د.الريسوني يكتب: ضرب الزوجات.. التباسات وتصحيحات

23 يوليو 2024 09:40

هوية بريس- د.أحمد الريسوني

ضرب بعض الرجال لزوجاتهم قضية تكتنفها التباسات وشبهات عديدة، تحتاج إلى تمييز وتفكيك وتوضيح. ولطالما تلقيتُ أسئلة بشأنها من عدد من النساء والرجال.
فبعضهم يسألون بشكل محدد عن الضرب الوارد في قوله تعالى في سورة النساء (الآية34): {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}؟
وبعضهم يرون أن هذه الآية هي التي تعطي المشروعية – أو الضوء الأخضر – لما يقع من ضرب للزوجات؟
فلذلك تعيَّنَ الجواب والتوضيح لما يحيط بهذه القضية من التباسات وشبهات وتساؤلات..
المسألة الأولى: الضرب المعروف بين الناس مجرَّم، ولا علاقة له بالآية
الضرب الذي تتعرض له بعض النساء على أيدي أزواجهن، ويدخل فيما يسمى اليوم: العنف ضد المرأة، ونرى من صوره وآثاره ما نرى، ونسمع عنه ما نسمع، كله عدوان محرم آثم، يستوجب العقوبة في الدنيا والآخرة، ولا علاقة له بما في الآية المذكورة، كما سأوضح قريبا.
وكون هذا الضرب والتعنيف واقعا من الزوج على زوجته، لا يُخرجه عن كونه اعتداء وظلما، ولا يمنحه أي شرعية أو تساهل، ولا يقلل من عدوانيته وما يستحقه من تجريم وعقوبة. بل قيام العلاقة الزوجية الشرعية بين المعتدي والمعتدى عليها هو ظرف مشدِّدٌ ومغلِّظ للجريمة وعقوبتها، وليس العكس كما يظن البعض؛ وذلك لكونه مضادا لطبيعة العلاقة الزوجية، وهادما لمقاصدها ولما تستوجبه من سَكَن ومودة وتراحم وتسامح.
المسألة الثانية: أسباب الضرب الشائعة لا مكان لها في الآية
إذا بحثنا عن الأسباب التي لأجلها يضرب بعض الرجال زوجاتهم، فسنجد فيها كافة الشؤون التي عادة ما تثير الاختلاف والجدال والخصومة والتوتر بين الزوجين، سواء تعلقت بأشغال البيت، أو بالعمل خارجه، أو بشؤون الأولاد، أو بوقت النوم والاستيقاظ، أو بالدخول والخروج، أو بالنفقة والتدبير المالي، أو بالعلاقة مع الأبوين، أو مع غيرهم من الأقارب والأصدقاء والجيران…
يضاف إلى ذلك أن من أسباب استشراء العنف وارتفاع خطورته ضد النساء في العصر الحديث، تعاطي الزوج للخمر أو المخدرات أو القمار أو الدخان…
وكثير من الأزواج يتخذون من الضرب وسيلة للإقناع والإخضاع وتصريف الغضب والانتقام، أيّاً كان موضوع النزاع وسببه.
وهذه الأسباب والدوافع كلها ليس منها شيء داخلا في موضوع الآية الكريمة، أو يمكن تبريره بها.
وأما الضرب المذكور في الآية، فله سياق واحد وسبب وحيد، هو “النشوز” من الزوجة، وتماديها فيه، رغم جميع المحاولات.
المسألة الثالثة: معنى النشوز في الآية؟
النشوز المذكور في الآية – {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ…} – يُذكر له عند المفسرين معنيان متداخلان:
أحدهما عام: يشمل كل أشكال الاستعلاء والعصيان والتمرد من الزوجة على زوجها.
والآخر خاص: ينحصر في تمنع الزوجة من المعاشرةَ الجنسية لزوجها.
والحقيقة أن المعنى الأول لا سند له إلا أصل المعنى اللغوي لكلمة “نشوز”، وهو الارتفاع والعلو. وبناء عليه قالوا: نشوز الزوجة هو علوها، أو استعلاؤها، على زوجها بالتمرد والمخالفة وسوء المعاملة.
وهذا التعميم مردود، لكونه شيئا غير محدد وغير منضبط، مما يجعل الضرب مستباحا في كل وقت وحين ولأي سبب. وهذا لا يقول به أحد، وهو خلافُ منهج الشرع الذي يُنيط الأحكام بأسبابٍ وعِلل محددة منضبطة، ولا سيما فيما يكون مثارا للتنازع والشطط.
وتفسير النشوز في الآية بالمعنى اللغوي العام، هو كمن يفسر لفظ “الغائط” في قوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ…} بمعناه اللغوي، وهو المكان المنخفض من الأرض، وكلا المعنيين متجاوَز بالاستعمال العرفي والاصطلاح الشرعي الخاص…
وأما المعنى الخاص للنشوز، وهو الذي أقول به، فهو امتناع الزوجة من مضاجعة زوجها، ومن الاستمتاع المشروع بينهما. أي امتناعها من الجماع وما يندرج فيه. وبهذا المعنى الخاص قال عدد من المفسرين وعلماء السلف.

