كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (ح1)

12 فبراير 2015 22:55
كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (ح2)

كم قارض للأعراض، وعرضه بين شقي المقراض؟ (1)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الخميس 12 فبراير 2015

من المسلم به أن معظم ما تعيشه الأمة الإسلامية -اليوم- من مشاكل الحياة، إنما هو بسبب ضعف التحصين الداخلي، المبني على القواعد الشرعية المبثوثة في الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.

وقد وقفنا من ذلك على عنصر الأخوة الإسلامية، الذي اعتبرناه إكسير العلاقات الطيبة بين المسلمين، وسبيل نشر الود والمحبة بينهم، وطريق الإصلاح تعميقا لسلامة العلاقة المتينة بين أفراد مجتمعاتنا، وتقليصا من أسباب الخصام والشجار بينهم، وإصلاحا لكثير من مشاكلهم اليومية، نريد وضع اليد على إحدى الصفات الجليلة، الجديرة بنشر الود والمحبة بيننا، والتمكين للإصلاح الاجتماعي، والاقتصادي، والتربوي، والنفسي لأبناء أمتنا، والتخفيف من غلواء نزعة الفضول فينا، وانمحاق فورة تشوف النفس لأعراض غيرنا، والتنزه عن إساءة الظنون المفسدة للأخوة الواجبة، المهدمة لأركان المحبة المطلوبة.

فما أكثر الخلافات بين الناس بسبب سوء الظن؟ كم جر من الويلات على الأصدقاء ففرق بينهم، وعلى أفراد الأسر فشتت شملهم، وعلى الجيران فخاصم بينهم، وعلى الطوائف فأشعل الحرب بينهم، وعلى زعماء الدول فزرع المؤامرات والفتن بينهم.. ولو حسن ظن بعضهم ببعض، لاستحالت العداوة أخوة، والمؤامرة مؤازرة، والخصومة محبة، والفتنة سلما وأمنا وسعادة.

حسن الظن هو: ترجيح جانب الخير في أخيك على جانب الشر، أن تنشر حسناته، وتستر عوراته. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ“. قال ابن كثير -رحمه الله-: “يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأقارب والأهل والناس في غير محله، فَيَجتنب كثيرا منه احتياطا”.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًامتفق عليه.

وفي قوله: “إياكم” تحذير شديد من هذا المرض القلبي الخطير، الذي يفتك بنفس صاحبه، ويحمله على الكبر والاعتداد بالنفس، التي يجعل منها قاضيا يحكم على الناس، وكأنها مبرأة من كل عيب حتى تراقب عيوب الناس.

قال الغزالي -رحمه الله-: “اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك.. وسبب تحريم سوء الظن أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب.. وما لم تشاهده بعينك، ولم تسمعه بإذنك، ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه، فإنه أفسق الفساق”.

ذلك أن حرمة المؤمن عند الله عظيمة، لا يجوز انتهاكها ولا تقحمها. استمع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يفضل حرمة المؤمن على حرمة الكعبة قبلة المسلمين، ويقول: “مرحباً بكِ من بيتٍ، ما أعظمَكِ، وأعظمَ حرمَتَكِ! ولَلْمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند اللهِ منكِ، إن اللهَ حرّم منكِ واحدةَّ، وحرّمَ مِنَ المؤمنِ ثلاثاً: دمَه، ومالَه، وأن يُظَنَّ به ظنُّ السُّوءِالصحيحة.

لقد حسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مادة سوء الظن بالمسلم، وأعلم المسلمين أنها مما يزرع في النفس الوساوس والاتهامات بالباطل. فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ -زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: “كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ“. فَقَالاَ: “سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ”. قَالَ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّامتفق عليه.

إن أصحاب القلوب النظيفة يشتغلون بعيوبهم، ويُقوِّمون اعوجاج نفوسهم، ولا يلتفتون لتتبع أحوال الناس: أين خرجوا؟ ومتى سافروا؟ وماذا عملوا؟ وكيف تملكوا؟ وماذا لبسوا؟ لهم من ذنوبهم شغل يحجزهم عن الفضول الذي يغذيه الفراغ، وقلة العلم، وضعف الإيمان، ويوقع في الإثم. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا: الاِسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّصحيح سنن أبي داود.

بل إن هذا الفعل المشين يوقع في ضد نية صاحبه. قال بكر بن عبد الله المزني: “إذا أردت أن تنظر العيوب جملة، فتأمل عيّاباً، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب”.

وقال -أيضا-: “إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِه”. و”من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيهصحيح سنن ابن ماجة.

وفي المقابل، يقول أحد السَّلف: “أدركتُ قوماً لم يكن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوباً. وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عُيوب الناس، فنُسِيَت عيوبهم”.

فإذا رأيت رجلا مع امرأة -مثلا- فلا تظنن به سوء قبل أن ينكشف أمره، وقل: لعلها زوجته، لعلها أخته، لعلها إحدى قريباته، لعلها امرأة تسأله حاجة. ولو طرقتَ باب فلان فلم يجبك، أو هاتفتَه فلم يرد عليك، أو ناديته في الطريق فلم يلتفت إليك، فاحمل موقفه على الظن الحسن.

تأن ولا تعجل بلومك صاحبا***لعل له عذرا وأنت تلوم

ومن حسن ظن السلف أنهم كانوا يقولون: “التمس لأخيك سبعين عذرًا”.

وقال ابن سيرين -رحمه الله-: “إذا بلغك عن أخيك شيء، فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لا أعرفه”. وهو تطبيق عملي لقوله تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا“. قال أبو حيان: “فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في أخيه، أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين”.

وعن سعيد بن المسيب قال: كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك. ولا تظنن بكلمة خرجت من أمرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا. ومن عرَّض نفسه للتهم، فلا يلومن إلا نفسه. ومن كتم سره، كانت الخِيَرة في يده. وما كافيتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه”.

لا تكشفن مساوِي الناس ما ستروا***فيهتك الله سترا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا***ولا تعـب أحداً مـنهم بما فـيكا

إن سوء الظن هو الذي هز أركان بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لحظة اتهام جائر لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك، التي نزل فيها قرآن ينبه المؤمنين على ضرورة حسن الظن بمن عُلم عنه الصلاح وحسن الأخلاق. قال تعالى: “لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ“. قال الخازن: “والمعنى: كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظَّن، ولا يسرعوا في التُّهمة وقول الزُّور فيمن عرفوا عفَّته وطهارته”.

ولذلك لما قالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب: “ألا تسمع ما يقول النَّاس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب. أكنتِ أنتِ يا أمَّ أيوب فاعلة ذلك؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، فقال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله، هذا بهتان عظيم”.

فلماذا هذا الفضول الذي لا يجلب إلا العداوة، ولا يدعو إلا إلى المنافرة والمباغضة؟ فضلا عن الإثم الذي يسرق الحسنات، ويورث الندامات. كان الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: “مَن أحب أن يختم له بخير فليحسن الظن بالناس”.

وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن سفيان بن حسين قال: “ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوتَ الرومَ؟ قلت: لا. قال: فالسِّند والهند والترك؟ قلت: لا. قال: أفَتسلَم منك الروم والسِّند والهند والترك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟ قال: فلَم أعُد بعدها”.

وقال بكر بن عبد الله المزني: “إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ باخيك”.

إذا ساء فعلُ المرءِ ساءتْ ظنونُه***وصـدَّق ما يـعـتـادُه مـن تـوهُّـمِ

وعـادى محـبِّــيـه بـقـولِ عِـداتِــه***فأصبح في دَاجٍ من الشَّكِّ مظلمِ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M