حول ضرورة إبادة العاميات العربية

23 أغسطس 2014 19:06

أسامة مغفور

هوية بريس – السبت 23 غشت 2014

قد يبدو هذا العنوان متشنجا ومستفزا لكل من يحرص على خصوصيته القبلية والقطرية الضيقة، وصادما لكل الداعمين للعاميات والمطالبين بالتدريس بها. وسيبدو مستغربا لكل من حنط اللغة العربية في القرآن وكتب الحديث والشعر ومنعها من الوصول إلى اللسان لتكون أداة للتواصل في البيت والشارع والمدرسة والعمل، وحرمها من القيام بدورها الحضاري الحقيقي واستعاض عنها بعامية هجينة تعافها حتى مطارح النفايات.

وقد يصل بالبعض إلى حد تسفيهي وتكفيري واتهامي بالتعصب والطعن في آيات الله مرددا على مسامعي الآية الكريمة: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين}. وسيأتيهم ردي مزلزلا، فحاشا أن يدافع الله، بعزته وجلاله، عن الرطانة والهجانة واللسان المسخ الملوث. إن الله جميل يحب الجمال، ولا جمال ولا أناقة إلا في اللسان العربي الفصيح. والعامية خراب ودمار للسان وحرب مفتوحة وجريمة كبرى في حق اللغة العربية، يستحق المتحدث بها المثول أمام محكمة الجنايات. ولو كان سيدنا عمر بن الخطاب بيننا لجلد الملايين منا مائة جلدة بتهمة فساد اللسان وإفساد الذوق العام، هو الذي كان معروفا عنه شغفه باللغة العربية ودفاعه عنها ودعوته للمسلمين لإتقانها حديثا وكتابة وتعليمها للناشئة وجعلها بمثابة الركن السادس من الإسلام.

قد يأتيني آخر مستهجنا ثائرا يعاتبني على تطرقي لموضوع العامية المتجذرة في مجتمعاتنا العربية، بينما أهلنا يُذبحون في غزة وتقصف بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم ومشافيهم فوق رؤوسهم أمام صمت العالم وتآمر النظام الرسمي العربي. فأجيبه بأن القسام قد نفض يده من العرب ولم يعد يطلب عونا ولا بندقية ولا مالا ولا مظاهرة ولا حتى دعاء. وبات علي اليوم، لغسل عاري وعار كل العرب الصامتين، أن أخرج إلى الساحات العامة عاري الصدر أهدي جسدي إلى طائرات الإف 16 لتمزقه أشلاء وتضعه إلى جانب أشلاء أطفال غزة.

يطالبنا القسام فقط بعدم التآمر على حقوقه المشروعة في الكرامة والعيش الكريم واستنشاق الهواء. فله من القوة والعتاد والرجال والعزيمة والإيمان بالله وبعدالة قضيته ما سيمكّنه من دحر الاحتلال الغاصب وتحقيق أهدافه ولو بعد حين. فهؤلاء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر طالبا النصر أو الشهادة. وصراعنا كعرب مع الصهيونية قضية وجود بين أن نكون أو لا نكون كأمة عربية مجيدة، لا خلاف ديني بين المسلمين واليهود كما يتوهم البعض. فاليهودية كما كل الشرائع السماوية دين محبة وتسامح واحترام للآخر، وأن الصهيونية هي من حرفت هذا المسار وحولته إلى أيديولوجية دموية فاشية تمارس القتل العمد والتدمير لمدنيين آمنين.

وهناك قلة من اليهود الأحرار الشرفاء من يتنصل من الصهيونية ويرفض حتى فكرة قيام دولة يهودية فوق أرض فلسطين ويدين أكثر من المتصهينين العرب حرب الإبادة الجماعية الممارسة حاليا. وهذا الصراع لن يتوقف بتحرير غزة ورفع الحصار عنها، بل هو صراع حضاري طويل الأمد يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. ومشروعنا القومي العربي الذي نريده للأمة يتناقض كليا مع المشروع الصهيوني ويتعارض معه. وهو لن ينجح كمشروع نهضوي وحدوي إلا عندما سيضع اللغة العربية الفصيحة على رأس أولوياته ويبيد عن بكرة أبيها كل العاميات العربية من المحيط إلى الخليج. فالعربية الفصيحة هي أولا وقبل كل شيء لغة للسان وللتواصل اليومي، في حلة راقية وأنيقة، في البيت وفي الشارع وفي الإعلام وفي المدرسة وفي العمل.