قال الإمام الطبري: “وأما قوله:(نشوزَهن)، فإنه يعني: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلافِ عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضا منهن وإعراضا عنهم”.
وقال أيضا: “المرأة المَخُوفُ نشوزُها، إنما أُمِر زوجُها بوعظها لتُنيبَ إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: “فإذا أطاعته في المضجع، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته”.
وعن مجاهد قال: “ذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، يقول لها: “اتقي الله وارجعي إلى فراشك، فإن أطاعته، فلا سبيلَ له عليها”.
وهاهنا أمر ذو بال؛
وهو أن “الخوف من النشوز”، ليس المراد به الخوف من وقوعه، وإنما هو الخوف من تداعياته بعد وقوعه والتمادي فيه. وهذا ما نبه عليه العلامة ابن عاشور بقوله: “ومعنى (تخافون نشوزهن): تخافون عواقبَه السيئة. فالمعنى أنه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميمِ عليه، لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال، فإن ذلك قلما يخلو عنه حال الزوجين، لأن المغاضبة والتعاصي يَعْرضان للنساء والرجال، ويزولان…”.
ومما يؤكد صوابية قول ابن عاشور: أن الشرع لا يؤاخذ الناس ولا يعاقبهم على شيء لا يزال في طور التخوف والتوقع..
وأما عواقب النشوز التي تخشى، وخاصة مع الإصرار عليه والاستمرار فيه، فيدخل فيها:
1. استمرار التصدع والشقاق وفساد الحياة الزوجية والكيان الأسري،
2. احتمال الوصول إلى الطلاق،
3. احتمال نشوء تصرفات وعلاقات غير شرعية للزوج المحروم من زوجته ورعبته فيها. فإغلاق باب الحلال يدفع نحو باب الحرام..
4. وربما تكون الزوجة نفسها ذاتَ تطلع وتشوف خارج العلاقة الزوجية القائمة، فيكون استمرار النشوز مقويا لها، أو ربما كان النشوز نفسه ناشئا عن مثل هذه التطلع والتشوف..
وكل هذا أو بعضه قد ينجم عن نشوز الزوج أيضا، فالواجب عليه شرعا أن يتجاوب مع الرغبات الطبيعية لزوجته قدر المستطاع. ولكن من المعلوم أن الرغبة الجنسية عند الرجل وحاجتَه إلى تلبيتها، هي أشد ضغطا وإلحاحا واستعجالا، مما عليه حاجة المرأة إلى عشرة الرجل. والرجل إذا لم تكن له رغبة في الجماع، فإنه يكون عاجزا عنه، بخلاف المرأة..
المسألة الرابعة: الآية بين إباحة الضرب ومنعه
يظن كثير من الناس أن الآية الكريمة هي التي شرعت ضرب الزوجات، وهي سبب شيوعه بين المسلمين. وهذا باطل من جهتين: من داخل الآية، ومن خارجها.
• أما من خارج الآية فبرهانه:
– أن تعنيف الزوجات – والنساء بشكل عام، سواء كنَّ زوجات أو عشيقات أو صديقات – منتشر عند المسلمين وعند غير المسلمين. فمن أين جاء الضرب والتعنيف عند غير المسلمين؟
– أن ضرب الزوجات كان شائعا مألوفا قبل الآية وقبل الإسلام، وإنما جاءت الآية لوضع الدواء، لا لنشر الداء.
– أن الذين يضربون زوجاتهم من المسلمين كثير منهم لا يعرفون هذه الآية، أو لا أثر لها في تصرفهم، أو لا تخطر لهم على بال، حين المبادرة إلى تعنيف زوجاتهم.
– أن أكثر من يضربون زوجاتهم هم من غير المتدينين، وليس العكس. بل إن المتدينين هم أبعد الناس عن هذا المسلك..
• أما بطلانه من داخل الآية، فبيانه:
أن المعتاد – عند أهل الضرب من الرجال – هو أنه متى وقع النزاع والمغاضبة، أو الغلط من الزوجة، يعمد الزوج مباشرة إلى ضربها كيفما اتفق.
أما الآية الكريمة فأرشدت – في حال قيام النشوز وخوفِ عواقبه – إلى ثلاث خطوات حكيمة متدرجة:
– أولها الوعظ والنصح،
– وثانيها الهجر في المضاجع،
– وثالثها الضرب.
والحقيقة أن هذه الخطوات الشرعية هي عبارة عن حواجز وموانع صارفة عن الضرب، لمن نظر فيها والتزم بها. فهي وصفة علاجية لعادة الضرب والعنف.
فأُولى الخطوات وأنفعها: الوعظ، وهي خطوة تتضمن النصيحة اللطيفة والموعظة الحسنة والحوار والتذكير بالتي هي أحسن، والترغيب والترهيب، والتحذير من العواقب… وهذه الأساليب كلها تدخل في قوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} [فصلت: 34]، ولذلك فنتيجتها المرجوة قلما تتخلف عنها، فلا يُحتاج إلى ما بعدها. فكل من دفع بالتي هي أحسنُ – حقيقةً – لا بد واصلٌ إلى النتيجة المذكورة في هذه الآية.
