هدي الصحابة الكرام في رمضان

28 يونيو 2016 19:21
سلسلة أنواع القلوب (27) القلب الورع (1)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 28 يونيو 2016

يعتبر رمضان مضمارا للمؤمنين، يتسابقون فيه إلى تحصيل مرضاة ربهم، ويتنافسون في الطاعات والقربات، عسى الله -عز وجل- أن يكفر سيئاتهم، ويمحو خطاياهم. كيف لا، والله تعالى أعان المؤمن على نفسه، بأن جعل رمضان مناسبة للفوز بالجنة، ففتح له أبواب السماء، وغلق له أبواب الجحيم، وصفد له الشياطين؟ يقول جبريل -عليه السلام- لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: “شقِيَ عبدٌ أدركَ رمضانَ فانسلخَ منهُ ولَم يُغْفَرْ لهُ” صحيح الأدب المفرد.

ولقد مثل الصحابة الكرام هذا المنهج خير تمثيل، فكانوا يتنافسون في رمضان بأنواع كثيرة من أعمال البر، وصنوف متعددة من أفعال الخير، وهم الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: “خيرُ النَّاسِ قَرني، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ الَّذين يَلونَهم” متفق عليه. فكيف كان هديهم في رمضان؟

1- كانوا يعتنون بالفقير، فيعطونه من مالهم، ويقتسمون معه طعامهم، ويجلسونه للإفطار على موائدهم.

– فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، ما كان يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، ولربما امتنع عن تناول العشاء إن علم أن أهله منعوهم. وقد جاءه يوما أربعة آلاف درهم وقطيفة، فما بات ليلته حتى فرق الدراهم، وخرج في الصباح بالقطيفة على ظهره، ثم تصدق بها على مسكين.

وقال أبو السوار العدوي – رحمه الله -: “كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد مَن يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس، وأكل الناس معه”.

وقال بعض السلف: “لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاما يشتهونه، أحب إلي من أن أُعتق عشرة من ولد إسماعيل”.

وكان من السلف -كالحسن وابن المبارك- من يستحب أن يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويقوم على خدمتهم.

ولقد أفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَظفر بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال له: “أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ” صحيح سنن ابن ماجة.

وكان حماد بن أبي سليمان يفطِّر في شهر رمضان 500 إنسان، وكان يعطي بعد العيد لكل واحد مائة درهم.

وإنه لمن المفرح، ما صرنا نراه في الأعوام الأخيرة، من دعوات لتفطير الصائمين، عن طريق خيام تنصب لهذا الغرض، أو بتجهيز بعض المساجد بالتمر والحليب والماء. فكيف لو استمر هذا الجود والعطاء والكرم خارج رمضان؟ هل سيبقى فقير بيننا؟

2- وكانوا يعلمون أن المحروم من حرم ليلة القدر، وغفل عن قيامها، والاجتهاد في إصابتها في الوتر من العشر الأواخر. وهي ليلة خير من عبادة ألف شهر، أي 83 سنة وأربعة أشهر. قال بعض أهل العلم: “هي خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف غاية في العدد”. وهي ليلة “تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها”، يؤمنون على دعاء الناس، ويسلمون على أنفسهم وعلى المؤمنين في المساجد حتى يطلع الفجر. وهي سلام على المؤمنين القائمين، لا يمسهم فيها آفات. وهي الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ولذلك سميت ليلة القدر، لشرفها وعظم قدرها ومنزلتها. وقيل: لتقدير الآجال فيها، أو تقدير أعمال العباد في سَنَتِهاَ. قال – تعالى -: “فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ”. قال ابن كثير – رحمه الله -: “في ليلة القدر، يُفَصَّلُ من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمرُ السَّنَةِ وما يكون فيها من الآجال والأرزاق”.

3- وكانوا لا يتبرمون من إطالة الإمام في القيام – كما يفعل بعض الناس اليوم -. فقد كان قارئ الصحابة يقرأ بمئات الآيات، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قبل بزوغ الفجر.

قال عبد الرحمن بن هرمز: “كان القراء يقومون بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة، رأى الناس أنه قد خفف عنهم”.

وقال ابن أبي مليكة: “كنت أقوم بالناس في شهر رمضان، فأقرأ في الركعة: الحمد لله فاطر ونحوَها، وما يبلغني أن أحدا يستثقل ذلك”.

وكان كل ذلك منهم مزيد اعتناء بالعشر الأواخر من رمضان، تحقيقا لاتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي قالت عنه عائشة – رضي الله عنها -: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله” متفق عليه. وكان -صلى الله عليه وسلم- “يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها” مسلم.

قال الشافعي -رحمه الله-: “ويسن زيادة الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان”.

وقال النووي: “يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليه بالعبادات”.

وقال سفيان الثوري: “أَحَب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك”.

وكيف لا يغتنمون هذه الفضيلة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ” مسلم.

وتعظيما لليلة القدر المباركة، كان السلف يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر. وكان الإمام مالك – رحمه الله – يغتسل فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، ويتطيب، ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان.

وكان أيوب السَّختِياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويتطيب.

 وهذا على خلاف ما نراه اليوم، حيث يدب العياء إلى بعض الناس، فيتناقص عددهم في المساجد، وتثقل عبادتهم، ويقل حظهم من القربات.

قال ابن الجوزي: “إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار، بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك، فإنما الأعمال بالخواتيم.. فإنك إذا لم تحسن الاستقبال، لعلك تحسن الوداع”. وقال ابن تيمية – رحمه الله -: “العبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات”.

4- وكانوا يعتنون بالقرآن الكريم قراءة، وتدبرا، وعملا. وأظهروا في التنافس في هذا الباب ما لا ينقطع منه العجب. فهذا عثمان – رضي الله عنه – ، كان يختم القرآن الكريم في رمضان في كل يوم مرة. وكان بعض السلف يختم القرآن في قيام رمضان فقط كل عشر ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل ثلاث. وكان الزهري – رحمه الله – إذا دخل رمضان، يترك قراءة الحديث، ويقبل على تلاوة القرآن. وكان سفيان الثوري – رحمه الله – إذا دخل رمضان، ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.

وأثر عن قتادة – رحمه الله – أنه كان يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلةٍ.

فعلينا نحن – أيضا – أن نحاول ختم القرآن الكريم ولو مرة واحدة في رمضان، تكون شاهدا لنا يوم القيامة.

5- وكان من هدي الصحابة في رمضان أنهم كانوا يحفظون ألسنتهم عن الزور، والغيبة، والكذب، وقيل وقال، ويعتبرون الصيام الحقيقي صيام الجوارح عن الإثم، لأن ذلك مقصد الصيام وغايته. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ” البخاري.

وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب، والباطل، واللغو، والحلف”.

وقال جابر بن عبد الله  – رضي الله عنهما – : “إذا صمت، فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء”.

وعن مجاهد قال: “خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة، والكذب”.

وعن أبي العالية قال: “الصائم في عبادة ما لم يغتب”.

هؤلاء هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه عبادتهم في رمضان. قال تعالى: “أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M