضعية الانتقال الديمقراطي ووضعية الديمقراطية التمثيلية)”، “عولمة التجربة التركية”… إلخ.

– تيار التغيير السياسي الوطني: وهؤلاء قلّة قليلة، وهم في طور التشكل (مرحلة جنينية)، وجههم البارز في القيادة الوطنية هو “عبد الإله بنكيران” وآخرون لم يكتمل نضجهم بعد. الفكرة الأساسية لهذا التيار هي: تأطير النضال الديمقراطي بالمعركة الوطنية مع الاستعمار. فالاستعمار أولى بالمواجهة من غيره، وهذا لا يعني التراجع عن معركة الانتقال الديمقراطي ضد من يريد عرقلتها.

إنها تيارات كامنة اليوم، ولكنها تعتمل داخل “الحزب” بشكل متفاوت. والأَوْلى، هو مأسستها حتى تخرج للعلن، فيسهل تحديدها وتجاوز أخطائها وفضح الدخيل والعميل منها (بقصد أو بغير قصد) ودفع إمكان استغلالها من قِبل الآخر “غير الحزبي”، وهو الذي قد يكون محليا (طرف في “إدارة الدولة”، والحزب مطالب بالتوافق مع “إدارة الدولة” بوعي واستقلالية، وليس بالانصياع لها عن طريق “التحكم”)، وقد يكون أجنبيا (“أمركة قطرية” أو “أمركة إماراتية”)، وكله وارد وعليه قرائن.

3-شروط مأسسة التيارات داخل “حزب العدالة والتنمية”

لهذه المأسسة شروط، أهمها:

– أن يستحضر كل تيار أهمية “الوحدة” في تاريخ كل حزب سياسي، ومن ثم تأتي قناعته بممارسة الاختلاف داخل الوحدة، وفي سبيل تقويتها لا إضعافها.

– أنْ يفصح كل تيار عن نفسه بوضوح، بأسماء مناضليه وعلى أي أساس نظري وعملي يجتمعون.

– أنْ يصدر كل تيار ورقة خاصة به، تتضمن: رؤاه وتصوراته المنهجية والتفسيرية، بناءه النقدي للوضع القائم حزبيا ووطنيا وإقليميا وعالميا، برنامجه السياسي وخطته للخروج من الأزمة الراهنة للحزب، قراءته لواقع المغرب وتاريخه وذهنية الشعب المغربي… إلخ.

– أنْ يحذر كل تيار إمكانية استغلاله من قبل الآخر، الأجنبي أو المحلي. وطرق ذلك عديدة، أبرزها: الصناعة الإعلامية الأجنبية للتأثير داخليا، تيسير إمكانات الانشقاق إداريا وقانونيا وسياسيا… إلخ.

– أن ينطلق كل تيار من مرجعية “الحزب” وورقته المذهبية وأطروحات مؤتمراته ومختلف أوراقه، ليس بهدف الحفاظ على كل ذلك، وإنما بهدف مراجعته وتجاوزه (والتجاوز لا يعني الإلغاء) إذا اقتضى الحال.

– أن يبحث هذا التيار عن المبررات القانونية لوجوده في “الترسانة القانونية للحزب”، وإلا فليُفرض ذلك فرضا، فالقانون ليس وحيا منزلا، وتعديله وارد وفق حاجتنا التاريخية إلى ذلك التعديل.

… إلخ.

كل تيار لم يستحضر هذه الشروط عند تأسيسيه، سيجد نفسه أمام عدة احتمالات:

– فشل التأسيس.

– إحداث فوضى وردود أفعال مؤقتة.

– إمكانية التأسيس لفعل جادّ في المستقبل.

– القابلية للاستغلال من طرف الآخر، الأجنبي أو المحلي. وقد يكون هذا الاستغلال مؤقتا، كما أنه قد يستمر لفترة طويلة.

– شقّ الصف الداخلي للحزب، ونقض قاعدة “الاختلاف داخل الوحدة” (في شرط تاريخي يفرض الوحدة، درءا للخطأ التاريخي الذي سقط فيه اليسار المغربي حتى أصبح أجساما ضعيفة هنا وهناك).

… إلخ.

فلتحذر “التيارات الجنينية” كل حركة غير محسوبة، وكل خطوة غير واضحة، وكل نفَس عولمي لا وطني، وكل استغلال من قبل الآخر (أجنبي أو محلي). وغير ذلك، فالنضال النضال، والنقد النقد، فكل “ثابت” في الأرض زيفٌ.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M