الانقلاب على الشرعية.. من بن عرفة إلى السيسي

31 مايو 2014 20:52
الانقلاب على الشرعية.. من بن عرفة إلى السيسي

الانقلاب على الشرعية.. من بن عرفة إلى السيسي

ذ. حماد القباج

هوية بريس – السبت 31 ماي 2014

لا أجد ما أهنئ به الجنرال عبد الفتاح السيسي بمناسبة توليه (استيلاءه على) رئاسة مصر؛ خيرا من التذكير بتاريخ أشباهه من الخونة المنقلبين على الشرعية..

وفي هذا الصدد أختار نموذجا من تاريخ مغربنا المعاصر:

في 13 غشت 1953 أقدمت سلطات الاحتلال الفرنسي على عزل الحاكم الشرعي للمغرب الملك محمد الخامس رحمه الله، وجردته من صلاحياته وحقوقه السياسية، والسبب في ذلك أنه انحاز إلى الوطنيين واختار طريق النضال من أجل الحرية والاستقلال، الشيء الذي عرضه لمضايقات كثيرة ومساومات خطيرة لم يرضخ لها.

وقد شارك في هذه الجريمة (الانقلاب على الشرعية) زمرة من الخونة وضعاف النفوس؛ على رأسهم محمد بن عرفة الذي حمله حب السلطة على قبول العرض الفرنسي بتوليه حكم المغرب تحت ظل السيطرة الإمبريالية التي كانت تمثلها فرنسا وإسبانيا.

وهكذا عُين في غشت 1953 إماما، ثم بعد ذلك سلطانا.

ومن المشاركين في هذه الخيانة؛ عدد من الأعيان من رجال العلم والسياسة؛ من أمثال: الشيخ عبد الحي الكتاني والباشا التهامي الكلاوي..

يقول المؤرخ المغربي الأستاذ زين العابدين العلوي:

“كان الكلاوي قد استفاد كثيرا من مسألة نقل الإمامة إلى ابن عرفة، من “فتاوى” الكتاني و”شروحاته”.

أما الكتاني فكان ينطلق من حقد دفين على السلطان؛ إذ كان يرغب في الثأر لمقتل أخيه الذي هلك تحت سياط السلطان مولاي عبد الحفيظ”.

قلت: وقد كشف المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه “التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير”؛ أن المؤامرة ضد السلطان محمد الخامس كانت من تدبير التهامي الكلاوي الذي أصدر بياناً وقّع عليه 270 من الباشاوات والقواد؛ جاء فيه:

“إننا معشر القواد في مختلف الجهات المغربية ومن في دائرتهم من المغاربة رجال حركة المعارضة والإصلاح الممضين أسفله تحت رئاسة سعادة الباشا الهمام السيد الحاج التهامي المزواري الكلاوي؛ نتقدم بكل شرف إلى سعادة المقيم العام للدولة الفرنسية الفخيمة بما يأتي:

بما أن السلطان سيدي محمد بن يوسف خرج عن جميع رجال المغرب العاملين، واتبع طريقاً مخالفاً للقواعد الدينية بانتمائه للأحزاب المتطرفة غير المعترف بها وتطبيق مبادئها في البلاد؛ الشيء الذي جعله يسير بالمغرب في طريق الهاوية؛ فإننا بصفتنا كبراء المغرب وأصحاب الحل والعقد، ومن ذوي الغيرة على الدين الإسلامي؛ نقدم لسعادة المقيم العام وللدولة الفرنسية طلب عزل السلطان عن الحكم وتنحيته عن العرش وإسناد هذا الأمر إلى من يستحقه”اهـ.

وإذا كان هذا موقف الخونة المنقلبين على الشرعية؛ فإن أحد أبرز الأعيان في ذلك الوقت وقف موقفا شرعيا وطنيا بطوليا؛ ذلكم هو العالم الجليل شيخ الإسلام الفقيه سيدي محمد بن العربي العلوي الذي عارض الانقلاب على الشرعية بكل قوة؛ فأفتى بحرمة الخروج على السلطان محمد بن يوسف ورفض التوقيع على بيعة بن عرفة وأفتى بقتله، ورفض ضغوط المحتل التي طالبته بتهدئة المظاهرات العارمة التي شهدها المغرب إثر هذا الانقلاب.

تقول الأستاذة ثريا برادة في موسوعة “معلمة المغرب”:

“كان الفقيهُ؛ العالمَ الوحيدَ الذي لم يوقع على بيعة بن عرفة، ويُحكى أنه حينما طلب منه التوقيع؛ نزع عمامته من فوق رأسه قائلا:

“هل بعد أن شاب شعري أقوم بتوقيع ما أعتبره غير الحق، وأخون ملكي وبلدي؟؟

لن أوقع حتى ولو قطعتم يدي”.

ونادى بالجهاد في سبيل الله، وأفتى بعدم شرعية مبايعة ابن عرفة انطلاقا من المذهب المالكي الذي يقضي بأنه إذا بويع إمامان يقتل الثاني.

كما رفض أن يشارك في فتوى وقعها عدة علماء تُدين المقاومين بالسلاح، وتبيح الحكم عليهم بالإعدام؛ فقامت السلطات الاستعمارية بنفيه من جديد إلى تزنيت”اهـ.

