ما سر هذا الغموض والإغلاق الذي يكتنف النص الفلسفي والكلامي والصوفي

16 أكتوبر 2020 12:18

هوية بريس – محمد بوقنطار

[email protected]

على سبيل التمثيل وأنت تطالع نصا كلاميا يناقش معنى الكسب عند الأشاعرة، أو مفهوم الاقتران بين السبب والمسبب، وحقيقة تأثير القدرة في الفعل من عدمها، وما تفرعت به مسالك المتكلمين من اختيارات متشعبة مطنبة في الجدال يكاد عقد العقل أن ينفرط من شدة عتمتها وقوة انحدار كتلته الآدمية…

وهب أنك ولحظة فراغك للتو من هذا الانكباب المحموم، فتحت دفتي مصنف فلسفي قد عمد صاحبه إلى ميل ينضح بالتحذلق والتقعر والالتواء الحلزوني جهة الشِمال، بحثا عن أو تنزيلا لمعنى قد يتيسر مباشرة بكل وضوح وسهولة، ومن أقرب الطرق وأسرع حركة إلى جهة اليمين…

ثم ما فتئت أن غالبت الملل فأقبلت من جهة التفكه ومغامرة الرغبة في الالتذاذ المتوهم، وسراب الجني السلوكي من التبحر في خيالات الاصطلاحات والإشارات وبواطن الحقائق والإيماءات والرموز التي تتميّز بها الكتابة الصوفية وموروثها المعرفي نظما ونثرا…

وللمطالع أو القارئ خاصة من سبق له أن جمع طلبا، وتذوق سليقة مجموع هذه الفواصل والمعطوفات السالفة الذكر، له أن يحكي حصيلة ذلك الجني الذي قطفه بجارحة البصر دون البصيرة.

لا زلت أذكر في هذا الدرك من الإشكال كلاما للشيخ أبي أويس بوخبزة الحسني رحمه الله ونوّر قبره، وقد طالعت تقديمه لكتاب تلميذه الشيخ مصطفى باحو حفظه الله المسمى “عقائد الأشاعرة” حاكيا حاله وحال من كان حاضرا معه من الطلبة، وهم بالمعهد الديني بالجامع الكبير بتطوان متحلقين حول فقهاء ومدرسين نابهين في درس التوحيد بالمرشد المعين لابن عاشر وأم البراهين للسنوسي، واصفا مجلِّيا مشخصا مبلغ حيرة الجميع في تفهم صفات المعاني والمعنوية والفرق بينهما والكلام النفسي  والاستواء في معنى الاستيلاء قائلا  :” وفغرت الأفواه ودهشت الألباب واضطربت الأفئدة واستولت الحيرة…وعبثا حاولنا الفهم، وأعلن الأستاذ أن هذا ما قرره العلماء فلنكتف به” وإنه لإقرار مردوف باستسلام عنوانه وحدّه الاكتفاء الذي يحيل على حقيقة أن وضع الإبهام والغموض ظل مشتركا بين الطالب والمطلوب والأستاذ.

ومن أعجب ما وقعت عليه عيني في هذا الأمر وقوفي على ما نُقل عن المفكر المغربي الأستاذ عبد الله العروي وكيف استشكل حد العجز فهم النسخة المترجمة للعربية لكتابه ” الأيديولوجيا العربية المعاصرة” حيث ساق بين يدي هذا الاستشكال نماذج ومقاطع وعيّنات من هذه الترجمة، ثم علّق عليها في غمرة من الحيرة الغالبة :”هذه ألغاز لا أجد سبيلا إلى حلِّها، مع أني كتبت الأصل، فكيف استطاع غيري أن يفهمها؟؟؟”

وهذا عميد أساتذة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط محمد عابد الجابري رحمه الله يعترف بهذه المغلوبية أمام سطوة هذا الإبهام الذي يتغشى النصوص الفلسفية المترجمة إلى لغة الضاد مقررا في تسليم :” أنا شخصيا عندما أقرأ كتابا ترجم في هذا العصر إلى العربية في موضوع فلسفي لا أفهمه”.

ولا نملك إلا أن نعطف بأنين آخر لكاتب متخصص مترجم للعديد من المصنفات الفلسفية هو الأستاذ هاشم صالح وهو يقول :” وأتذكر أنني كنت أشعر بالألم والحيرة عندما يقع بين يدي كتاب مترجم، ففي معظم الأحيان لم أكن أفهم ما يقوله بالضبط”.