وهي ثانيا للتدريس والكتابة والعمل والبحث العلمي بكل تخصصاته. فهي عنوان وحدة العرب ورمز هويتهم. ومن غير المعقول أبدا أن يلجؤوا إلى عامياتهم لتكريس التفرقة والتشرذم وتعميق الفجوة بينهم. كما أنه من غير المقبول أن تظل العامية العربية المغربية المسماة دارجة صعبة الفهم لدى إخواننا في المشرق والخليج وأن تحل العامية المصرية محل اللغة العربية كلسان مشترك للتواصل بين العرب بحكم سيطرتها على وسائل الإعلام والصناعة السينمائية.

سيأتيني سائل يسخر مني ومن دعوتي مرددا: لمن تحكي زابورك يا داوود يا ملك أحلام اليقظة والخيال العلمي الذي لا ينضب، ومجتمعاتنا العربية الشفوية تتلذذ في قبليتها وفي عامياتها المتجذرة في النفوس وتنتصر للتخلف والأمية وتكره المعرفة، وإنه من المستحيل القضاء على هذا الركام الهائل من العاميات بجرة قلم وبين عشية وضحاها. سنجيب الأخ الفاضل إننا أمام مشروع حياة يتطلب نَفَسا عميقا ونضالا مريرا وصبرا وعنادا وجهدا تساهم فيه كل أطياف المجتمع من العامل البسيط إلى المثقف الواعي بدوره ومسؤولياته تحت تأطير قائد وطني مخلص محنك يرفض الارتهان لإملاء ات باريس، وإعلام هادف يعمل على تحسيس المواطن بضرورة القضاء على عاميته وتعويضها باللسان العربي الفصيح، وصناع قرار وأحزاب سياسية ومنظمات أهلية تمتلك الجرأة السياسية لتدمير العبث وإعادة بنائه بشكل سليم.

ولي أن أذكّر كل الانهزاميين الذين يسخرون من دعواتي ويعتبرونها ضربا من الجنون وشعورا بالعظمة وغرقا في أحلام الخيال، بتجربتين رائدتين نجحتا في إعادة هيكلة كل المجتمع على أسس جديدة وفرضتا كل المتغيرات على الأرض بطريقة مرنة ومدروسة وبخطة علمية. أولاهما التجربة الكمالية في تركيا، رغم تحفظاتنا على علمانيتها المتطرفة ومحاربتها للإسلام، التي استطاعت أن تفرض الحروف اللاتينية على المجتمع وتهمش الحرف العربي. والثانية في أوروبا (فرنسا نموذجا) حيث تمت إبادة عشرات العاميات الجهوية وفرض وتوحيد الشعوب حول لغات عالمة جامعة تستعمل في التواصل اليومي وفي المدرسة.

إذن فإبادة العاميات العربية ليست أمرا مستحيلا ولا ضربا من الخيال. كل ما يلزمها هو الاقتناع الشخصي بعدالة القضية ووجود محامين بارعين للدفاع عنها ثم الاقتناع المجتمعي بالدور الخطير الذي تلعبه العاميات العربية وبمسؤوليتها التاريخية في فشل كل التجارب التنموية.

إن إبادة العاميات العربية واللجوء إلى اللسان الفصيح في التواصل اليومي وفي العمل ضرورة ملحة ومشروع حضاري نهضوي وحدوي للأمة يهدف إلى ردم الشرخ اللساني بين أفرادها وإخراجها من دائرة التخلف والجهل والتبعية لقوى الاستعمار والارتقاء بها نحو بناء مجتمع معرفي حداثي منسجم مع ذاته العربية وهويته تنقشع منه سحب الأمية وتبزغ شمس التنمية الشاملة المبنية على أسس متينة وعلمية رصينة. وليس من الغريب أن يدافع عن العامية اليوم تيار فرنكفوني عميل متحالف مع السلطة ومع تيار عرقي يعادي عروبة المغرب بطريقة هستيرية ويعمل على تمزيق أوصال الأمة ومنع توحد لسانها وتفتيتها قطريا وإضعافها وتقزيمها لغويا وحضاريا وتحويلها إلى جماعات من الخراف تكتفي فقط بتطبيق ما تمليه عليها دوائر القرار في باريس صاحبة الأمر المطلق.

إن الدعوة إلى إبادة العاميات العربية التي نطلقها اليوم هي حملة وصرخة في وجه من يعنيهم الأمر، ونداء لتحريك المياه الآسنة نوجهه لكل المثقفين العرب ولكل أتباع ومريدي المفكرين العربيين الكبيرين محمد عابد الجابري والمهدي المنجرة لإحياء وإعادة قراءة نظرياتهما والضغط على المجتمع وعلى صناع القرار لإيجاد السبل الملائمة لتطبيقها على أرض الواقع. فكلاهما آمن بالدور المحوري للغة العربية في أي مشروع نهضوي للعرب. والجابري كان إلى جانب جورج طرابيشي، من أهم المفكرين الذين استطاعوا تفكيك العقل العربي ودراسة اختلالاته ونواقصه في أبحاث كرس لها كل جهده ووقته وحياته. ولعل من أهم استنتاجات الجابري هو أن لا نهضة للعرب دون إبادة عامياتهم وتعويضها باللسان العربي الفصيح في التواصل اليومي وفي العمل، لاستعادة كرامتهم ووضع حد نهائي لتبعيتهم اللغوية والثقافية والاقتصادية لقوى الاستعمار. والتنمية لن تنجح إلا عندما تكون لغة البيت والشارع هي نفسها لغة المدرسة والعمل والمعرفة.