لقد انتفض الشعب المغربي -تتقدمه الحركة الوطنية- ضد الانقلاب على الشرعية؛ وأطلق الزعيم علال الفاسي نداءه الشهير المعروف بنداء القاهرة (نداء لتشكيل تحالف وطني لدعم الشرعية)؛ قال فيه:

“لقد قُضي القضاء، وبلغت الغطرسة بالفرنسيين إلى حد أن يبعدوا ملكنا الشرعي.

نعم لقد توجه (الجنرال جيوم) اليوم بعد الظهر إلى القصر الملكي بالرباط، محفوفا بالجيوش والدبابات الفرنسية، وطلب من جلالة السلطان أن يتنازل عن العرش.

ولكن جلالته رفض بكل إباء وشمم؛ فما كان من ممثل فرنسا إلا أن نفذ الجريمة النكراء فأسر الملك وولي عهده الأمير مولاي الحسن وأخاه الأمير مولاي عبد الله، حيث نقلته طيارة حربية إلى منفى كورسيكا..

وإنني كزعيم حزب الاستقلال وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين؛ أعلن رسميا أن الملك الشرعي لمراكش (يعني: المغرب) كان وسيظل هو محمد الخامس، وأن ولي عهد المملكة الشريفة هو مولاي الحسن النجل الأكبر لسلطان مراكش.

وإننا لن نعترف بأي سلطان أو رئيس صوري تنصبه السلطات الفرنسية باسمها أو باسم أذنابها أو من ترغمهم بالقوة على ذلك” اهـ.

وبسبب هذه المواقف الشرعية “تنامت مشاعر الكراهية ضد ابن عرفة؛ ورفض المغاربة من أول جمعة الصلاة باسمه، وهجروا المساجد، وبدأت المحاولات لقتله منذ الأيام الأولى بعد النفي؛ في 21 غشت بالرباط، وفي 28 غشت بمكناس، وفي 4 غشت بفاس .

وبعد يوم واحد من الانقلاب على الشرعية في المغرب؛ قدمت جمعية علماء المسلمين الجزائريين موقفها في جريدة البصائر، وذلك بالتأكيد على النقط التالية:

1- استمرار إمامة سيدي محمد بن يوسف ولزوم طاعته بالنسبة لجميع المغاربة.

2- بطلان إمامة السلطان المفروض محمد بن عرفة.

3- مروق العصابة الكلاوية والكتانية من الدين، وتبرؤ الإسلام منهم لخيانتهم ونكثهم العهد ورفعهم السلاح في وجه إمامهم الشرعي.

4- استنكار موقف الحكومة الفرنسية المخالف لتعهداتها، ويعتبرون عملها احتقارا لعواطف جميع المسلمين ومحاربة الإسلام.

وفي 11 شتنبر 1953 تمكن مغربي (كان يعمل صباغا) واسمه علال بن عبد الله؛ من الاقتراب بسيارته من موكب ابن عرفة وهو متوجه لصلاة الجمعة؛ فداهم الموكب، وصدم فرس ابن عرفة وحاول طعنه بسكين، لولا أن قفز إليه أحد ضباط الأمن، ووجّه إليه طلقات نارية أردته قتيلا.

ولم تمر خمسة أشهر على هذه العملية؛ حتى تلتها أخرى كادت تودي بحياة ابن عرفة؛ كان ذلك يوم الجمعة 5 مارس 1954 إذ تعرض أثناء تلاوة خطبة الجمعة بمسجد بريمة في مراكش لقنبلة ألقيت عليه وهو راكع فجرح في حاجبه وغادر المكان، وهو مضرج بالدماء، وتكفل الكلاوي وأبناؤه باغتيال منفذ العملية في عين المكان .

وفي ما بين غشت 1953 وديسمبر 1954، أي في غضون سبعة عشر شهرا؛ كانت مصالح الأمن قد سجلت 1991 حادث عنف مرتبط باندلاع الأزمة التي فجرها نفي محمد الخامس أي بمعدل 117 حادثة في الشهر.

وعلى الرغم من صدور أحكام بالإعدام والسجن في حق الكثيرين؛ فإن جو الاضطراب والحذر ظل مسيطرا على البلاد طيلة سنة 1954 .

وتزايدت ضراوة المقاومة؛ مما أدى بفرنسا إلى اقتراح رجل ثالث يحل محل ابن عرفة بقبول محمد الخامس.

لكن الحاكم الشرعي رفض بشكل قاطع، وحاولت فرنسا أن تمضي في هذا المقترح وسعت ليكون مولاي الحسن بن المهدي هو الرجل الثالث؛ لكن هذا الوطني المخلص رفض وبقي متمسكا ببيعة الملك محمد الخامس وبالوحدة الترابية، رافضا كل تآمر على الشرعية.

هذه المقاومة أكرهت فرنسا على عزل ابن عرفة وإرجاع محمد الخامس من منفاه، وأعلنت في (إيكس ليبان) نيتها منح المغرب “استقلالا” في 2 نونبر 1955..

من الحالة المغربية إلى الحالة المصرية؛ نلاحظ تطورا مهما في دهاء الإمبريالية التي ترسخ الظلم والاستبداد في دول العالم الإسلامي؛ ويكمن هذا التطور في عملها على خلق أجهزة عسكرية وأمنية ونخب سياسية وقضائية وإعلامية، تتكون من أبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألستنا؛ وهم ينوبون عن المحتل في تنفيذ سياساته الجائرة وفرض حكام ينقلبون على الشرعية؛ لم يكن أولهم محمد بن عرفة وقد لا يكون آخرهم عبد الفتاح السيسي..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M