ولا شك أن هذا الغموض والإبهام وما ترتب عليهما من شكوى وألم وحيرة لدى القارئ المتخصص، بله لدى أصحاب النصوص الأصلية المعبوث بترجمتها في عجز وغير عمد مدخول أو قصد مدخون، هو غموض وإبهام تمت تبيئته في الفرع بناء على موبوئية الأصل، الذي تتكلم وتقر بخصوصه شواهد الولادة والاستهلال المُوَرِّثِ أنه جاء إلى الوجود المعرفي مشبعا بتورمات معنوية وغيوم دلالية وشيفرات ظلامية، من أخرج يده بين أمواج لجتها لم يكد يراها، تورمات وغيوم وشيفرات لجأ إليها الفيلسوف الأب متعمدا أو ساقته إليها بالإكراه طبيعة المضمون الفلسفي ولونه الفاقع العتمة تحت طائلة إقحام العقل في فضول وتكلف هو فوق الوسع والطاقة والتحمل الآدمي، الذي تُعفى بالعدل جماهير الناس من معشر المكلفين وتتعطل آلة المحاسبة والمؤاخذة الربانية أمام استكراههم منه ورغبتهم عنه.

ولا جرم أن هذا عين ما يثيره الخطاب الصوفي من إشكاليات وخصوصيات عميقة الشذوذ ومتفردة الإقعاد، وهو الخطاب المشبع حد التخمة بالرموز والطلاسم والإشارات، التي لطالما أربكت حدود الفُهوم ومناطات التوقعات الباحثة في ضنك عن مراد الله ورسوله بين ثنايا تلبيسات هذا النمط من التواصل الدعوي، الذي قوامه الحرث في بقعة بور، والتقليب في بقيعة الخيالات التي ما فتئ أرباب السير يتجشمون عناء تنزيلها في عبارات وصيغ غامضة، يطبع نسيجها اللغوي وسياقها اللفظي خاتم العبث والارتجالية، والتي تؤثر باللازم وتصنع في المعاني والدلالات ضبابية وضمورا لا يحسه إلا من تجرع ذوقا هذا النوع من الخطاب المتماهي في آليات التشفير والإيحاء والرمزية السحيقة الغور، ولا يغرنك سكوت الساكتين وكتمهم لأنينهم الداخلي وحبس أنفاس البوح بهذا البؤس الذي يتملكهم وهم بين يدي أو يتخبطون في خضم هذا الغاسق النصي وقد سال حبره الفاقع السواد المتقطع الأنفاس.

وربما وجد المتجشمون  ـ مبتدعون ومريدون ـ في هذا الغموض ملاذا وحصنا ثوبيا ساترا علموا أنه متى ما تلاشى أو ترهل أو تخلى الصوفي أو انسلخ عن عباءته ناله من الجزاء ما ناله الحلاج من قصاص عندما تخلى وخرج عن طوق الرمزية والإشارة إلى صريح ومكشوف العبارة، حيث خرج إلى ما لا تحتمل عبارته التأويل، وما أجمع عليه علماء الأمة يومها بأنه زندقة ناقلة عن ملة الإسلام، فكانت النهاية نهاية مأساوية كما نقل لنا تاريخ السِّيَرِ بمروياته المتواترة السند.

ولربما تشدق أهل الحال والكشف بأن معارفهم اللدنية هي أوسع من لغة العوام والناس أجمعين، ولكن الناظر إلى هذه الظاهرة المتحرر من سكرة الانخراط يرى ويفهم أن هذا الإيغال في استعمال الرموز والإشارات والإيماءات والإيحاءات المشكلة لسطوة هذا الغموض، ما هو إلا إكراه ذو قوة قهرية يمارسها الناظم أو الناثر أو الشيخ الحالم على مريد نظمه أو نصه أو أضغاث أحلامه من أجل حصول المقصود أصالة من الإذعان والخضوع والاستسلام، الكفيل بقبول المريد وإقباله في غيبوبة بشبقية ونهم غريب على استهلاك هذا الموروث الدخيل والانخراط اللاعقلي واللاموضوعي في سلك طقوسه الضاربة في العته والدجل والخرافة، المخاصمة في لجوجة لمبدأ الإقناع البرهاني والإمتاع الدلالي، المستمدان من ذلك التشاكل والتجانس بين تنزيل رب العالمين ونقل المرسلين وعقل الحواريين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