وما دامت العاميات العربية من المغرب العربي إلى الخليج متخلفة عن الركب المعرفي وملوثة وهجينة فهي لا يمكن أن تلعب أي دور في هذه التنمية وحان وقت وأدها حية ودفنها دون جنازة، فالمسخ لا يُصلّى عليه. واللغة الوحيدة العالمة الجامعة التي ستخرجنا من ورطة هذا التخلف هي اللغة العربية ولا لغة سواها. ومن المؤسف أن يتغاضى المثقفون عن هذه النظريات ويتعاملوا معها بتجاهل وازدراء ويكرسوا سيادة العاميات ولغة المستعمر باسم الانفتاح على الآخر.

إن الرد العملي والهجومي المباغت على هذه الحملة المحمومة لدعاة العامية المدعومين من السلطة هو إطلاق مشروع إبادة العاميات يقوده مثقفون وطنيون مخلصون للأمة يتمتعون بالجرأة اللازمة ويتمسكون بحرية الفكر بعيدا عن المتاهات السياسوية الضيقة، والعمل على تنفيذه بطريقة سلسة تبتعد عن التشنج والتعصب. لقد آن الأوان لحمل مشعل الجابري وإكمال مشواره الحضاري النهضوي للعرب الذي يضع اللغة العربية في قمة الأولويات.

إن إبادة العاميات العربية لن يتحقق بين عشية وضحاها. والحلول التي نقترحها تتم على مراحل ويمكن أن نوجزها فيما يلي:

1ـ أول خطوة لتحقيق هذا الهدف هي القضاء على الأمية والتأسيس لمجتمع معرفي يقرأ ويكتب.

2ـ تأتي بعدها مرحلة إفراغ اللسان من كل ما لوثه من مصطلحات أجنبية

3ـ الاعتماد على لغة عربية سليمة وسيطة ومبسطة للتواصل، تلائم العصر ويسهل فهمها من قبل العامة

4ـ الحرص على تعليم الناشئة اللغة العربية والتواصل معهم باللسان الفصيح داخل البيت

5ـ الاعتماد على المدرسة وعلى الإعلام لنشر الوعي داخل المجتمع وتحسيسه بضرورة التواصل باللسان العربي الفصيح والتخلي عن العاميات والعمل على أن تكون لغة المدَرّس والمدرسة عربية فصيحة، هي نفسها ما يسمعه في البيت.

إن ما جرني لهذه الصرخة المدوية لإبادة العاميات العربية، هي هذه الحملات المحمومة والسهام المسمومة التي تتلقاها اللغة العربية من قبل تيار فرنكفوني وآخر عرقي استأسدا على المجتمع بدعم من السلطة، وباتا ينتصران للعامية العربية المغربية مطالبين بالتدريس بها بهدف تمزيق المغرب وتقزيمه وإبعاده عن محيطه العربي الذي ينتمي إليه هوية وثقافة. والواقع يقول إن العامية المغربية من أكثر العاميات العربية هجانة ورطانة وتلوثا، وهي تثير في نفسي اشمئزازا وحساسية مفرطة تصيبني بالدوار وبآلام حادة في دماغي وبطني وتحدث طنينا في أذني. وكم أنتظر بفارغ الصبر أن أنهي حديثي بها مرغما لأعود إلى بيتي وأغتسل لإزالة عارها عن لساني وجسدي وأرجع إلى ذاتي أكلمها وأكلم أبنائي باللسان العربي الفصيح. حينذاك أسترجع حيويتي ونشاطي وأستعيد البسمة على محياي وأدخل من جديد إلى عالم الأحياء بعد أن غادرتهم لحظات، مرغما، عندما ذهبت إلى سوق الخضار.

ربّ احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وشد أزري بإخوة يحملون معي همّ العربية كي نحمدك كثيرا ونخلص قومنا من فساد عامياتهم ونعيد العربية الفصيحة إلى لسانهم. ربنا إنهم ظلموا أنفسهم بابتعادهم عن لغتهم الأصيلة واستعاضوا عنها بلسان هجين يكرس القبلية والقطرية والتشرذم والتخلف.

رب اهد قومي فإنهم لا يفقهون.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M