ولكن إذا لم ينجح هو في ذلك، ولم تتجاوب الزوجة الناشز مع (التي هي أحسن)، فحينئذ يمكن الانتقال إلى نوع من الضغط النفسي المكمِّل، وهو التعبير عن الغضب والتبرم، بالهجر والإعراض.
عن الضحاك قال: “… والهُجران: أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويولّيها ظهره ولا يكلمها”.
وهذه الخطوة تشكل إنذارا للزوجة من جهة، ومن جهة أخرى هي تهدئة وكبح للزوج عن المسارعة إلى التعنيف.
فإذا لم تنفع هذه الخطوة الثانية، المضافةُ إلى الخطوة الأولى، أمكن الانتقال إلى الضرب، ولكن ما هو هذا الضرب؟ الجواب هو:
المسألة الخامسة: ما هو الضرب الوارد في الآية؟
إنه الضرب الشرعي، الذي يحول دون الضرب العرفي. أو هو الضرب الرمزي، الذي يحول دون الضرب الحقيقي.
وفيما يلي بعض التعريفات والمواصفات للضرب المقصود في الآية، من خلال الأحاديث والآثار وبعض أقوال السلف:
عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: “يطعمها، ويكسوها، ولا يضربِ الوجه، ولا يقبِّحْ، ولا يهجُرْ إلا في البيت”.
وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: «ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» قَالَ: السِّوَاكُ وَنَحْوُهُ”.
وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قُلْتُ لِابن عَبَّاسٍ: مَا الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ؟ قَالَ: «السِّوَاكُ وَشِبْهُهُ، يَضْرِبُهَا بِهِ». والضرب بالسواك هو كمن يضرب بأصبعه..
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، غَيْرَ مُؤَثِّرٍ».
وعَنْ قَتَادَةَ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] قَالَ: «تَهْجُرُهَا فِي الْمَضْجَعِ. فَإِنْ أَبَتْ عَلَيْكَ فَاضْرِبْهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ أَيْ غَيْرَ شَائِنٍ».
وغير خاف أن “الضرب” بهذه الشروط والمواصفات لا يمكن أن يكون ضربا مؤذيا ولا ضارا ولا مؤلما. وعلى كل حال، فليس هو الضرب “الجاري به العمل”.
فلم يبق إلا أن يكون مجردَ تعبير عن تعلق الزوج بزوجته، والرغبة فيها، والعتب عليها، والغضب من تصرفها، وأنه لا يبغي بها بديلا..
وهذا “الضرب” – لا شك – هو أفضل وأصلح من التوجه إلى أي تصرف يفسد الحياة الزوجية أو ينهيها، عند أول تنافر وتوتر، أو نشوز من الزوجة.
ويجب أن يُعلم أن إقامة الحياة الزوجية ودوامَها، وأن إقامة الأسرة ونجاحَها، لا تتحقق بمجرد العشق والغرام، ودوام الوفاق وكثرة العناق، وإنما هو مسؤولية وتحمل، وتضحية وتصبر، وتسامح وتعايش..
المسألة السادسة: التطبيق النبوي للآية لا ضرب فيه أصلا
لا ينازع مسلم في أن أفضل تفسير وأرقى تطبيق للقرآن الكريم هو ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تزوج هذا النبي الكريم عشر نساء، لأسباب وأغراض متعددة، ومن أعمار وصفات مختلفة، وعاش معهن ظروفا وأحوالا متنوعة، بحلوها ومرها، على مدى زمني يقارب أربعة عقود، فما مست يده الشريفة أيّاً منهن بضرب ولا أذى أبدا. وها هي إحدى زوجاته – السيدة عائشة رضي الله عنها – تروي لنا وتقول: “ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل”.
وهذا الهدي النبوي الرفيع هو ما جعل الفقيه الحنبلي ابن الجوزي يقول بعد حديثه عن النشوز والضرب: “وليَعلم الإنسان أن من لا ينفع فيه الوعيد والتهديد، لا يردعه السوط. وربما كان اللطف أنجح من الضرب”.
فمن كان متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يضرب أبدا.
ومن كان ناظرا إلى الآية، فليعول على أولها، وهو الوعظ والدفع بالتي هي أحسن. فذلك يغنيه عما بعده..
وأما من يطبقون الآية معكوسة، فيبدؤون من آخرها، ثم يضربون ضرب الجاهلية الأولى، فأولئك مع الذين {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46].

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M