ذلك التشاكل والتجانس البديع الذي حمل على سبيل التمثيل الفقيه المالكي أبا بكر الطرطوشي تلميذ أبي الوليد الباجي والإمام ابن حزم، حمله على التمييز بين مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في مسجده ومجالس المريدين مع شيوخهم في زواياهم قائلا :” الرقص دين الكفار وعبّاد العجل، وإنّما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير…”

وثمة سؤالين مهمين في هذا الباب، أمّا أولهما فذلك الاستفهام الباحث عن ماهية السبب العامل في حقيقة وجود ملحظ الغموض والإبهام  كمكوِّن مشترك بين ثنايا أنماط النصوص الثلاث؟

وثانيهما الاستفسار عن سر مجيء هذه الأنماط النصية مطبوعة بهذا الغموض والإبهام المربك حد القرف المردوف بغثيانه؟؟

فأما الاستفهام عن السبب العامل المشترك بين الأنماط الثلاث فمرده ومرجعه إلى وحدة مصدر النهل والتلقي، المثقل بآلياته التفكيكية الوافدة ذات الهوية الأجنبية الغريبة، والنفوذ الفكري الذي يشل الفك عن إذاعة الشكوى، والتلفظ بنية الهجر والمفارقة مخافة القدح في قوة الذهن والتلبس بتهمة قلة الفهم والنسبة إلى التصاغر أمام عمق نصوص النخبة كما هو الزعم والدعوى، وكلها أمور تصادف هوى في نفوس الكثيرين من مقتحمي عقبة هذا العسر حتى لا يحصل أي هبوط أو انكسار لمخزون النفوس من الأنفة والحمية الاجتماعية، ولا يخفى عن ذي بال أن كل من الفلسفة كفكر، وعلم الكلام كمنهج، والتصوف كسلوك وطقس تعبدي، كلها أنماط عبرت إلى المحيط المعرفي والسلوكي الإسلامي عبر جسور المدِّ والكرِّ الذي صاحب التوسع الدعوي للإسلام كدين جاء نبيّه مبشرا ونذيرا للناس أجمعين، ولذلك كانت هذه المعلبات الفكرية والمنهجية والسلوكية معروفة الهوية معلنة المسقط، فهي وإن كانت واحدة من حيث الإغراب، فهي كذلك متباينة بالنظر إلى مدنيات الانطلاق ونعني بها مدنية الإغريق والفرس والروم والهند والصين.

وأما الاستفسار عن سر الطبع بهذا الغموض وخاصة في صيغها المنقولة عبر آلية الترجمة، فمرده إلى أن كل من هذه الأنماط هي منتوجات أرضية الصنع سفلية الرقع، جازف أصحابها في غير حاجة ولا ضرورة مبحرين في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ظلمات، وجاء إبحارهم وكان من أجل تكوين رؤية عقلية عن عالم ما وراء الطبيعة من غيبيات علمنا أنها لا تدرك إلا من وراء وحي بشقيه من التنزيل والإرسال، ومن أجل تشكيل وجهة نظر موازية للجاهز من موروث النبوات، فناقشوا إلهيات وغيبيات وسبروا أغوار نفس وبواطن سرائر، كل ذلك بعقل محض معهوده ودُربته وصف الموصوفات المحسوسات من الجواهر والذوات والأعراض.

ولا شك أن من خبر واعتادت فطرته واستمرأت إجالة النظر وإرسال البصر في ميراث النبوة وتركة المرسلين، لم يفارقه الشوق إلى التسليم لنصوص الوحي والتقلب بين جنبات راحتها والاستلذاذ بنعيم أنسها وجنات ذكرها، كما حصل له الوقوف الحكيم بالذوق على أن بين هذا اليسر وبين ذلك العسر من الريب والمحن والإحن التي تتخلل هذه الأنماط الفكرية والسلوكية بون شاسع وخرق لا يرتق، وأنها أضداد للفطرة السليمة والصبغة السوية، التي جاء المرسلون بألسن أقوامهم، وأنزلت الكتب السماوية بلغاتهم من أجل إقامة الحجة على أصحابها من معشر المكلفين، ومن أجل بلوغ مرامي الشكر والإيمان اللذين تتعطل بحصولهما آلية التأديب والعقاب الرباني مصداقا لقوله تعالى :”وما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم”

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M